مقالات

تصنيف دراسات الأقلمة

تصنيف دراسات الأقلمة

نادية هناوي

كان لمنهج الأدب المقارن أو الدراسات المقارنة دور كبير في شيوع فكرة أن الآداب، وإن كانت متغايرة تاريخيا وسياسيا وحضاريا، فإنها لا تتفاوت في عوامل تكوينها الثقافي، لكونها جميعا في حالة أخذ وعطاء، فهي تؤثر وتتأثر، وليس من زارع أول هو أصل، ولا من حاصد لاحق هو تابع، إنما هي تفاعلات ثقافية جرت بين الأمم قديما، وتجري بينها حديثا. بيد أن دراسات الأقلمة زعزعت موثوقية تلك الفكرة من خلال سعيها إلى توسيع ميادين بحثها، فوجدت أن البون كبير بين أن تكون عملية التأثر حصيلة منطقية للتأثير، وأن يكون التأصيل عملية منطقية تؤدي إلى ولادة التقاليد، التي برسوخ ما تفرعت عنه من قاعدة ونظام، تكون قادرة على أقلمة نفسها مع بيئات أدبية قريبة أو بعيدة، وبأزمان تقصر أو تطول.
وفي السرد العربي القديم تقاليد خاصة انتقلت إلى آداب الأمم القديمة المجاورة والبعيدة بوسائط تداولية مختلفة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول غير مباشر شفاهي عن طريق التجار والمسافرين، الذين نقلوا قصصا سمعوها وحفظوها كي يسردوها عند عودتهم على مواطني بلدانهم، والآخر مباشر كتابي من خلال الترجمة الأدبية لمدونات قصصية تأخذ شكل كتاب مستقل. وعلى الرغم من محدودية هذه الوسائط في العصور القديمة والوسطى، فإن دورها كان كبيرا في نقل التقاليد الأدبية من أصولها التي نشأت فيها إلى مناطق أخرى، ومن ثم بُنيت عليها أو تفرعت منها أساليب وأنماط جديدة، أغنت الآداب وطورتها. ومهما كانت بساطة وسائل التواصل وبعد المسافات واختلاف اللغات، فإن مركزية الحضارة الإسلامية ساهمت في أن تستمر تقاليد الأدب العربي بالانتقال والهجرة إلى شتى بقاع العالم، لا تأثرا وتأثيرا حسب، بل تأسيسا لقواعد أصيلة، امتدت وتوسعت، وفق ما يناسب خصوصيات آداب الأمم الأخرى. وأعطت عملية التمدد هذه للأدب العربي سمة الأصالة، التي هي علامة من علامات عالميته، سواء في ما يملكه من تأسيس، أو في ما يتمتع به في الآن نفسه من قدرة على أقلمة نفسه مع غيره.
وقد يذهب الظن إلى أن التقاليد فاعلية نصية، تتحدد بقراءة سايكرونية وليس لها بعد دياكروني له علاقة بالتاريخ والمجتمع، وإنما تتحكم فيها عمليات القراءة وتنوع القراء، كما رأى رالف كوهين الذي قال: (إن محاولة الدفاع عن هذه التقاليد لن تؤدي بنا إلا إلى آراء مختلفة حول تقاليد القراء) وهذا وصف عمومي يلغي ما في التقاليد من سمات محددة بمقومات ومؤثرات أو تفاعلات، فالتقاليد بذور صالحة للاستنبات في مختلف البيئات الأدبية، على مر العصور، لتنمو منها نصوص تتباين حسب طريقة انتقالها من أدب إلى أدب. وليست كل الآداب مالكة للتقاليد ولا كلها تتمتع بالأقلمة، وإنما هي تلك التي تملك الأصول التي تنشأ من قاعدة ثابتة وتكون قابلة للتطوير والترسيخ. ومن يملك القاعدة فهو مصدر أصيل يمكن أن يؤخذ منه على الدوام، وهذه هي (العالمية) التي هي حصيلة تاريخ طويل وامتداد جغرافي كبير وعلاقات وتفاعلات ثقافية متواصلة ووجود حضاري ذي حواضن سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية متينة تمنح الأدب مزيدا من التفاعل، الذي به يؤكد عالميته. وإذا كانت للأقلمة وسائطها المتمثلة بالسفر والتجارة والترجمة، فإن إنكار صفتها، أو استغفال دورها في أدب من الآداب هو بمثابة مصادرة لعالمية ذاك الأدب، واستيلاء على تقاليده، واستهانة بخصوصيات ما فيه من إرث إبداعي وملكيات فكرية.
وصحيح أن دراسات الأقلمة مؤشر مهم على انحسار الفكر الاستشراقي الذي عمل على تأكيد تفوق الغرب الاستعماري، ليحل محله فكر ما بعد استشراقي، يقوم على التنوع والتعدد والانفتاح والاندماج على مختلف الأصعدة، وأهمها صعيد التكنولوجيا والعلوم السبرانية، بيد أن الهدف من وراء ذلك ليس مشاطرة الآخر غير الغربي، التفوق العلمي، أو التساوي معه في الإمبريالية الثقافية، بل الهدف هو استمرار الهيمنة الغربية على العالم. وما بين عولمة العالم والسيطرة العلمية عليه، تكون مسألة تأسيس الأدب الغربي لقواعد (حضارية) أمرا متوقعا حصوله مستقبلا، وعندها يستطيع أن يملك تقاليده الأدبية الخاصة، ويصدرها من ثم إلى الآداب الأخرى. وهذا ما تسعى دراسات الأقلمة إلى بلوغه بدليل توجهها المدروس منذ أكثر من عشرين عاما نحو أقلمة الآداب الهومرية القديمة والآداب الأوروبية الكلاسيكية والحديثة بمستحدثات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كأفلام وألعاب ورسوم متحركة وتطبيقات أخرى متنوعة في أشكالها وبرامجها.

تعمل دراسات الأقلمة على تأكيد أصالة وخصوصية ما في الأدب الغربي من تأقلم مع الصناعة التكنولوجية المتقدمة من جهة، ومن جهة أخرى الانفتاح بهذه الصناعة على الآداب غير الغربية عبر إقامة شراكات بحثية وثقافية فردية وجماعية، مع ثقافات وحضارات عريقة كالصينية واليابانية التي كانت قد أسست تقاليدها الخاصة منذ قرون خلت.

وإذا كان تداخل التخصصات والدراسات العابرة وعلوم الفريق، قد سعت إلى ملء الفجوات المعرفية، فإن دراسات الأقلمة احتوت ذلك كله، بوصفها خلاصة تلك المساعي الموجهة نحو تعزيز عالمية الأدب الغربي التي بها يصبح متعددا ثقافيا ومؤسسا أصيلا لقاعدة عليها تقوم تقاليده الخاصة. وتعمل دراسات الأقلمة على تأكيد أصالة وخصوصية ما في الأدب الغربي من تأقلم مع الصناعة التكنولوجية المتقدمة من جهة، ومن جهة أخرى الانفتاح بهذه الصناعة على الآداب غير الغربية عبر إقامة شراكات بحثية وثقافية فردية وجماعية، مع ثقافات وحضارات عريقة كالصينية واليابانية التي كانت قد أسست تقاليدها الخاصة منذ قرون خلت. وبالفعل تمكن الباحثون في مجال دراسات الأقلمة، من بناء أرضية تعددية تجعل الآداب الغربية تفيد من العمق التاريخي الذي تملكه الآداب الشرقية، لكنها في الاتجاه المغاير أعادت الاعتبار إلى عراقة هذه الآداب التي غيبت شمسها موجاتُ الاستعمار بأنواعه العسكري الاستيطاني أو الاقتصادي التكنولوجي ذي الطابع الناعم والسيّال. وبناء على ما تقدم تُصنّف دراسات الأقلمة صنفين: الصنف الأول غربي وغايته الإفادة من التطور الكبير في وسائط التفاعل الرقمي وبرمجيات التواصل الذكية، لتقديم طروحات جديدة فيها يكون الأدب الغربي مؤقلما شعرا وسردا وذا تقاليد تضعه في مصاف الآداب الشرقية، فتترسخ من ثم فكرة تفوق العقل الغربي. والصنف الثاني شرقي غايته تقديم طروحات جديدة تؤقلم السرد بالشعر والتاريخ والفلسفة واللغة والفلكلور والترجمة.

