مقالات

الإنسان المعاصر في عصر الذكاء الاصطناعي

الإنسان المعاصر في عصر الذكاء الاصطناعي

نور الدين ثنيو

الواقع أن الإنسان في حياتنا المعاصرة صار يدرك إنسانيته أكثر من ذي قبل، ويعمل على ترقيتها بالقدر الذي يحصل على المركز القانوني والسياسي والاجتماعي اللائق به، كمواطن في بلده، وكمواطن برسم إمكانية انتقاله إلى بلدان وأقاليم أخرى، توفر له ما هو أفضل وأحسن، ولعلّ التَّقانة الرائعة هي التي تساعده على ذلك.
على خلاف ما يرى البعض، فإن رؤية فلسفية وشاملة للوضع أو الشرط الإنساني اليوم، تؤكد لنا الحقيقة التالية وهي، أن الإنسان الذي أبدع الذكاء الاصطناعي لا يني يكتشف نفسه عبر الامتداد والحفظ العلمي والمعلوماتي والوثائقي، خاصة منه الإلكتروني والسيبراني. والمقصود بالامتداد هو أن الذكاء الاصطناعي امتداد للذكاء الإنساني، وليس آلة مستقلة بذاتها ولذاتها، والمقصود بالحفظ العلمي والمعلوماتي والوثائقي، خاصة منه الإلكتروني، هو أن كل شارد ووارد في دنيا الناس والأشياء محفوظ في مراكز ومكانز ومخازن، لا يضيع إطلاقا، تماما كاللوح المحفوظ الوارد في القرآن الكريم، الذي على أساسه يحاسب البشر عن أعمالهم البينة والموثقة.
فالصلة بين ما يفعله الإنسان وما يحدث له، صلة قوية ومتينة جدّا، تتطلب درجة عالية من الوعي والإدراك، وأن تفريطا أو إغفالا لهذه الصلة سوف يفضي لا محالة إلى كوارث وفواجع وأزمات يصعب التحكم فيها، ولعلنا في هذا الزمن الذي نتحدث فيه وعنه، هو الذي يؤكد لنا أننا لا نتوقف عن الحديث عن الأزمة، وكيف يمكن أن نتجاوزها أو نحلها. فكل البرامج الحزبية والمشاريع الحكومية ومخططات وبرامج مؤسسة الدولة، بما هي سلطة للموالاة أو جهة معارضة، ترمي في المطاف الأخير إلى محاولة رأب الفرق بين الفعل وتداعياته عبر مراقبة ومتابعة إنسانية، حتى لا تفلت الأمور من السيطرة والتَّحكم. وصناعة الذكاء الاصطناعي هي صناعة متوالية ومتتالية في سبيل معالجة الأخطاء والهفوات والانحرافات، التي قد تقع لما خَطَّط له الإنسان. هذا جانب من جوانب الفعل البشري وما يقع بعده وما يقع لصاحبه أيضا، ضمن علاقة شبكية معقدة ومركبة، يجب أن لا يغفل عنها الإنسان مهما كان، داخل المؤسسة أو خارجها. وهناك جانب آخر يمكن أن نشير إليه في مسألة التواصل والتجاوب، مع نمط وقيم الجيل الذي ينتمي إليه الإنسان. فمفهوم الجيل يصدق على الناس والبشر، كما يصدق على الأجهزة والأدوات التقنية والتقانية، مثل أجيال الهواتف الذكية على دقتها وأنماطها وتنوعها. غير أن المسألة التي يجب أن تطرح هنا هي لماذا يتحكم جيل في جيل آخر، ولا يريد أن يترك الحكم، رغم تَغَيّر كثير من الحقائق والحالات وحتى المفاهيم والأفكار.

صناعة الذكاء الاصطناعي هي صناعة متوالية ومتتالية في سبيل معالجة الأخطاء والهفوات والانحرافات، التي قد تقع لما خَطَّط له الإنسان. هذا جانب من جوانب الفعل البشري

الغالب في الحروب والأزمات والانقلابات والصراعات، أنها تنجم عن غياب الحاكم الديمقراطي في عصر النظم الديمقراطية، ولشرح هذه المعضلة في لحظة التكنولوجيا الفائقة نرى أن الفعل الديمقراطي الذي أوصل صاحبه إلى الحكم هو الذي جرى تناسيه وإغفاله، بعد ممارسة الحكم والسلطة، أي التصدي لأثر وفعل الديمقراطية واغتياله من قبل من استفاد منه، ولعلّ تاريخ الأنظمة العربية في الزمن الحديث والمعاصر كافٍ ليقدم الدليل والمثال في الحكم المستبد وأنظمة الطغيان والعنف غير الشرعي.. فعصر الديمقراطيات يقتضي جيلا من الديمقراطيين يتحلّون بقيم النزاهة والقناعة، وحالة من الامتلاء المدني والحضاري والثقافي، كأفضل طريق إلى تقديم الاستقالة والاعتراف بالإخفاق والفشل وتيسير السبيل الى من هم أقدر وأكفأ وأحسن.
عصرنا الذي نعيشه هو تاريخنا المعاصر، أي زمن من ذاته، من اللحظة التي نجاريها ونساوقها في تَجَلّياتها ومُحَدّداتها كافة. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن العصر من المعاصر، زمن مشتق من طبيعته الراهنة، وكأننا وصلنا إلى آخر التاريخ ونطل على كل التاريخ السابق للإنسانية، وعلى ما صنعته من حضارات ومدنيات على اختلاف آدابها وعقائدها وفنونها وطرق ونمط عيشها وأساليب تعبيراتها الحياتية. فالعصر الذي نحياه هو ليس فقط حاصل ما عرفته وشهدته البشرية في السابق، بل ما نعيشه اليوم في لحظة فورية يتساوى فيها العصر مع المعاصر، فكلمة عصر تحيل إلى السياق الزمني والتاريخ، بينما كلمة معاصر تشير إلى الملازم والمحاريث للزمن الآني، كما يعيشه الإنسان في لحظاته الفورية وبالإيقاع والرَّتَابة نفسيهما. وهكذا، فإن اللحظة المعاصرة هي تلك التي يعبر الذكاء الاصطناعي والتقانة الفائقة عن أقصى مراحل التاريخ، أو آخرها لاعتبار ما وصل إليه الإنسان ذاته، حيث أبدع وصنع ذكاء اصطناعيا ممتدا له، وكأن الذكاء الإنساني شارف على نفاد قدرته الاستيعابية وطاقته التخزينية، وإمكانية الحفظ، الأمر الذي دفعه إلى خلق طاقة دينامية قادرة على مجايلة ومساعدة ومرافقة الإنسان في مغامراته وتطلعاته الرائعة. فالتقانة تحيل إلى الدراية العالية وتوفر أدوات وأجهزة السيطرة والإبداع، وإعادة تعريف الصناعات بما هي منتوجات، وبما هي كيفية إنتاج أي الإتقان على الطراز الفاعل والوجه الكامل. فالتقنيات والتكنولوجيات لها تاريخ تحكمه سيرورة الإتقان المتواصل، بحيث تراكم الخبرة إلى ما هو أفضل وأحسن. ومن هنا فنحن اليوم في زمننا المعاصر نقف على آخر الإنجازات والإبداعات ليس في مجالات وفضاءات معزولة، أو شبه مفصولة عن بعضها، لأنها كانت حضارات تتعاقب، بل لأن اللحظة المعاصرة المترتبة عن الحضارة الحديثة هي لحظة تتعايش فيها كل الحضارات والثقافات في حيز جغرافي واحد، هو الذي نطلق عليه اليوم الأرض، أو الكون أو العالم. ما يمكن أن نزيد في تفصيله وشرحه، هو أن الذكاء الاصطناعي على ما نعاصره، بكل ما أوتينا من قدرات نفسية وروحية وجسمانية وعقلية، ليس مجرد آلة بهيمية منفلتة عن عقال العقل والقلب والروح الإنسانية، بل هي توكيد لها في المجمل والتفاصيل، ويظهر ذلك لكل من امتلك الرؤية الفلسفية وتحلى بقيم الدين ونظم الأخلاق وأنماط السلوكيات الحضارية والمدنية والتطلعات الإنسانية الكونية.. فكل وسائل الإعلام والاتصال وأنواع الشاشات تضعنا مع أحداث العالم وحوادثه إن بالتفصيل أو بالمختصر المفيد والدال.
تلك هي حقيقة اللحظة التي نتواصل معها وعلى ما يصنعه الذكاء الاصطناعي الذي يعبر صراحة وضِمْنا عن نهاية تاريخ، ليس على ما كان يعنيه مثلا فوكو ياما، أي انتفاء الصراع بين الشرق والغرب، ونهاية المجابهة بين النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي، بل نهاية تاريخ في عصر الذكاء الاصطناعي، يحيل من جملة ما يحيل إليه، هو انتقال الإنسانية جمعاء وليس جهة معينة مما هو بشري محض، إلى ما هو صناعي وتقاني وتقني والتعامل مع المفاهيم بما هي معاني إجرائية، والتفكير في ما هو وطني في لحظة التفكير نفسها في ما هو عالمي، هذا الوضع الجديد هو الذي يضعنا في الزمن المعاصر، زمن كل الأزمنة وزمن اللحظة الفورية الآنية التي لا تريد أن تغادر التاريخ، بل تبقى دائما تعاند وتصر على وجودها في تجلياتها ومظاهرها كافة.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب