تأريخ الثورة الكوبية (1953 ـــ 1962)
المؤلف: د. ليزالوتا كراما كاسكا
ترجمة: د. ضرغام الدباغ
عرض: د. حسين سرمك حسن
تاريخ النشر : 2016-12-04
إصدار: دار ضفاف (الشارقة/بغداد) للطباعة والنشر
” أيها الرفاق .. بدون فكر فأننا سنخسر كل شيئ، فنحن في غضون ساعات، يمكن أن ننتصر، أو نندحر، ولكن في جميع الأحوال فإن الحركة سوف تنتصر، فنحن إن انتصرنا فإننا سنفعل ما ناضل مارتي من أجله، وإذا فشلنا، فإن الشعب الكوبي سيتخذ من عملنا مثالاً، وسينهض شبان آخرون للقيام به، ويرفعون العلم وسيكونون مستعدين للتضحية من أجل كوبا……. الحرية أو الموت”.
كلمة لفيدل كاسترو في الأمسية التي سبقت الهجوم على ثكنة مونكادا
من الكتاب (ص 19)
“السجون تمتليء، ودائماً البشر يختفون، أو يغتالون، قد أصبح هنا أمراً يومياً، ودبلوماسي أوربي يقول : أنه لم يعد يستطيع النوم لأن مسكنه بالقرب من مركز للشرطة، ومنها يتناهى كل مساء صرخات البشر الذين يتعرضون للتعذيب”.
تقرير من هافانا لصحيفة الموند الباريسية. 31 / أيار / 1958
من الكتاب (ص 34)
بعد صدور هذا الكتاب المهم بأسابيع قليلة رحل المناضل العظيم “فيدل كاسترو” قائد الثورة الكوبية تاركا في القلب غصّة. فمن المؤكّد أن هذا الرمز المقاوم الهائل كان يمنح الأمل وقوّة الإرادة على مقاومة الشيطان الأمريكي الأكبر ليس في أمريكا اللاتينية وحدها بل في العالم أجمع. يكفيه أنه صمد في وجه أعتى وأقذر قوة شر في التاريخ وهي الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من خمسين عاما، وعلى الصعد كافة؛ عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومخابراتيا.
ويشاء القدر أن يأتي هذا الكتاب وحدث الرحيل الجلل بعد أن بدأتُ – ومنذ سنتين – بنشر سلسلة حلقات كتابي “موسوعة جرائم الولايات المتحدة الأمريكية” التي صدر الجزء الأول منها عن دار ضفاف أيضا قبل ايام بموقف غيور من صاحبها الصديق د. باسم الياسري. وقد ضم هذا الجزء من الموسوعة فصلا عنوانه : “أمريكا تجوّع وتقتل الشعب الكوبي منذ خمسين عاما من أجل الديمقراطية.. ثم تعفو عنه”، مشيرا إلى الزيارة “المِنّة” التي قام بها أوباما إلى كوبا، ومستعرضا تاريخ الاستعمار الأمريكي للجزيرة الذي مصّ دماء ابنائها وثرواتها، ومسيرة التحرير النضالية التي قادها كاسترو، ثم الصمود البطولي في وجه المؤامرات والحصار الأمريكي الاقتصادي الرهيب الذي شهد تخفيض المعونات الغذائية والطبية بنسبة 90%، كما شهد العديد من المحاولات الأمريكية في الهجمات الجرثومية اولكيمياوية على كوبا ومحاصيلها الأساسية بغية الإمعان في تجويع الشعب وتخريب الاقتصاد.
وفي حلقات الجزء الرابع نشرتُ حلقة عن مؤامرات الاغتيال التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المجرمة ضد قادة العالم الشرفاء المناهضين لمخططاتها وفي مقدمتهم قادة أمريكا اللاتينية. في الحلقة الخاصة باغتيال المناضل شافيز بالسرطان ذكرت تحذير كاسترو له من أن الأمريكان لن يتركوه وقد يقومون بتصفيته بالسرطان!!. أليس غريبا أن يُصاب خمسة من قادة أمريكا اللاتينيين المناهضين للولايات المتحدة بالسرطان في وقت متقارب؟! ثم خصصت حلقة خاصة هي الحلقة (137) وعنوانها :
“أمريكا قامت بـ 638 محاولة لاغتيال المناضل العظيم كاسترو، لم تسلم حتى لحيته من التآمر، عشر طرق أمريكية شيطانية لاغتيال كاسترو”.
لقد صمد هذا المناضل الجبار ضد أعتى قوة شر في تاريخ البشرية ليصون كرامة شعبه ويرفع راية ثورته في عصر العولمة الذي لا يكره شيئا مثل كرهه لمصطلحين هما: الثورة والقومية.
في عصر الاستخذاء والركوع الأمريكي كان صوت كاسترو يدوي بمفردات عزيزة على قلوب الشرفاء: الشعب، الثورة، القومية، الفقراء، الاشتراكية، الاستقلال، الحرّية، الوطن .. وغيرها مما عملت وتعمل أرتال العولمة الأمريكية الغربية السود على تهشيمها وإهارتها.
ولعل من السمات الإيجابية لهذا الكتاب الموجز (94 صفحة) “تاريخ الثورة الكوبية” هو هذه الملاحقة التفصيلية لمسيرة الثورة الكوبية منذ تململاتها الجنينية الأولى حتى استوت على سيقان إرادات قادتها الأشاوس وحفظتها قلوب مناضليها وحمتها صدور أبناء شعبها لإسقاط الدكتاتور “باتيستا” من دون انتظار قوة أجنبية تسقطه لتزيف مفهوم الاحتلال وتحوّله إلى تحرير !!
إن صفحات هذا الكتاب تحفل بالمواقف الشجاعة والتضحيات الجسيمة التي قدمها قادة الثورة الكوبية المتمترسين في جبال وطنهم – لا القادمين على ظهور الدبابات الأجنبية – والذين كانوا يعجّلون بحصاد المحاصيل للفلاحين قبل أن يحرقها جنود باتيستا، ويعالجون – بقيادة الطبيب المناضل تشي جيفارا – المواطنين المسحوقين المرضى وهم يحملون بنادقهم في مواجهات دامية ضد عملاء الديكتاتور .. فتصوّر أي شرف وأي صدق وأي إيمان نادر وقارنه بعولمة صارت تصنع الثورات عبر الفيسبوك ومكاتب الفضائيات المأجورة بعيدا عن إرادات الجموع المسحوقة الهادرة وطوفانات دمائها المقدسة…
ولعل المشهد الذي صورته المؤلفة ببراعة ونقله المترجم باقتدار والذي يجسد هروب الديكتاتور باتيستا وحاشيته، وحيرة الطاغية المتجبّر وهو يبحث عن ملجأ يؤيه، يجل على الوصف، فهو يعيد إلى الأذهان تلك النهاية المهينة لعملاء فيتنام الجنوبية وهم يتعلقون بأذيال طائرات الهليكوبتر الأمريكية الهاربة وبساطيل المحتل الهارب ترفسهم وتسقطهم. فلنقرأ ولنتعظ:
“احتفل الديكتاتور بمناسبة رأس السنة الجديدة في مقر اقامته بالقرب من هافانا، وأقام احتفالية صاخبة من الرقص والشراب وهو ما بدا غريباً للحضور، وفي نفس الوقت كان باتيستا قد وضع طائرة على أهبة الاستعداد، وحوالي الصباح، استقل الديكتاتور الطائرة مصطحباً 20 حقيبة، وضع فيها أموالاً نقدية، ومجوهرات، وأوراق نقدية وسندات، وأشياء ثمينة ذهبية وفضية.
أطلق رحيل الديكتاتور الذعر بين أنصاره، ولحقوا به في هستيريا، وفي المطار أندلع صراع ضاعت فيه الاعتبارات التي أصبحت قديمة من أجل أي مقعد في الطائرة التي تتسع لـ 35 شخصاً فقط، ولكن في النهاية دخلها 74 شخصاً، والطيار رفض الإقلاع وكان لابد من إنزال حقائب لتخفيف الوزن، بما في ذلك 10 حقائب تعود لباتيستا شخصياً، حتى تمكنت الطائرة من الإقلاع. وفي الجو دار صراع جديد حول وجهة الطائرة، الضباط كانوا يريدون التوجه بها إلى ميامي /الولايات المتحدة، ولكن الديكتاتور كان يخشى أن يصادف هناك أعداء معارضين له، وكان يريد التوجه إلى سانتو دومينغو عند “صديقه” الديكتاتور” تروخيلو ” والذي عامله فيما بعد بقلة احترام، وأخذ منه بضعة ملايين من الدولارات ثمناً للأسلحة التي كان قد أرسلها قبل السقوط كهدية، كما طلب ثمناً لإقامته، وأيضاً للدعم السياسي.
ولأنه لم يكن هناك بلد يقبل بلجوء باتيستا، كان على الولايات المتحدة أن تبحث له عن مكان، فسعت لدى الحكومة الأسبانية في آب / 1959 للحصول على الإقامة في مدريد، حيث خُصص له حصن قديم، مكث فيه إلى الأخير). (ص 61 و62).
