مقالات

لحظة أدونيس في الرياض* بقلم محمد جميل أحمد

بقلم محمد جميل أحمد

لحظة أدونيس في الرياض*
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
محمد جميل أحمد
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

حين قال الناقد السعودي سعيد السريحي، مُرَحّباً ومُعَقِباً على محاضرة أدونيس في الرياض بعنوان: “الشعر والحياة”: لكل الشعراء العرب وطنين؛ وطنهم الأول، ووطنهم الشعري، وهو الوطن الذي نحتفي فيه بأدونيس اليوم. هل كان السريحي من خلال الحديث عن رمزية (نجد) يشير إلى غياب أدونيس عن المكان؟ أم أن الملابسات التي كانت تضع أدونيس ضمن قائمة ” الشخصيات المحرَّمة ” على المكان في قاموس ثقافة الصحوة، لعقود طويلة، بدت هي الوجه الآخر للامتناع الذي تأخرت به لحظة وصول أدونيس إلى المكان بعد زمن طويل من الغياب؟
ومع ذلك، يمكن القول أن زيارة أدونيس للسعودية تشكل مفارقةً رمزية للمعنى والمكان الشعري الذي طالما أسس نسَبَاً عربياً عريقاً لشاعر كبير كأدونيس يدرك تماماً دلالة المكان حيال هويته الشعرية العالمية.
وإذا ما أردنا أمثولة للحظة أدونيس في الرياض، بدلالاتها المتعددة فلن نجد أغنى من التأمل في هذه المفارقة البليغة لمعنى وجود أدونيس في نجد (الرياض) لمرة أولى، بل يمكننا القول أن هذه اللحظة الفارقة كانت بذاتها حدثاً ثقافياً فريداً لأنها عبرت عن أدونيس بأكثر من تأويل.
لقد كان التجريد بذاته في عنوان محاضرة أدونيس بالرياض: “الشعر والحياة” مناسبة لفتح أسئلة حول الاقتراحات التي شكلت تجربته في الشعر والحياة عبر مساره الطويل. ربما لا يكون جديداً ما انتهى إليه اليوم أدونيس في زمن تجاوزت فيه حياتنا المعاصرة – ما بعد التسعينات- أكثر من معنى، منفتحةً على أزمنة جديدة، لكن المهم هو معنى أدونيس: رمزاً، وريادةً، وذاكرةً، وأفقاً مفتوحاً على التجريب الذي لايزال يتعلم منه الرجلُ الكثيرَ وهو في العقد التاسع من عمره!
هل كانت زيارة أدونيس للرياض، في تعبير ما، عودة إلى حنين الشعر الأبدي لجزيرة العرب، هل عاد أدونيس فيزيائياً هذه المرة، ليتحقق من أن عوداته الرمزية إلى آبائه العظام من شعراء جزيرة العرب لم تكن سوى تحقق آخر لا يلغي المكان؟
إن زيارة أدونيس التاريخية للرياض اليوم، لا تستدعي من المهتمين تأملاً في خلاصة تجربة طويلة في الشعر والفكر والحياة فحسب، بل كذلك فرصة لمحاورة مثقف أثارت معرفته الموسوعية بالتراث والحداثة الأدبية كثيراً من الإشكاليات في قراءته وتأويله، وهي إشكاليات لطالما ترددت على أدونيس بردود فعل كثيرة في كتب وآراء لنقاد عرب، ظل الرجل غير معني بالرد عليها، إلا فيما تفرضه مناسبة مُؤَسِسَة للحوار معه في منابر الاحتفاء والتقدير، حيث يمكن أن يحاوِر ويُحَاوَر. وبهذا المعنى؛ نتصور أن وجود أدونيس في الرياض هو امتياز لمناسبة حوار جماعي مع الرجل حيال الكثير مما أثاره وعبر عنه في الشعر والفكر والحياة.
وإذا ما بدا اليوم ثمة من يرى أن أدونيس قد توقف عن الجديد، أو قد أنهى مقولاته فإن ما كشف عنه الرجل خلال المحاضرة التي قدمها – واقفاً على رجليه – هو مما لا يمكن إدراكه إلا بملاحظة واقع حال بدا فيه أدونيس أكثر حيوية واحتفاءً بالشعر والحياة حيث كان درس أدونيس في الرياض؛ تجديداً للثقة بالأمل والمستقبل، لأن الاحتفاء بالشعر كقرين أبدي للطفولة والدهشة والأسئلة والخلود يمنحنه هويةً لايزال أدونيس يتهجى أبجديتها !
كانت دلالة التجريد في عنوان المحاضرة رمزاً لكينونة أدونيس المتعددة الوجوه والمرايا، فقد جاء أدونيس ليقول: أن درس الحياة هو ذاته درس الشعر، وأنه لايزال يتعلم من الحياة والشعر. وبذلك التجريد المتصل بمطلق الشعر وبمطلق الحياة تنفتح أسئلة كثيرة حول الوجود والقيمة والمعنى الذي تضمره تجربة أدونيس.
إن لحظة أدونيس في السعودية، التي تعيش زمناً جديداً، لا تعكس شبهاً بأي لحظة مماثلة في مكان آخر، فحين يأتي أدونيس للسعودية في هذا التوقيت إنما يأتي كرمز يجر وراءه إرثاً كبيراً وتاريخاً من الجدل والتمثيلات المتعددة، فهو إذ يحضر لأول مرة في زمن استثنائي للسعودية فلاشك أن وجوده فيها يضمر معياراً تكوينياً لسيرة شعرية وفكرية تقلبت أطوارها في التجريب والتمرد والقطيعة!
فمنذ أن راهن أدونيس على الشعر بحسبانه رؤيةً ومعرفةً وتمرداً، ظل فكره الذي انعكس في شعره مثيراً للجدل حول قضايا: التراث، والحداثة والمعرفة، والوجود، والتاريخ العربي والنص الديني في كل ما يتصل بالزمن العربي الراهن. فأدونيس الذي تتقاطع في ذاته حدود الشعر والفكر ( إذ الشعر بالنسبة له ضرب من ” الفكر العادل” ، كما تقول زوجته الناقدة خالدة سعيد) برر مواقف إشكالية، نبعت من لحظة اغتراب عن العالم الحديث ورغبة في تغيير أزمنة عربية راكدة.
. ذلك أن هوية الشعر عند أدونيس، فيما هي تنتج معرفةً، لا تخلو أبداً من أن تكون هوية إشكالية بالضرورة، لأن الشاعر بإزاء المعرفة ليس محايداً، ولعل هنا يكمن المنحى الإشكالي لفكر أدونيس وشعره.
وبهذه التجربة الوجودية المعرفية لايزال أدونيس يمثل موقفاً وتاريخاً وريادةً ورمزاً مثقلاً بالكثير مما يستدعي الجدل ويولد الأسئلة في الحوار معه حول القضايا الإشكالية.
لربما اقترحت لحظة أدونيس في الرياض مناسبة تاريخية نادرة لحوار واعد بينه وبين رموز الأدب والثقافة في السعودية، إذ أن في ما تحققه لحظة الحوار الثقافي تلك مع أدونيس في الرياض ما يكشف عن فرص حقيقية لفهم عميق ومركب قد يضيف ويتقاطع مع خلاصات مهمة لمواقف الرجل.
بيد أن ما كشفت عنه محطة أدونيس – في الرياض على الأقل – لم تشهد ما استحقه أدونيس من حضور واصغاء غابت عنه رموز ثقافية سعودية بارزة توقعنا أن تكون نجوماً في الليلة الأدونيسية، من أمثال د. عبد الله الغذامي – محمد العباس – د. سعد البازعي، فيما غاب الشاعر السعودي الكبير محمد العلي لأسباب صحية. الأمر الذي فوت على الثقافة السعودية لحظة حوارية تاريخية غير مسبوقة حول ميراث أدونيس الثقافي في هذه اللحظة تحديداً.
ولحسن الحظ، لاتزال هناك أكثر من محاضرة ولقاء لأدونيس في مدن سعودية أخرى مثل؛ الطائف – جدة – العلا، خلال الأيام المقبلة، لعلها تشهد تحققاً لذلك الحوار المفترض والمستحق مع قامة أدبية وشعرية مثل أدونيس الذي ظل باستمرار أحد كبار شعراء العالم المرشحين لجائزة نوبل للآداب.
أدونيس الذي عرف بدفء مشاعره الإنسانية وصداقاته العميقة، وصف زيارته للسعودية بالقول: ” أنا سعيد جداً لدرجة أنني لا أعرف كيف اصف هذه السعادة” كان قد ذكر معنى جديداً أثناء محاضرته في الرياض بعنوان : ” الشعر والحياة ” حين قال: “إن حاجة الغرب إلى العرب اليوم هي أكثر من حاجة العرب إليه” فهذه المقولة الجديدة في قاموس أدونيس جديرةً بإدارة حوار يتصل بمضمونها من زوايا عديدة!
جاء أدونيس، أخيراً، إلى السعودية ليسيل جدلاً وحبراً حول زيارته التاريخية بين معارض ومؤيد، جدل يستدعي فيه الطرفان سرديات متمانعة ومغالطات منطقية لا تصلح للقياس سوى أنها تضمر تعبيراً عن استقطاب عدمي لا ينبته إلى أن هناك مياه كثيرة جرت تحت جسر التغيير والانفتاح الذي تشهده المملكة العربية السعودية لتضع كثيراً من المقولات الحدية حول الأشخاص والأشياء في خانة زمن قديم مضى ولن يعود !
………………………………………………………………………..
* مجلة اليمامة العدد – ٢٧٥٣ الخميس ٣٠ / ٣ / ٢٠٢٣م

رابط المقال في عدد اليوم من مجلة ” اليمامة ” السعودية👇

http://www.alyamamahonline.com/ItemDetails.aspx?articleId=14110

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب