مقايضة السلع: وسيلة البقاء الأخيرة للغزيّين
مقايضة السلع: وسيلة البقاء الأخيرة للغزيّين
دير البلح | لم تجد أم محمد القريناوي (47 عاماً)، الأمّ لأربعة أبناء، والنازحة من مدينة غزة إلى دير البلح، وسط القطاع، سوى اللجوء إلى المقايضة، كوسيلة لتأمين احتياجات أسرتها الأساسية. ومن خيمتها الصغيرة، تنشر القريناوي إعلاناً في إحدى مجموعات «فايسبوك»: «أريد مقايضة كيلو أرز بكيلو سكر. مَن يساعدني؟». تقول السيدة التي استشهد زوجها خلال الحرب، لـ»الأخبار»: «أُضطرّ إلى مقايضة مواد غذائية فائضة لديّ بمواد أخرى لا أملكها، وأحياناً اضطرّ إلى بيع ما لديّ داخل الخيمة، مثل غطاء نوم أو كرسي، من أجل الحصول على المال لشراء ما يلزم أسرتي من طعام». وتُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي ساحة رئيسيّة لعمليات المقايضة، مع ظهور مجموعات على موقع «فايسبوك» مخصّصة لهذا الغرض، ينشر الناس عبرها يومياً طلباتهم وعروضهم، والتي تتنوّع بين استبدال مواد غذائية، وأحياناً ملابس وأدوات منزلية. وهكذا، بات أسلوب المقايضة طريقة شائعة بين النازحين الذين يعيشون تحت وطأة حرب مستمرّة منذ 15 شهراً.
ومن بين هؤلاء أبو أحمد المصري، الذي كان يمتلك محلّ بقالة في شمال غزة، قبل الحرب، ووجد نفسه بعد تدمير متجره مضطرّاً إلى الإنفاق من مدّخراته، فنفدت، ثمّ طلب من زوجته بيع مصاغها الذهبي، لكن المبلغ الذي جنته منه لم يكفِ سوى لشهر واحد لتوفير احتياجات أسرته المؤلفة من سبعة أفراد. يقول المصري، لـ»الأخبار»: «في البداية، كنّا نشتري الحاجيات الضرورية بالقليل الذي نملكه، ولكن بعدما فقدنا كلّ شيء، لم نجد خياراً سوى مقايضة ما يصلنا من مساعدات غذائية». ويحمل المصري كل يوم مواد غذائية لا يحتاج إليها إلى السوق، ويعرض على الباعة استبدالها بمواد غذائية أخرى. ويضيف الرجل: «أمس، قمت باستبدال عبوة من زيت القلي حصلت عليها كمساعدة، مقابل معلبات من الفول».
وفي تقرير بارز، نُشر الأسبوع الماضي، خلصت «منظمة العفو الدولية» إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزة، إذ ذكرت أن «القيود الإسرائيلية الشديدة والمتعمّدة» على المساعدات، «تؤدي إلى سوء التغذية على نطاق واسع، والجوع والمجاعة من بين الأسباب». وكانت «المحكمة الجنائية الدولية» قد أصدرت، الشهر الماضي، مذكرتَي اعتقال بحقّ كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك تجويع المدنيين.
المقايضة في مواجهة العمولة
على أن الفقر والبطالة ونقص المال ليست الأسباب الوحيدة لشيوع أسلوب المقايضة بين الغزيين؛ فحتى أولئك الذين يمتلكون الأموال في حساباتهم البنكية، لجأوا إلى مقايضة السلع بسبب عدم توفُّر السيولة بين أيديهم. ومن بين هؤلاء، سليمان بعلوشة، رجل الأعمال في مجال المفروشات، والذي انتهى به الحال في خيمة صغيرة في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، حيث يدأب على نشر إعلانات على إحدى مجموعات «فايسبوك»، يقول أحدها: «مطلوب زيت طهي، أعرض بدلاً منه بطانية جديدة». ويقول بعلوشة، لـ»الأخبار»: «بعدما فقدت محالّي وبضائعي بسبب الغارات الإسرائيلية، وجدت نفسي أمام تحدٍّ كبير. لديّ بعض المال في حسابي البنكي، لكنه محاصر في تطبيقات المحفظة الإلكترونية لأن البنوك مغلقة بشكل كامل. وإذا أردت سحب أيّ مبلغ، فسأفقد ربع قيمته بسبب العمولة المرتفعة التي يفرضها أصحاب محالّ الصرافة». وكتاجر معتاد على البيع والشراء نقداً، يشعر بعلوشة بالغرابة من عودة نظام المقايضة البدائي وشيوعه، ولكنه يجد فيه وسيلة فعّالة للحصول على احتياجات أسرته. وفي هذا الإطار يقول: «مع الوقت، أدركت أن المقايضة هي الطريقة الوحيدة لتجاوز أزمة السيولة».
انهيار النظام الاقتصادي
ويقول الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر، لـ»الأخبار»، إن «شيوع ظاهرة المقايضة كأسلوب بدائي، يعكس انهياراً واسعاً في النظام الاقتصادي المحلي بسبب الحرب والفقر والبطالة المتفشّية». ويشير أبو قمر إلى أن الحرب الحالية عمّقت الفقر في غزة، حيث دُمّرت مصادر دخل الآلاف من الأسر، بينما استُنزفت مدخراتهم بشكل كامل لتغطية الاحتياجات الأساسية أو تكاليف النزوح.
لكن العامل الأبرز الذي ساهم في شيوع المقايضة، بحسب أبو قمر، هو العمولات الباهظة التي يفرضها الصرافون على الأموال المخزنة في الحسابات البنكية، والتي «تصل قيمتها إلى أكثر من 25% من المبلغ المسحوب، ما يجعل عملية الصرف غير مجدية مالياً للكثير من الناس». ويلفت الخبير الاقتصادي إلى أن هذا الوضع ترك أثراً اقتصادياً ونفسياً كبيراً على سكان غزة، حيث باتت حياتهم أشبه بمحاولة مستمرة للتكيّف مع قيود لا تنتهي، قائلاً: «المقايضة لا تعكس فقط الفقر النقدي، ولكن أيضاً الفقر في الموارد، فالناس يضطرّون إلى تبديل ما لديهم من سلع، وغالباً ما تكون مساعدات إنسانية، للحصول على سلع أخرى يحتاجون إليها، ما يعكس حجم الأزمة».
وفي الوقت الذي يحتاج فيه سكان غزة إلى استراتيجيات تعيد إليهم الاستقرار المالي، «نجد أن المقايضة تجعلهم يدورون في دائرة مغلقة من تبادل الاحتياجات من دون تحسين وضعهم الاقتصادي»، كما يقول أبو قمر، مؤكداً أن هذه الأزمة لن تُحلّ إلا من خلال معالجة جذرية للاقتصاد المحلي، بما يشمل وقف الحرب، وفتح المعابر، وإيجاد حلول لمشكلة السيولة النقدية والعمولات المرتفعة.
الاخبار