اقتصاد

هل يسقط الاقتصاد الأمريكي في فخ ركود طويل الأجل؟

هل يسقط الاقتصاد الأمريكي في فخ ركود طويل الأجل؟

إبراهيم نوار

تسيطر على العالم كله، اقتصاديا وجيوسياسيا، حالة من عدم اليقين والقلق بشأن استقرار الأوضاع في المستقبل القريب. هذه الحالة ليست مجرد شعور غامض وليست حالة مزاجية عند بعض الناس، ومنهم الخبراء، وإنما هي حالة تقف وراءها محركات قوية مزعجة، تجعل من القلق وعدم اليقين حالة عامة لن تزول إلا عندما يتضح مسار الأحداث في ثلاث قضايا رئيسية متشابكة. القضية الأولى هي مدى قدرة الاقتصاد الأمريكي على الخروج من نطاق تهديد استمرار التضخم والركود، وما يرتبط بذلك من متغيرات مثل نتيجة الانتخابات الأمريكية، وقرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة، والسياسة الضريبية وحوافز الاستثمار والقدرة على التجديد التكنولوجي. أما القضية الثانية فإنها تتعلق بمدى قدرة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو الاقتصاد الصيني على تحقيق معدل النمو المستهدف، الذي يبلغ 5 في المئة بنهاية العام الحالي، ومدى تأثير الحرب التجارية على فرص النمو في الصين والعالم، ذلك أن الصين شئنا أم أبينا هي مصنع العالم كله، وإذا وقعت في حالة ركود أو تباطأ نموها فإن ذلك من شأنه أن يترك أثارا واسعة النطاق على سلاسل الإمدادات العالمية، وفرص النمو في الشمال والجنوب على السواء. أما القضية الثالثة التي تمثل أحد محركات عدم اليقين والقلق في العالم فإنها بلا شك استمرار التوتر والتصعيد في الشرق الأوسط بسبب سياسة الاحتلال والتوسع الإسرائيلي التي تستهدف اساسا إبادة الشعب الفلسطيني، وإنهاء وجوده في وطنه، ومنع إقامة دولة فلسطينية. وإذا وصل التصعيد المستمر الذي دخل شهره الحادي عشر، فإنه قد يتحول إلى حرب إقليمية شاملة، في واحدة من أخطر مناطق العالم وأكثرها حساسية بسبب موقعها الجيوستراتيجي وأهميتها الاقتصادية، باعتبارها واحدا من أكبر مخازن الطاقة في العالم. هذا يعني من وجهة نظر البعض أن نشوب حرب إقليمية شاملة في الشرق الأوسط يمكن بسهولة أن يشعل شرارة حرب عالمية ثالثة. بل إن بعض الهمس في إسرائيل يدور حول ضرورة دفع التوتر حتى يشعل فعلا هذه الحرب.
وسط هذه القضايا الثلاث المتشابكة، يبدو العالم متخبطا، وتبدو السياسات الاقتصادية فاقدة لبوصلة موحدة لتحديد الاتجاه، مع تراجع النمو عن التوقعات، واستمرار القلق بشأن السياسة النقدية الأمريكية، وزيادة احتمالات تصعيد الحروب التجارية والتكنولوجية، خصوصا إذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، وانتشار اضطرابات اقتصادية واجتماعية في بعض بلدان أوروبا خصوصا فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وتزايد تأثير الفقاعة العقارية في الصين، واحتمال تعثرها في النصف الثاني من العام. ولهذا فإن صندوق النقد الدولي أعلن تخفيض توقعات النمو في العالم إلى 3.2 في المئة هذا العام وإلى 3.3 في المئة في العام المقبل، مقارنة بمتوسط عالمي في حدود 3.8 في المئة منذ بداية القرن الحالي حتى وقت ظهور جائحة كورونا. وقالت كريستالينا جورجييفا مدير الصندوق في كلمتها أمام قمة العشرين في البرازيل الشهر الماضي أن العالم الذي ينمو بمعدل منخفض هو عالم غير متكافئ وغير مستقر. وشددت على التحذير من أن استمرار الاقتصاد العالمي عالقا في حالة من التباطؤ، قد يوجه ضربة قوية لمكافحة الفقر وعدم المساواة. ومع أن الاقتصاد العالمي أظهر مرونة مشجعة في مواجهة سلسلة من الصدمات الأخيرة، مثل تلك التي نتجت عن الحرب الأوكرانية – الروسية في قطاعات الغذاء والطاقة والنقل البحري، ولم ينزلق إلى الانكماش كما توقع البعض عندما رفعت البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم أسعار الفائدة لاحتواء التضخم، فإن الصندوق قال إن العالم يواجه تحديات رئيسيا من أجل تجنب الوقوع في فترة طويلة من النمو الهزيل الذي يعمل على ترسيخ الفقر وعدم المساواة. وطبقا لدراسات الصندوق فإن فترات الركود التي تستمر أربع سنوات أو أكثر تميل إلى دفع التفاوت في الدخل داخل البلدان بنحو 20 في المئة – وهو أعلى بكثير من الزيادة بسبب الانكماش. ففي خلال فترات الركود، يؤدي تباطؤ خلق الوظائف ونمو الأجور إلى زيادة البطالة الهيكلية وتقليص حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي، وإلى توسيع الفجوة بين أولئك في أعلى وأسفل سلم الدخل.