وقد اضاف المترجم الدكتور الدباغ ملحقا موجزا عنوانه: ” تشي غيفارا ومصرعه البطولي” (ص 80 و81) يصف فيه وبكلمات مؤثرة لحظات الاستشهاد البطولي للمناضل العظيم “تشي غيفارا” الذي لم يكتف الأمريكان والطغاة إلا بقطع يديه لمطابقة بصماته والتأكد من أن القتيل الماسور هو غيفارا نفسه !!. يقول الدباغ في تقريضه ووصفه لتلك اللحظات الأسطورية:
” شاعر عراقي (شريف الربيعي) كتب قصيدة من ضمنها بيتاً واحداً أضحت من أشهر بوسترات الثورة الفلسطينية : “حين أستطاع أن يضحك عبر الموت …. أرعب ذل الصوت …”
يصل الخبر إلى هافانا، لم يصدّق رفاقه، كيف أستطاع الأوغاد أن يأسروا عاصفة أسمها غيفارا … هذا أمر لا يُصدق أبداً، إلا بعد شاهدوا صور بندقيته مصابة بطلق ناري عطّلها عن العمل .. أيقنوا أن الغريب الذي يشبه المستحيل قد حصل
.كيف ينعيه رفاقه … من سيقول وبأي كلمات للشعب الكوبي ولأميركا اللاتينية، ولشعوب العالم بأسره، أن غيفارا قد مات … و بأي كلمات …
ألقى كاسترو خطاباً في الجماهير، أستغرق ساعات، تحدث عن الثورة الكوبية، تحدث عن ثورات العالم، تحدث عن الثوريين، تحدث عن الرجال الأبطال، تحدث عن كل القضية ومحركيها، وأخيراً تحدث عن رفيقه وصديقه … رفيق غرانما وسيرا ماستيرا، وبطل سانتا كلارا، تحدث وأفاض، وفي ختام كلمته قال كلمة هي جماع روحه:
“لابد أن تشي (غيفارا) قد قضى ساعات مريرة بين أيدي جلاديه، ولكن من منا مؤهل لمثل هذا الامتحان كغيفارا
قرأت هذه الكلمات قبل ثلاثين عاماً ولكني أسطرها اليوم تقريباً كما وردت، وفاء للثورة الكوبية، ولكاسترو، ولغيفارا، فقد وقفوا بالكلمة والبندقية مع شعبنا العربي وقضيته”.
ضرغام الدباغ
ثم يختم الدباغ الكتاب بوثيقة مهمة جدا هي رسالة الوداع التي كتبها المناضل غيفارا لرفيق نضاله وصديقه فيدل كاسترو في نيسان/أبريل 1965 قبل أن يودّع الأرض الكوبية التي احتضنته ورواها بدمه الطاهر، والشعب الكوبي الذي اعتبره ابنا له فاخلص له، وينطلق نحو ساحة نضال جديدة:
” فيدل …
إني أتذكر في هذه اللحظة أشياء كثيرة… اللقاء الأول بيننا في منزل ماريا أنطونيو حينما دعوتني للأنضمام إليك. الاستعدادات السريعة للرحلة، عندما وجه أحدهم السؤال إلينا : ” من هو الشخص الذي يمكن إبلاغه بخبر وفاتكم ؟ ” وفي ذلك الوقت أصابنا الذهول … إذ فوجئنا باحتمال الموت، وقد عرفنا فيما بعد أن موت أي منا كان يمكن أن يحدث في لحظة، وأنه في حالة الثورة، وخاصة إذا كانت الثورة أصيلة.. فلا بد أن ينتصر الإنسان أو يموت.. وعبر هذا الطريق المؤدي إلى النصر تركنا الكثير من الرفاق
والآن أصبح كل شيء يكتسب طابعاً أقل كآبة وإثارة لأننا أصبحنا أكثر نضجاً..
إلا أن كل شيء يتكرر .. واشعر أني أديت جزءاً من واجبي على أرض كوبا، وإني استأذنك الآن، وأستأذن الرفاق، وأستأذن شعبك الذي أصبح شعبي لأقول لكم جميعاً، وداعاً.
ولذا فإني أتخلى عن منصبي في قيادة الحزب ومنصبي كوزير، ورتبتي العسكرية، وعن جنسيتي الكوبية. إن بلاداً أخرى في العالم تحتاج إلى خدماتي المتواضعة، وإني أستطيع القيام بما تمنعك ظروفك القيام به، لأنك مسؤول عن كوبا.
وقد حانت ساعة الفراق، وأريدك أن تعرف أنني أفعل ذلك بمزيج من الرضا والألم، فأنا اترك ورائي أطهر جزء من آمالي وأعز أصدقائي، وأترك شعباً اتخذني أبناً له. وإنني اعفي كوبا من أية مسؤولية إذا حلت نهايتي في مكان آخر، فإن هذا الشعب وأنت بنوع خاص ستكونان موضع تفكيري قبل أن ألفظ نفسي الأخير.
إنني لم أترك شيء مادي لزوجتي وأولادي، ولا اطلب لهم شيئاً الآن، لأن الدولة ستعطيهم ما يكفيهم ليعيشوا ويتعلموا.
كنت أود أن أقول أشياء كثيرة لك ولشعبي، ولكن الآن لا توجد الكلمات التي تستطيع التعبير عن كل ما يجول في خاطري، وعلى ذلك ليس ما يدعو للإسراف في استعمال الورق.
فإلى النصر دائماً … الوطن أو الموت … أعانقك بكل ما أمتلك من حرارة الثورة.
Haste la Victoria Siempre “
كتاب “تاريخ الثورة الكوبية” كتابٌ جديرٌ بالقراءة..