أخطار الاستهداف الإسرائيلي للآثار والمعالم التاريخية في لبنان
أخطار الاستهداف الإسرائيلي للآثار والمعالم التاريخية في لبنان
ناديا الياس
بيروت : في ظل المخاطر من تهديد العدوان الإسرائيلي المعالم الأثرية التراثية والتاريخية في لبنان، وافقت اللجنة التابعة لمنظمة «اليونيسكو» المعنية بالحفاظ على الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة على تأمين الحماية المعززة للمواقع الأثرية اللبنانية المهددة بالاستهدافات الإسرائيلية، ولاسيما منها قلعة بعلبك وآثار صور، بعدما تقدم لبنان بمراجعة بشأنها ما شكّل انتصاراً للحق وصفعة مدوية لإسرائيل المستمرة في عدوانها التدميري لكثير من المناطق اللبنانية.
وأكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» التي انعقدت في جلسة طارئة في باريس، بعد مناشدات وطلبات من أكثر من 100 نائب وتشاور من قبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع وزيري الخارجية والمغتربين عبدالله بوحبيب والثقافة محمد المرتضى، أنها منحت حماية مؤقتة معززة لعشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان، والبالغة 34 للاستفادة الآن من أعلى مستوى من الحصانة ضد مهاجمتها واستخدامها لأغراض عسكرية، ولاسيما بعد أن استهدفت ضربات إسرائيلية في الأسابيع الأخيرة عدة مواقع قريبة من آثار رومانية مدرجة في قائمة التراث العالمي في بعلبك في شرق لبنان وصور في جنوبه.
ورأت أن «عدم الامتثال لهذه البنود من شأنه أن يشكل انتهاكاً خطيراً لاتفاقية لاهاي لعام 1954 وأسباباً محتملة للملاحقة القضائية». وشددت الهيئة على «أن بعلبك وصور ستتلقيان مساعدة تقنية ومالية من اليونيسكو لتعزيز حمايتهما القانونية وتحسين تدابير استباق المخاطر وإدارتها وتوفير مزيد من التدريب لمدراء المواقع».
وكان لبنان وبعد التشاور بين رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبدلله بوحبيب، ومتابعة من القائم بأعمال بعثة لبنان لدى «اليونيسكو» السفير مصطفى أديب طلب من الدورة الاستثنائية حماية الممتلكات الثقافية.
وقد رأت وزارة الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال «أن هذا القرار الصادر عن اليونيسكو هو سابقة لحماية الآثار وقد جاء بناء على الطلب الذي تقدم به بعثة لبنان لدى اليونسكو بعد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي تعرضت لها المواقع التاريخية والأثرية، ولاسيما المواقع اللبنانية المدرجة على لائحة التراث العالمي مثل بعلبك وعنجر وصور». وأوضحت «أن الحماية المعززة تعني أنه يُحظّر التعرض للمواقع الثقافية التي أدرجت تحتها وهدمها أو التسبب بهدمها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأنه يجوز ملاحقة الأفراد الذين ارتكبوا هذه الأفعال أمام المحاكم الدولية بتهمة جرائم حرب، حيث أن لبنان يعمل جاهداً للحفاظ على تراثه وفقاً للاتفاقيات والمواثيق الدولية».
ويعتبر لبنان أحد الأعضاء المؤسسين لليونيسكو بعد انضمامه إليها في 4 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1946 وافتتاحه مكتب اليونيسكو في بيروت عام 1961 الذي يُعد شبه الإقليمي في الشرق الأوسط ويغطي لبنان وسوريا والأردن والعراق والأراضي الفلسطينية وهو المكتب الإقليمي للتربية في الدول العربية.
جريمة حرب تُضاف إلى سجل العدو الإسرائيلي
واستجابت «اليونيسكو» في اجتماعها لمناشدات لبنان لحماية وحفظ الإرث التراثي الثقافي من الاستهدافات الإسرائيلية التي طالت بعنف مفرط كلاً من محيط قلعة بعلبك أعرق وأقدم معلم أثري في لبنان ومدينة صور وسوق النبطية ومعلم قبة دورس الأثري في بعلبك الذي تضرر إسوة بمعالم وبيوت أثرية ومساجد وكنائس ومواقع تاريخية استهدف بعضها عن قصد وبعضها الآخر بشكل غير مباشر، ما شكل انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدولية بما في ذلك اتفاقية التراث العالمي لعام 1972 واتفاقية لاهاي لعام 1954 حول حماية التراث في مناطق النزاعات، وشكلت جريمة حرب تُضاف إلى سجل العدو الإسرائيلي الذي لم يأبه لهذه القوانين والأعراف الدولية بل أمعن في مواصلة غاراته المعادية على بعلبك ومحيط قلعتها التاريخية الأثرية العصية على الزمن، والتي تحتوي على آثار فينيقية ورومانية وعربية وتعتبر هياكلها وحجارتها ومعابدها الرومانية من الأكبر والأكثر حفظاً في العالم وتجسد أجمل ما اختزنه العالم القديم من ثروات والتي استضافت في أرجاء هياكلها ومعابدها ومدارجها كبار عمالقة الفن اللبناني والعربي والأجنبي في مهرجانات فنية واستعراضية دولية ضخمة طبعت هوية لبنان الحضارية والثقافية والفنية في الوطن العربي والأجنبي، كما شهدت ولادة ليالي الفولكلور اللبناني.
وإن الاضرار التي أحصيت في مدينة الشمس شملت سور قلعة بعلبك الخارجي الذي لا يقع في حرم قلعة بعلبك، التي سلم وسطها من أية أضرار ظاهرة للعيان مع وجود خشية من استمرار القصف على مواقع قريبة من القلعة تحدث ارتدادات تحت أرضيته قد تتسبب بانهيارات لبعض الأجزاء ذات الإنشاءات الضعيفة أو تلك التي تحتاج إلى ترميم، بل تضرر مباشر لأحد معالمها المعروف بـ «ثكنة غورو» الملاصقة للحرم عند إحدى بوابات المدينة الرومانية القديمة واستهداف موقف سيارات زوار القلعة بجوار بستان الخان الأثري وعلى بعد عشرات الأمتار من القلعة، وتدمير مبنى المنشية التاريخي الذي يعود بناؤه إلى عام 1928 ناهيك عن أضرار كبيرة جداً في العديد من المباني التراثية المحيطة، ومنها أوتيل بالميرا، ودير وكنيسة سيدة المعونات المارونية، كنيسة الروم الأورثوذكس، كنيسة القديستين بربارة وتقلا، مطرانية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك، وسلسلة المباني التابعة لها التي دُمّر فيها القرميد والسقف البغدادي تحته فضلاً عن عشرات المحال التجارية والمنشآت الطبية والعلاجية والسياحية، والأبنية السكنية المجاورة.
غرفة السيدة فيروز
ولعل أكثر ما أغضب اللبنانيين هو سماعهم عن تعرض غرفة السيدة فيروز سفيرتهم إلى النجوم في أوتيل بالميرا في بعلبك إلى دمار، هذا الفندق العريق الذي يعد أبرز المعالم السياحية والثقافية في لبنان كونه يختزن حباً وشوقاً وحنيناً إلى السيدة فيروز التي اتخذت غرفة لها للاقامة فيه خلال إحيائها حفلاتها ضمن مهرجانات بعلبك الدولية، والتي حافظ عليها أصحاب الفندق لرمزيتها المعنوية فنياً وثقافياً وتاريخياً.
ويقع الفندق، الذي بناه المهندس اليوناني ميمكاليس باركلي في عام 1872 وأطلق عليه إسم بالميرا تيمناً بالتمثال النصفي للملكة زنوبيا الذي جلبه باركلي من تدمر السورية، وهو لا يزال معروضاً في القاعة الرئيسية، على مسافة أمتار من مدخل القلعة وثكنة غورو التي بناها الجيش الفرنسي مطلع القرن الماضي.
ويتميز أوتيل بالميرا الذي استقبل في رحابه شخصيات بارزة أمثال السيدة فيروز وأم كلثوم وشارل ديغول وسواهم من الأسماء اللامعة ببنائه على الطراز العثماني والمطل على الأطلال الرومانية.
وليس بعيداً عن القلعة فقد سُجل تضرر لمعلم قبة دورس الأثري في بعلبك، وهو موقع أثري سياحي يعود للقرن الثالث عشر، وهو عبارة عن قبة فوق ثمانية أعمدة من الغرانيت الأحمر تم تشييده من حجارة وأعمدة آثار معابد بعلبك.
وتُعد بعلبك أم الآثارِ اليونانيةِ والرومانية في الشرق، وتغوص في أعماق التاريخ وتتراءى من خلالها هيبة الماضي العظيم الذي يأبى صداه أن يموت لما تكتنزه من آثار قديمة تعود إلى العصر الروماني وأهمها على الإطلاق قلعتها الرومانية الشهيرة قلعة بعلبك التي صدحت في معابدها ومعالمها أصوات العمالقة من السيدة فيروز التي غنت لها «بعلبك انا شمعة على دراجك» و«موسم العز» للراحلين العملاقين وديع الصافي وصباح غنت «قلعة كبيرة وقلبها كبير وبيساع الدني كلها…اشتقنا عليك كتير» إلى السيدة أم كلثوم وسواهم من كبار الفنانين العرب والأجانب.
وتعتبر قلعة بعلبك المتجذرة في التاريخ واحدة من روائع العالم القديم، ومن أكثر الآثار الرومانية عظمة، وتشكل مرآة لماض ممهور بختم العز ويتعانق فيه الوحي الديني والهندسة في تناغم متكامل.
آثار القلعة الرومانية
وبدأ البحث العلمي منذ القرن السابع عشر عن آثار القلعة الرومانية التي تضم معبدي جوبيتر وباخوس وإلى جانبها معبد فينوسز. ففي سنة 1751 م (وذلك قبل آخر زلزال ضرب المدينة والقلعة) قام البريطانيان روبرت وودس وجيمس دوكنز بنقش ورسم تفاصيل المباني وفيما بعد قام الفرنسي لويس فرنسوا بالعمل نفسه عام 1785 م. أما الحدث الذي أطلق الحفريات العلمية سنة 1898 في بعلبك هي رحلة الإمبراطور الألماني وليم الثاني وقد أرسل عالمي آثار كي يقوما بتقدير كلفة حفريات الموقع. وبين سنتي 1900 و 1904 قام العلماء الألمان بكشف الأجزاء الرئيسية للمعابد الثلاثة وقاموا برسم كل الآثار المحفوظة. وابتداء من سنة 1930 تابع أثريون فرنسيون أعمال الحفر وخاصة معبد جوبيتر. ومنذ سنة 1943 وحتى بدء الحرب اللبنانية استلم اللبنانيون الأثريون مهام الحفر في بعلبك لتستمر بعد الحرب عمليات التنقيب والدراسات والحفريات للآثار بالتعاون مع البعثات الألمانية.
وكان الرومان قد بنوا في المدينة أضخم معابدهم الثلاثة جوبيتير وفينوس وميركوري تيّمناً بآلهتهم، ويعتبر معبد جوبيتر أضخم المعابد الرومانية على الإطلاق ولم يتبق من الأعمدة الكورينثية الـ 54 إلا 6 أعمدة فقط، أما معبد باخوس فهو من أفضل المعابد الرومانية حفظاً في الشرق الأوسط ويعتبر معبد باخوس أكبر من البانتيون في أثينا، أما معبد فينوس فهو بناء أصغر من بقية المعابد، شيد جنوب شـرق المجمع. وحوّل المعبد خلال العصر البيزنطي إلى كنيسة تكريماً للقديسة بربارة. ولم يتبق من معبد ميركوري سوى جزء من الدرج المؤدي إليه على هضبة الشيخ عبد الله، على مقربة من موقع المعبد الأساسي. وخلال الحكم الأموي بني مسجد آثاره ما زالت أمام مدخل الأكروبوليس إلى الشرق من مدخل المعبد الكبير. وعند مدخلها الجنوبي يقع مقام السيدة خولة بنت الإمام الحسين وبقايا جامع أم عياد الذي يقال أنه بني على انقاض كنيسة مار يوحنا التي بناها البيزنطيون عندما كانوا متواجدين في المنطقة.
وتضم جنبات بعلبك أكبر حجر تاريخي، حجر الحبلى عند مدخلها الجنوبي وأكبر مغارة وأكبر مغارة سكنها الإنسان في الشرق مغر الطحين، بالإضافة إلى وجود المقالع الرومانية في تل الكيال ووادي الشعب ومنحدر تل الشيخ عبد الله.
قبتا أمجد ودوريس
ومن المعالم الأثرية أيضاً قبتا أمجد ودوريس، وهما عبارة عن بقايا لجامعين بنيا من حجارة استخدمت من معابد بعلبك، ومحطة القطار التي تعود إلى حقبة الثلاثينات وبناها الفرنسيون في فترة انتدابهم للبنان.
ومن بعلبك إلى آثار مدينة صور التي تعود إلى حقب تاريخية متعاقبة أي 5000 سنة قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر، وهي مدرجة ضمن لائحة التراث العالمي، وأبرزها قلعة صور الرومانية الأثرية، التي تقاوم خطر الانهيار والاهتزازات بوجه الغارات الإسرائيلية المتواصلة.
ومدينة صور هي واحدة من أقدم المدن في العالم، ويعود تاريخها إلى أكثر من 4000 سنة، ويعود مجد صور خاصة إلى قوتها البحرية، وتعتبر الجزيرة القديمة لصور كالأقوى والأشهر من المدن الفينيقية، وبحارتها الأكثر رهبة في العالم القديم، كانت تحوي على مرفأين، الأول الميناء الصيداوي إلى الشمال الذي يتواصل استخدامه في عصرنا الحاضر، والثاني أو الميناء المصري إلى الجنوب، المهجور منذ العهد البيزنطي.
أما أبرز القلاع التاريخية الأثرية والمعالم التراثية التي تضررت جنوباً وتم إحصاؤها لغاية الآن هي قلعة تبنين وقلعة ميس في أنصار، وجامع بليدا التاريخي ومقام النبي بنيامين في محيبيب، ومقام النبي شمعون في شمع، إضافة إلى مساجد النبي شعيب في بليدا، وشبعا، ويارون، والظهيرة، وطيردبا، وكفرتبنيت، ومجدل سلم، وكنيسة دردغيا، فضلاً عن السوق التجاري التراثي في مدينة النبطية الذي يعتبر من أهم الأسواق الشعبية في جبل عامل وجنوب لبنان، وهو يعد رئة مدينة النبطية.
كما تم إحصاء تدمير ستة مراكز أثرية دينية وبيوت تراثية مصنفة دولياً، وسبعة مساجد، وكنيسة وخمسة مباني بلديات أثرية.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن لبنان الذي نجح في تأمين الحماية المعززة لمعالمه الأثرية لـ 34 موقعًا أثريًا كانت وزارة الثقافة طلبت ادراجها ضمن هذا البرنامج، عمل طوال العقود الماضية على إصدار العديد من التشريعات والقوانين التي لها علاقة بحماية الآثار والتراث، وعلى التصديق على اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972) في العام 1983 وصولاً إلى هذا القرار الذي استحصل عليه في الجلسة الأخيرة الطارئة لليونيسكو التي انعقدت بناء لطلبه والذي حفظ له ضمان موروثاته الأثرية والحضارية والتاريخية والثقافية وشكل بارقة أمل كبرى في وسط هذا الظلام والخراب والدمار الناتج عن الغارات الإسرائيلية المعادية، ولكن يبقى السؤال هل سيأبه العدوان الإسرائيلي لهذا القرار ويرتدع عن قصف هذه المعالم الأثرية العريقة هو الذي يعرف عنه أنه لا يأبه لكل القرارات والمواثيق والمعاهدات الدولية؟
ـ «القدس العربي»