المخاوف من استمرار الركود

وجه ديزموند لاخمان، وهو زميل أول في «معهد أمريكان إنتربرايز» وكان نائب مدير إدارة تطوير السياسات والمراجعة في صندوق النقد الدولي، ورئيس الاستراتيجية الاقتصادية للأسواق الناشئة في شركة سولومون سميث بارني، انتقادات شديدة إلى سياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وإلى رئيسه جيروم بأول. وقال في أكثر من دراسة أنه ليس من الغريب أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بالمزيد من الإجراءات في وقت متأخر للغاية عندما يتعلق الأمر بالسياسة النقدية. بل إن عددا كبيرا من الاقتصاديين الأمريكيين، ومنهم الاقتصادي المصري الأصل محمد العريان، يتهمون مجلس الاحتياطي، بأنه تأخر في رفع سعر الفائدة على الدولار في الوقت المناسب لكبح التضخم بعد ظهور آثار جائحة كورونا، عندما اعتبر باول في صيف عام 2021 أن ارتفاع التضخم في ذلك الوقت كان «مجرد ظاهرة عابرة لا تستدعي القلق»! وقد ثبت بعد ذلك أن هذا التقدير كان خاطئأ مئة في المئة. وقد اضطر الاحتياطي الفيدرالي بعد ذلك إلى رفع أسعار الفائدة 11 مرة بعد ذلك ليقفز سعر الفائدة من 0.25 – 0.50 في المئة إلى 5.25 – 5.50 في المئة بين ربيع 2022 إلى صيف 2023. وما يزال مترددا حتى اليوم في تخفيض سعر الفائدة، على الرغم من أن معدل التضخم انخفض بمقدار النصف. ووصف لاخمان الموقف الحالي للاحتياطي الفيدرالي بأنه تكرار للخطأ الذي ارتكبه قبل ذلك. وقال إنه على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى أن الاقتصاد يتباطأ، والتضخم ينخفض، فإن المخاطر السلبية التي تهدد التعافي الاقتصادي تتراكم الآن، وهو ما قد يعني أنه بحلول الوقت الذي يبدأ فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، سيكون قد تأخر لفترة طويلة لتجنب الركود.
بل إن دراسة لاخمان أشارت إلى مسؤولية مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن ارتفاع التضخم منذ 2021 حيث إنه في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأمريكي يتعافى بقوة، ويتلقى أكبر حافز ميزانية في زمن السلم على الإطلاق، فإنه حافظ على سياسة أسعار الفائدة الصفرية. واستمر في إغراق السوق بالسيولة من خلال شراء السندات. وكانت النتيجة الصافية زيادة في المعروض النقدي بنسبة 40 في المئة من بداية عام 2020 إلى نهاية عام 2021. وقد ساهم ذلك بشكل كبير في ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له في أربعة عقود عند أكثر من 9 في المئة، وظهور فقاعة سوق العقارات التجارية. ويتفق الخبراء على أن فقاعة سوق العقارات التجارية تمثل حتى الآن أحد مصادر تهديد النظام المصرفي الأمريكي، خصوصا مع انخفاض شهية المستهلكين للتسوق المباشر من المتاجر، وتفضيل التسوق عبر الإنترنت.
أحد مظاهر ضعف النمو الاقتصادي تظهر أيضا بشكل واضح في تباطؤ سوق العمل. فمنذ بداية العام الحالي، ورغم انخفاض التضخم فإن معدل البطالة لم ينخفض الا بنسبة ضئيلة تبلغ 0.6 في المئة فقط. وأكد تقرير سوق العمل للشهر الماضي أن الاقتصاد أضاف 114 ألف وظيفة جديدة فقط بينما ارتفع معدل البطالة إلى 4.3 في المئة، وهو أعلى مستوى له في السنوات الثلاث الماضية. ومن المؤشرات الأخرى على التباطؤ موكب الشركات الكبرى التي تحذر الآن من تباطؤ الطلب الاستهلاكي حيث يبدو أن الأسر الأمريكية استنفدت القدر الكبير من الدعم الحكومي الذي تلقته خلال جائحة كورونا. وفي الوقت نفسه، لا يبشر الركود الحاد في التصنيع بالخير للتوقعات الاقتصادية العامة. وفي الوقت الذي انخفض فيه التضخم إلى أكثر من النصف، ظل سعر الفائدة الذي ينتهجه بنك الاحتياطي الفيدرالي دون تغيير عند مستوى 5.25 في المئة. وهذا يعني أن المقترضين يسددون قروضهم السابقة بأموال تآكلت قيمتها بسبب التضخم. وهذا في حد ذاته يشكل سبباً آخر لخفض أسعار الفائدة في وقت مبكر. وطبقا لديزموند لاخمان فإن التاريخ لن يصدر حكما رحيما على بنك الاحتياطي الفيدرالي بقيادة جيروم باول إذا ما سقط الاقتصاد في حفرة الركود، بسبب تمسك الاحتياطي بسياسة نقدية متشددة.

الانتقال الهادئ
إلى نمو أسرع

وبينما يتوقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسه أن يحقق الاقتصاد تحولا هادئا غير مضطرب من الركود إلى النمو في الأشهر المقبلة، فإن عددا من مؤسسات الاستشارات الاقتصادية والمالية الكبرى مثل غولدمان ساكس، لا تبدي انزعاجا شديدا من تباطؤ النمو حاليا. وقد أصدرت المؤسسة تقريرا يطمئن المستثمرين بأن تأثير السياسة النقدية يأتي متأخرا بعض الشيء، حتى تمر عبر القنوات النقدية إلى الاقتصاد الحقيقي. وكان معدل النمو الاقتصادي الأمريكي قد تراجع في الربع الأول من العام الحالي إلى 1.4 في المئة فقط، مقارنة بمعدل 3.4 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي. لكنه أظهر قدرا من القوة في الربع الثاني بمعدل نمو يبلغ ضعف ما حققه في الربع الأول. ويتوقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن يبلغ معدل النمو السنوي هذا العام 2.1 في المئة. وقد رفع خبراء مؤسسة غولدمان ساكس تقديراتهم لاحتمال استمرار الركود إلى 25 في المئة فقط، من 15 في المئة، بعد اكتمال مؤشرات النصف الأول من العام الحالي، ويعتبرون أن فرص النمو ستكون أعلى إذا أقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي على تخفيض أسعار الفائدة من دون تردد في اجتماعه المقرر الشهر المقبل. ويعتقد أكثر من أربعة أخماس خبراء المال الأمريكيين أن المجلس لديه فرصة لتخفيض الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية، بينما يرتفع الطموح لدى البعض منهم إلى تخفيض بنسبة نصف نقطة مئوية مرة واحدة.
وفي كل الأحوال فإن قرار المجلس في الاجتماع القادم يجب، من وجهة نظرنا، أن يوازن بين ثلاث حقائق، الأولى هي معدل التضخم بالتأكد من عدم وجود قوى تضخمية كامنة تسبب تهديدا قريبا، والثانية هي معدل النمو بالتأكد من عدم الانزلاق الى انكماش أو ركود طويل الأجل، والثالثة هي الحاجة إلى انتقال سلس وهادئ من حالة الركود إلى النمو لضمان الاستقرار واستبعاد مخاطر الصدمات. لكن، وحتى مع افتراض خفض أسعار الفائدة، ونجاح تحقيق هدف النمو المتوقع بنسبة 2.1 في المئة، فإن الاقتصاد الأمريكي سيظل في حاجة إلى قوة دافعة لتحقيق معدل نمو أعلى يتجاوز 3 في المئة على الأقل، من دون ضغوط تضخمية للمساعدة على تخفيض العجز المزدوج المالي والتجاري، وتخفيض قمة جبل ديون الحكومة الفيدرالية التي وصلت الى 34.8 تريليون دولار في نهاية النصف الأول من العام الحالي، والانطلاق إلى مرحلة جديدة من التجديد التكنولوجي، خصوصا في الصناعات الرقمية وصناعات الطاقة الجديدة، والسيارات الكهربائية التي حققت فيها الصين تفوقا كبيرا خلال السنوات الخمس الأخيرة، بعد أن بدأت العمل فيها مبكرا قبل عشر سنوات تقريبا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب