منوعات

حين تحترق الإنسانية: من شعلة الحضارة إلى رماد القسوة!

حين تحترق الإنسانية: من شعلة الحضارة إلى رماد القسوة!

مريم مشتاوي

لقد أصبحت الإنسانية رماداً بعد أن كانت شعلة تضيء دروب الحضارة. ما الذي أوصلنا إلى هنا؟ ما الذي جعل من صور الأشلاء والجثث أرقامًا عابرة لا تُثير في النفس سوى شفقة عابرة أو تغريدة ساخطة في الفضاء الرقمي؟!
في غزة، في لبنان، في كل مكان تقف فيه الإنسانية عاجزة أمام آلة القتل، يموت الآلاف، لكن الموت، بدل أن يُحدث صدمة أو يُثير تساؤلاً، أصبح خبرًا سريعًا يمر على الصفحات الإخبارية كأي خبر آخر: «سقط اليوم 100 شهيد». الرقم يُقرأ، يُنسى، ويندثر تحت ركام الأخبار اليومية. إنه الموت الصامت الرخيص، رغم أنه موت كثير جداً، موت بالآلاف، وكأن كثرته خدرت الإنسانية.
لكن أن يصل بنا الحال إلى أن تتحول مأساة الإنسان إلى وليمة للكلاب؟ تلك الصورة لم تُغادر مخيلتي. جثة شهيد، مهشمة ومدماة، يلتهمها كلب بشراهة، بينما يقف أحدهم متفرجًا، موثقاً المشهد بهاتفه. من هو هذا الذي صور؟ ما الذي كان يدور في ذهنه؟ هل وجد في هذا المشهد فرصة لصنع «ضجة»؟ أم كان مجرد متفرج عاجز، فاقدًا لأي حس إنساني؟ الأسئلة تلاحقني بلا إجابة.
كيف انتشرت الصورة؟ كيف قبلت الأعين أن تراها، ثم كيف تابعنا يومنا وكأن شيئًا لم يكن؟ كيف تحولت جثة رجل، كان قبل أيام قليلة يحمل طموحات وأحلاماً كأي إنسان آخر، إلى مجرد محتوى بصري؟ بل والأدهى، كيف أصبح الكلب الذي يلتهمه رمزًا للعصر الذي نعيش فيه؟
أعترف، لم أعد أستغرب شيئًا. ربما سيُصبح هذا الكلب يوماً ما رئيساً للوزراء في هذا العالم المقلوب على رأسه. إذا سقط نتنياهو، لا أستبعد أن يرشح الكلب مكانه أو يعينه مستشاراً للشؤون الوحشية. ربما الكلب هو نتنياهو نفسه، أو جزء منه، أو نسخة رمزية لما يمثله. من يدري؟ في هذا الزمن، تبدو الفروق بين الإنسان والوحش معدومة. وقد تكون الوحوش أقل وحشية من إنسان عصرنا الحالي.
لكن المشكلة ليست في الكلب وحده. المشكلة فينا. في العالم الذي يقف متفرجاً، في العيون التي ترى وتُشيح بوجهها، في القلوب التي ماتت أو اختارت أن تموت كي لا تُثقلها المآسي. الصورة التي رأيناها ليست مجرد مشهد عابر، إنها مرآة تعكس إلى أين وصلنا. نعم إنها تعكس قسوة لا متناهية يعجز أمامها الوصف، ولكنها أيضاً تعري هزيمتنا وعجزنا وخنوعنا، نحن الذين لا حيلة لدينا سوى الكتابة والمشي في المظاهرات والبكاء والاعتراف بالهزيمة.

صرخة أب

في زاويةٍ من الأرض المدمرة في غزة، جلس الأب منحنياً، يضم بين يديه ما تبقى من ابنته، طفلته الصغيرة التي كانت قبل دقائق تملأ المكان بضحكاتها، أصبحت الآن أشلاءً بشرية مبعثرة. لم يستطع أن يجمعها كاملة؛ لم يبق منها شيء سوى القليل، القليل جداً. كان يحمل في يده بعضًا منها فقط. كأن العالم كله أراد أن يُثبت له أنه لا يملك شيئًا سوى العدم.
«كانت ابنتي… كانت تلهو هنا. لم تؤذِ أحدًا. كانت تنادي «أبي»… ولم يكن لديها طموح سوى سندويتش صغير يشبع جوعها».
صوته كان يرتجف. لم يكن صراخاً بقدر ما كان انكساراً، نداءً يائساً لا يصل إلى أحد. لكن الأب لم يتوقف عن البكاء والصراخ. وقف أمام الأنقاض، يرفع أشلاءها الصغيرة إلى السماء، كأنه يطلب إجابة من إلهٍ صامت. كان ينتظر الرحمة، القليل من الرحمة فقط.
هذا المشهد كان يجب أن يُغير شيئًا. لكنه لم يفعل. الكاميرات وثقته، والمراسلون نقلوه، لكن العالم استمر في يومه كالعادة! صورة الأب الذي يحتضن ابنته الممزقة ستصبح خبرًا، مجرد لقطة حصرية تتنافس بها المحطات الإخبارية. حتى الأب نفسه، في نظر العالم، سيصبح شخصية عابرة في قصة مأساوية ستُنسى بعد حين.
لا أحد يعرف كيف وصلنا إلى هنا.. ولا كيف تحولت دموع الآباء وصراخهم إلى خلفية معتادة في نشرات الأخبار، وكيف أصبح الأطفال الذين كانوا رموز البراءة والمستقبل مجرد «أضرار جانبية» في الحروب؟ من يستطيع أن يقول لنا كيف؟
هذا الأب، الذي تحول عالمه إلى خراب في لحظة، لم يكن بحاجة إلى كلماتنا أو شجاعتنا الافتراضية. كان بحاجة إلى عدالة، إلى عالم يتحرك، إلى إنسانية ترفض أن تتركه وحده في مواجهة المأساة. لكنه، كغيره من الآباء، سيُترك وحيدًا. سيُدفن صراخه مع صمت الأرض، وستُدفن ابنته بين الركام فيأتي كلب من كلاب هذا الزمن ليأكل ما تبقى منها.

الإنسانية المفقودة

ليس المشهدان سوى مرآة لحقيقة مرة: لقد ماتت الإنسانية. ما نراه اليوم ليس إلا رماد حضارة احترقت تحت وطأة الجشع واللا مبالاة. الصور التي نُشاهدها ليست مجرد مشاهد عابرة، بل شهادات على انهيار القيم والأخلاق والشرف!
قد يأتي صباح جديد، وقد يليه صباح آخر، لكن ما لن يتغير هو هذا الانحدار. الجثة المأكولة لن تُعيد إلينا وعينا، والأب المفجوع لن يُعيد بناء الإنسانية. أما نحن، فسنبقى نشاهد ونُعلق ونمضي، تاركين خلفنا عالمًا تتسيده الكلاب.. عالم البشر فيه مجرد خبر عابر.

٭ كاتبة لبنانيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب