دراساتثقافة وفنونمقالاتكتب
ليس البعد الإيماني في فكر البعث دينياً بل بُعدٌ قيمي إنساني بقلم حسن خليل غريب
بقلم حسن خليل غريب
ليس البعد الإيماني في فكر البعث دينياً بل بُعدٌ قيمي إنساني
بقلم حسن خليل غريب
أفكار حول البعد الإيماني في سلسلة مقالات -(المقال الأول)
في 11/ 12/ 2024
كثيراً ما نرى العلمانيين يُضفون على الإيمان أوصافاً دينية، فهم لن يستطيعوا الدفاع عن مواقفهم وأن يثبتوا عليها، والسبب أنهم لن يستطيعوا أن يكتسبوه بكفاءة المتدينين، ويُخشى من أنهم إذا أرادوا العودة إلى منهجهم العلماني من أن ينسوه، فيخسروا المنهجين معاً. فهم لن يُفلحوا في اكتساب الإيمان الديني بمهارة المتدينين، ولن يعمقوا أفكارهم الروحية على قاعدة علمانية توحِّد أبناء مجتمعهم بديلاً للتفرقة والتفتيت.
والأمر كذلك نرى من الضروري أن نميَّز بين الاتجاهين الدينيين: الديني ذو العمق الروحي الذي يفسر الكون والإنسان، و الديني السياسي ذي العلاقة بتطبيق ما يحسب دعاته شرائع الله على حياة البشر الدنيوية.
من المعروف أن الفكر الديني المذهبي أصبح بديلاً للفكر الديني، وأخذ يشكل خطورة على مسيرة المجتمعات القومية. ولأن على أرض العرب وُلدت كل الأديان السماوية، وهي نعمة روحية بلا شك، إلاَّ أنها ليست خالية من نقمة أيضاً. فكثرة الأديان على الأرض العربية ولَّدت كثرة في المذاهب. فتميزت بتعددية في الأديان وتعددية أكثر في المذاهب.
ولأن الإبقاء على تلك التعددية أو تقليصها ليست متيسرة لأية قوة، فقلتها أو كثرتها ملك يمين رجال الدين وحدهم، ولأن في التراجع خوفاً من الاصطدام مع الجماهير تسجيل لأكثر من نقطة انتصار للحركات السياسية الإسلامية كان لا بُدَّ للفكر القومي من الوقوف بعقلانية أمام تلك المخاوف لنرى هل هي مخاوف مشروعة وحقيقية أم أنها مجرد هواجس وأوهام؟
إذا كنا قد اعتنقنا الفكر القومي بسبب من صلاحيته في تأمين وحدة المجتمعات، فلا شك بأننا قد استندنا إلى أسباب واضحة ومقنعة. وما كان اعتناقنا له إلاَّ لأن الفكر السياسي الديني يفتقد عامل الإقناع. فلماذا نخشى، إذاً، أن نبرز عوامل الضعف فيه ونشدد على عوامل القوة في الفكر القومي؟
ومن بعض تلك الثغرات ما يلي:
-البديل للدولة الدينية دولة قومية علمانية. والسبب أن الدولة الدينية لا تشكل جامعاً مشتركاً بل مصدراً للتفتيت.
-البديل للتشريع الديني تشريع علماني. فالتشريع الديني مكبَّل بالمقدس، أما التشريع العلماني فهو قابل للتجديد والإغناء آخذاً بالاعتبار مصلحة البشر في التطور. بينما يرى الفقه الإسلامي أن ما جاء من نصوص في الكتاب والسنة هي نصوص تعبِّر عن الحقيقة المطلقة في كل زمان ومكان، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. لهذا حرَّموا نسخ أي حكم من أحكامهما. يفعلون ذلك على الرغم من أن متغيرات العلاقات بين الدول، ومن خلال التشريعات الأممية قد فرضت النسخ على كثير من أحكام الفقه الإسلامي.
أما معتنقو الفكر القومي، فلا يعتقدون بثبات أحكام الشرائع الدينية، وإلا لو كان العكس هو الصحيح لكان عليهم أن يرفضوا أية تشريعات أخرى غير التشريعات الدينية. ولأن الفكر القومي، نسخ الكثير من أحكام الشرائع الدينية، ومنها الإسلامية،أصبح لزاماً عليهم أن يقابلوا مسألة نقد الفكر الديني بكل جرأة ثورية.
فليس من الواقعي أن تكون أحكام الإسلام هي أحكام نهائية ومطلقة، وليس من الصحيح أنه لا يمكن أن تقوم أية مرجعية دينية بنسخ واحد أو أكثر من الأحكام التي وضعتها الشريعة الإسلامية. فالمرور من بوابة رفض أحكام دينية شرعية إلى اعتناق أحكام قومية وضعية لا يمكن أن يتم من دون معالجة قواعد الناسخ والمنسوخ، المعمول به في الفقه الإسلامي، بنقد موضوعي. لأنه لو اعتقد القوميون بصلاحية تثبيتها لأصبح من غير الميسور لهم أن يتبنّوا شرائع أخرى غير الشرائع الإسلامية.
إنه بمقدورنا أن نستنبط من خلال النصوص والأحداث الإسلامية، التي واكبت حياة الرسول، أسباباً تدل على أن قواعد الناسخ والمنسوخ ليست ثابتة على الإطلاق، بل إنها تعني التجديد وليس التجميد. (راجع بحثنا، عن الناسخ والمنسوخ، في كتاب مفاهيم إسلامية بمنظار قومي معاصر: دار الطليعة: بيروت: ط1: 2003.).
كما أن ما يدفعنا إلى الاقتناع، ولو بشكل نظري، بأهمية تأسيس فكر قومي متميَّز عن الفكر الديني، هو أن الحركة الفكرية التجديدية إذا لم تتميَّز عن الحركة الفكرية السابقة، وإذا لم تقترن بجرأة وثورية في التبشير، أي إذا بقيت تدور في فلك الحركة السابقة، فلن تشهد التيارات القومية تقدماً يُذكَر وسوف تبقى أسيرة لرغبات الجماهير، فبدلاً من أن تقودها نحو آفاق فكرية جديدة، ستكون منقادة لثقافة الجماهير تحت حجة منع الاصطدام بها)(م. ن، راجع بحثنا «إشكالية العلاقة بين القومية والدين»).
مقتبس من كتابنا (البعد الإيماني في الفكر القومي العربي) المنشور ورقياً في العام 2005.
رابط الكتاب: