
الشتيمة كَعَرَضٍ لمرض خبيث

راشد عيسى
تتفاقم الشتيمة وتزدهر مع تفاقُم الحروب والثورات، كأن الشتائم حربٌ موازية لا تقلّ تنكيلاً عن الحرب على مختلف الجبهات. بعضها براميليّ عشوائيّ متفجر، وآخر باليستي، إلى حارق خارق متفجر، مزلزِل، أو مقهور من غير حساب، على شاكلة جماهير المقهورين الذين لن تفرق معهم، في أعمق لحظات القهر، أن تأتي الشتيمة موزونة، مهذبة، أو مغناة.
كان لافتاً أن يُعَنْوِن برنامج «في فلك الممنوع» على «فرانس24» إحدى حلقاته بـ «الشتيمة السياسية.. هل الإساءة حق؟»، معتبراً، كما هو واضح أن الشتيمة، أي شتيمة، هي سلفاً شكل من أشكال الإساءة.
كأن الشتائم حربٌ موازية لا تقلّ تنكيلاً عن الحرب على مختلف الجبهات. بعضها براميليّ عشوائيّ متفجر، وآخر باليستي، إلى حارق خارق متفجر، مزلزِل، أو مقهور على شاكلة جماهير المقهورين
يناقش البرنامج إن كانت الشتيمة حقاً من حقوق التعبير والقول، خصوصاً في مواجهة الاستبداد، وعلينا أن نتوقع الجواب؛ ففي مواجهة بذاءات الاستبداد سيكون قليلاً أن تُقال شتيمة، فكيف يستوي أن تواجه القتل والاعتقال وسلب الأعمار فقط بشتيمة! من العار أن يُسأل المرءُ، المقهورُ حينها، بل ويُسجَن أحياناً بالقانون على هذا الذنب ويُعذَّب، ويُهان.
كان ذلك هو جواب الشاعر العراقي مظفر النواب (ربما أكبر شتّام عرفه تاريخ الشعر العربي) عندما يُسْأَل عن البذاءة في شعره: «الواقع أكثر بذاءة»، و»ما بذيء أنا، إنما وصل القيح حدّ الحنجرة». كان كلام الشاعر مشغولاً، مكتوباً، ومُفَكَّراً فيه طويلاً، بل هو كذلك موزون مقفى، ولا عذر أنه لم يتمكّن من اجتراح سوى البذاءة. مع أنها كانت، على الأقل في حينه، تشفي غليل الجماهير، ولا ندري لماذا لم تعدّ في سياق التنفيس، وتعطيل الفعل الحقيقي. لقد تجرأوا حتى على اتهام أغاني أم كلثوم بالتنفيس، أما هذا فلا!
لا شك أن الجماهير، منذ بدء عصر الجماهير، كانت تشتم جلاديها، لكن وسائل الاتصال والتواصل المعاصر جعلتنا نسمع صوتها على نحو هادر، خصوصاً بعد ثورات الربيع العربي ولافتاتها المرئية على رادارات العالم. هناك من لامَ الجماهير على بذاءتها، وكان أوْلى حقاً أن يُلام الحكام. هؤلاء سلّفوا شعوبهم شتائم.
ذلك يذكّر بحكاية الرجل الذي جاء إلى الخليفة عمر بن الخطاب يشكو إليه عقوق ابنه، وبعدما استمع الخليفة لشكوى الوالد عرف أن الأب أساء أولاً إلى ابنه في أمور عديدة، من بينها أنْ أعطاه اسم «جُعَل» أي الخنفساء، فوَبّخَ الرجل: «جئتَ تشكو عُقوق ابنك، وقد عَقَقْتَه قبل أن يعقك».
من بين ما عُرف عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات أنه سمّى انتفاضة الخبز في مصر العام 1977 بـ «انتفاضة الحرامية»، كما وصف بشار الأسد المحتجين السوريين منذ العام 2011 بـ «المندسّين»، و»الجراثيم»، وكان أبوه من قبل يجبر تلاميذ المدارس كل صباح على ترديد هتاف يقول «عصابة الإخوان المسلمين العميلة».
إذن فقد سبق الطغاة شعوبهم بالعقوق والشتيمة حتى باتت هذه من النوافل عند الجماهير. لكن من يتذكر شتيمة سياسية حلوة، بمعنى: ذكية، ملعوبة، فيها مهارات لغوية، ولم يكن مطلوباً منها كل ذلك، كان عليها أن «تفش الخلق»، أن تجابه، وتعاند، وتغيظ الديكتاتور المتوحش وشبيحته، وقد فعلت.
لا يمكن للشتيمة إلا أن تكون مرضاً، عَرَضَاً لمرض، وبالطبع أنت لا تحاسِب المرض حين يظهر، إنما تبحث عن أسبابه، وهنا قد يكون سببه فظيعاً كبشار الأسد، أو ترامب، الذي ملأ فضاء السياسة بالشتائم، إنه ملك استثنائي لعصر الشتائم، وصحيح أنه «فشَّ خلق» الجماهير ذات مرة بوصفه رأس النظام السوري بـ «animal»، لكنه لم يقصر في شتم الجماهير نفسها، أو ما يوازيها في الولايات المتحدة، من مهمّشين ومهجرين، هؤلاء الذين هم شغله الشاغل تقريباً، بأنهم «يأكلون حيواناتنا الأليفة»، «يجلبون الجريمة والمخدرات»، أو أنهم من «دول قذرة».
حتى هنا، مضى زمن الزعماء الكبار والأذكياء المهرة اللاذعين، تشرشل مثلاً الذي تُنقل عنه عبارات لا تنسى، عندما قال مثلاً في وصف أحد خصومه السياسيين: « إنه «رجل متواضع، ولديه كل الأسباب ليكون كذلك»، وعن خصم آخر أنه: «لم يرتكب أي خطأ كبير، لأنه لم يرتكب أي شيء أبداً».
ولكن إذا كانت الشتيمة طبع الحاكم المستبد، وبالطبع ليس على هذا (المستبد) ذنبٌ، ما دام قد ارتكب قبلها كل شيء فظيع، وإذا كانت عَرَضَاً مفهوماً لمرض عند المقهورين، فلماذا هي لغة حوار عند كتّاب وصحافيين ومحللين سياسيين، بل عند مفكرين أحياناً! أو لنقل مفكرين مزعومين.
ما من عجب في أن يكون كل ذلك بزعم الدفاع عن قضايا عادلة، لقد كان هؤلاء دائماً مختبئين هناك. يشتمون بصوت عال وضمير مرتاح وكأن الحق معهم حتماً، ما من شك لديهم بأن من المحتمل أن يكون الآخر على حق
كيف تستطيع أن تستمع أو تقرأ لمن لغته مليئة بالأحذية، والأعضاء، وأكوام الأشياء، اللهم عافِنا؟ تقول لنفسك كيف يكون هذا مفكراً بحق ولا يستطيع التحايل على مفردة غير ضرورية.
ليس هذا دليل عجز وحسب، إنه قرارهم في محاولة إخافة وقمع وتشويه وإهانة معارضيهم، ومصادرة آرائهم، تماماً على نحو ما تفعل الأنظمة الاستبدادية بخصومها حين لا تستطيع إطلاق النار عليهم مباشرة. وما من عجب في أن يكون كل ذلك بزعم الدفاع عن قضايا عادلة، لقد كان هؤلاء دائماً مختبئين هناك. يشتمون بصوت عال وضمير مرتاح وكأن الحق معهم حتماً، ما من شك لديهم بأن من المحتمل أن يكون الآخر على حق، وبأن الزمن قد يتغير (كم أثبت أنه يتغيّر، وبسرعات فائقة) وسيكون الشاتم نفسه في الجهة الأخرى.
أتذكر درساً قديماً في سياقة السيارة، لشدّ ما وجدته مضحكاً في حينه، ومعبّراً على الدوام. قال معلم السياقة، من بين نصائحه الأشد لمعاناً: «إذا صار معك أي حادث، سواء كان معك الحق أم لا انزل صيّح».
هذا هو بالضبط، إنهم يشتمون لهذا السبب بالذات، معتقدين أن الشتيمة ليست حقاً وحسب، بل: إن الحق معك ما دمتَ تشتُم!
* كاتب من أسرة «القدس العربي»