وكثيرة هي الأبحاث التي تمثل الصنف الأول، وأغلبها يصب في باب أقلمة السرد بالتكنولوجيا، ومن ذلك الدراسة المعنونة (كشوفات التفسير السردي والأقلمة: من أجل قصة تفاعلية) لأولريكا سبيرلينج وستيف هوفمان من جامعة العلوم التطبيقية في ألمانيا. وفيها سعى الباحثان إلى أقلمة التكنولوجيا السينمائية بقصص همنغواي القصيرة، ودراسة كيفيات تحولها إلى قصص تفاعلية، وتحليل التغيرات الإبداعية التي تتركها الأقلمة على كل قصة، شكلا ومحتوى، وأثر هذه التغيرات في التفسير السردي لتلك القصص. وتوصل الباحثان إلى استحالة أن يكون التفسير السردي للقصص التفاعلية مماثلا لها حين كانت منشورة في كتاب مستقل لمؤلف أول هو القاص هنمغواي، وأن منشئ القصص التفاعلية هو المسؤول عما يمكن له أن يصممه في بنية القصة الأصلية من جديد على مستوى التقنيات الفنية أولاً، وثانيا على مستوى التنفيذ العملي لتلك التقنيات، وثالثا على مستوى مشروعية استبعاد بعض عناصر القصة واستبدالها بأخرى.
وبالأقلمة يكون المتحصل قد حفظ للأصل أسبقيته وأكد تقليديته، بمعنى أن التكنولوجيا مهما طورت (الأصل) الذي هو النص السردي، بما تملكه من وسائط متعددة ومجالات تفاعل مشوقة ومتنوعة، فإن ذلك الأصل لن يتهجن أو يتفتت أو يضيع، بل هو بأصالته قادر على المحافظة على كينونته أولا، وقابل لتطوير تقليديته آخرا. ومثل هذه الدراسة كثير، وهو أمر طبيعي نظرا لما في الغرب من مهيئات إنتاج أدب تفاعلي أساسه تكنولوجيا فائقة الذكاء.
ومن الأبحاث التي تمثل الصنف الثاني من دراسات الأقلمة، ما قدمه الصينيان بيو شانغ ودان شين والياباني نان ما هارتمان، من دراسات في هذا الصدد تؤقلم السرد بالتاريخ بالدرجة الأساس. وليس خافيا ما يملكه الأدبان الصيني والياباني من بعد حضاري وعمق ثقافي، يجعلهما مؤقلِمين بقوة ونماء. ويعد شانغ من أكثر الباحثين تحمسا للأقلمة ووافق في دراسته (نحو علم السرد المقارن: منظور صيني) 2017، دعوة سوزان ستانفورد فريدمان إلى العبور بالنظرية السردية خارج الحدود الوطنية، لافتا الانتباه إلى أهمية تغيير فهمنا لـ(المقارنة) داخل دراسات الأقلمة، وطرح في هذا الصدد ثلاثة أسئلة هي: لماذا نقارن، وماذا نقارن، وكيف نقارن؟ وتوقع أن يؤدي علم السرد المقارن إلى تطوير النظرية السردية، بشكل يمهد الطريق لظهور رؤى جديدة كانت مهملة أو هامشية. وبصرف النظر عن طبيعة المنظور الصيني الذي يقدمه شانغ لعلم السرد المقارن، فإن المهم ذكره هنا هو مراهنته على السرد غير الطبيعي في أن يكون مجالا كبيرا لتطوير علم السرد الصيني، بخصوصية ما تمثله اللاطبيعية فيه من تقانات وأساليب، وظفت داخل قصص الأشباح والجنيات والموتى.

كاتبة واكاديمية من العراق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب