فلسطين والعالم: ثورة في الوعي العالمي وربيع فلسطيني في أمريكا ونتنياهو بات مطلوبا دوليا وجنوب أفريقيا تقود محاكمة إسرائيل
فلسطين والعالم: ثورة في الوعي العالمي وربيع فلسطيني في أمريكا ونتنياهو بات مطلوبا دوليا وجنوب أفريقيا تقود محاكمة إسرائيل
إبراهيم درويش
كان أهم مظهر من مظاهر هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والرد الإسرائيلي الوحشي عليها، هو عودة فلسطين إلى مركز الاهتمام العالمي.
فعندما دخل جو بايدن إلى البيت الأبيض عام 2020 لم تكن القضية الفلسطينية في وارد اهتماماته، وكل ما كان يهمه في السياسة الخارجية هو مواجهة التهديد الصيني والروسي. وكان تركيز الإدارة هو مواصلة ما بدأه دونالد ترامب من توسيع نادي التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. وركز فريقه على السعودية باعتبارها أهم دولة عربية، من ناحية اقتصادها ومكانتها الدينية.
وقد تخلى بايدن عن كل مواقفه السابقة التي هدد فيها السعودية، بسبب مقتل الصحافي جمال خاشقجي في اسطنبول عام 2018. وحاول إصلاح العلاقة مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. لكن الحرب غيرت اهتمامات الإدارة وخاصة فيما يتعلق بدعم إسرائيل ومخاوف إدارة ديمقراطية من جمهوريين متحمسين رددوا تصريحات القادة الإسرائيليين لإبادة غزة وتسويتها بالتراب وتحويلها لمرآب سيارات، كما قال السناتور الجمهوري ليندزي غراهام في تصريحات لفوكس نيوز «تسوية المكان، ستبدو غزة مثل طوكيو وبرلين في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تنتهي هذه الحرب. وإذا لم يبدو الأمر على هذا النحو، فستكون إسرائيل قد ارتكبت خطأ».
ومع بداية التعاطف الدولي مع الفلسطينيين واندلاع التظاهرات الداعية لوقف الحرب في غزة في كل أنحاء العالم، عادت القضية الفلسطينية إلى المحافل الدولية، حيث تصدرت غزة نقاشات مجلس الأمن الدولي والذي أفشلت الولايات المتحدة ولأربع مرات قرارات وقف إطلاق النار في غزة.
وبدت الولايات المتحدة معزولة بين دول العالم وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة لرفضها التخلي عن الدعم الثابت لإسرائيل وتجييشها الجيوش وإرسالها الأرصدة العسكرية للمنطقة لتهديد إيران وحلفائها، فيما ظلت أسلحتها تقتل الفلسطينيين وتدمر كل غزة. وقد استخدمت إسرائيل قنابل تزيد زنة الواحدة منها عن ألفي رطل وألقتها على أحياء غزة المكتظة. وظلت تردد لازمة «حق إسرائيل للدفاع عن نفسها» وأن أمريكا لن تتخلى عن دعمها الثابت لها. إلا أن الموقف الغربي المتواطئ مع إسرائيل، لم يمنع دول عالم الجنوب التي رفضت دعم أمريكا في أوكرانيا، من تولي مساءلة إسرائيل أمام الهيئات الدولية.
وقدمت جنوب أفريقيا ملفا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي اتهمت فيه إسرائيل بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة وتقوم بإبادة بناء على تصريحات قادتها مثل يواف غالانت، وزير الدفاع في حينه والذي وصف سكان غزة بالحيوانات البشرية وأنه سيمنع الكهرباء والوقود والغذاء عن سكانها. وتضمن ملف جنوب أفريقيا سلسلة شاجبة من الأدلة التي استقاها محاموها من المصادر المفتوحة وأشرطة فيديو احتفل فيها الجنود الإسرائيليون ورقصوا وهم يدمرون وينهبون بيوت الفلسطينيين في غزة.
وأصدرت المحكمة في كانون الثاني/يناير قرارا قالت فيه إن هناك أدلة معقولة عن إبادة جماعية في غزة وأمرت إسرائيل بتحسين ظروف دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. ولم تستمع إسرائيل التي تدعمها إدارة بايدن عسكريا ودبلوماسيا. وفي أيار/مايو طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان من قضاة المحكمة استصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغالانت إلى جانب 3 من قادة حماس هم، رئيس المكتب السياسي، إسماعيل هنية الذي اغتيل في نهاية تموز/يوليو في طهران ويحيى السنوار، زعيم الحركة في غزة والذي قتل بمواجهة بغزة في تشرين الأول/أكتوبر ومحمد الضيف، القيادي العسكري لحماس الذي تقول إسرائيل إنها قتلته في تموز/يوليو لكن حماس لم تعلن عن مقتله.
نتنياهو المطارد
ولم يصدر قرار الجنائية إلا في تشرين الثاني/نوفمبر ضد نتنياهو وغالانت المتهمان بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. وقد تعرض خان لحملة تشويه واتهامات قبل أن تصدر المحكمة قرارها. وأصبح نتنياهو مطلوبا دوليا مثل فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي ومن صدرت ضدهم أحكام بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولا يستطيع السفر إلى الدول التي وقعت على نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية ومنها بريطانيا وفرنسا، حيث قالت الأولى بأنها ستلتزم بالقرار لو وطئت قدما نتنياهو أو غالانت أراضي بريطانيا. أما فرنسا فقد أكدت بداية التزامها بالقرار، لكنها حاولت التحايل بالقول إن نتنياهو كرئيس وزراء يتمتع بالحصانة. وحاولت إسرائيل الطعن في القرار ولاية المحكمة الجنائية على الأراضي الفلسطينية. ولا شك أن هناك ولاية لأن فلسطين من الدول الموقعة على نظام روما.
اعتراف بفلسطين
المهم في الأمر أن حرب غزة أدت لعزلة إسرائيلية عالمية ومعها الولايات المتحدة التي بدت متواطئة في جرائم الحرب. وردت عدة دول على الحرب من خلال الاعتراف بدولة فلسطين، حيث اعترفت أيرلندا والنرويج وإسبانيا وسلوفينيا بدولة فلسطين في أيار/مايو. وتوترت العلاقة بين إسرائيل وأيرلندا عندما انضمت إلى الدول الداعمة لملف جنوب أفريقيا. وأعلنت إسرائيل في 16 كانون الأول/ديسمبر عن إغلاق سفارتها في دبلن. ورد رئيس وزراء أيرلندا سيمون هاريس قائلا إن تل أبيب لن تستطيع إسكات بلاده لانتقادها الهجمات التي تشنها القوات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ووصف هاريس قرار نتنياهو إغلاق سفارة تل أبيب في دبلن بـ«دبلوماسية تشتيت الانتباه». وأضاف: «هل تعرفون ما الذي يجب إدانته في رأيي؟ قتل الأطفال أعتقد أن هذا شيء يجب إدانته». وتابع هاريس: «هل تعرفون ما الذي يجب إدانته في رأيي؟ هول الوفيات بين المدنيين في غزة». وزاد: «هل تعرفون ما الذي يجب إدانته في رأيي؟ ترك الناس يواجهون الجوع وعدم تدفق المساعدات الإنسانية». ويبلغ عدد الدول التي أنضمت لدعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ثماني دول بمن فيها النرويج وبلجيكا وكولومبيا ونيكاراغوا ومصر وتركيا.
تحالف شيطاني
ومع ذلك فقد أنتجت الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة حالة من الحصار الفكري بالدول الغربية التي حاولت قمع حرية التعبير ومنع أي انتقاد لممارسات إسرائيل متعللة باللازمة التي نسمعها كل يوم عن «حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها». وضمن ثقافة الإلغاء هذه تم إغلاق المنافذ على كل أشكال التعبير والنزاهة الصحافية والأكاديمية. وأدت الحرب على حرية التعبير لإنتاج ما وصفته أكاديمية أمريكية بالمكارثية الجديدة.
ووصف مصور معروف وهو نان غولدين لصحيفة «نيويورك تايمز» هذه الأجواء بقوله: «لم أعش فترة مثيرة للرعب كهذه».
وظهر منذ بداية الحرب تحالف «شنيع» بين المؤسسات السياسية والإعلام الذي أخذ يردد ما تقوله الرواية الإسرائيلية عما يجري في غزة. وظهر هذا واضحا في التقارير التي نشرتها وسائل الإعلام بعد عام من هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وكما لاحظ جوناثان كوك في موقع «ميدل إيست آي» (11/10/2024) فإن الإعلام الغربي تخلى عن الخطوط الحمر أو حتى معايير الحياد عندما يتعلق الأمر بفلسطين-إسرائيل. وما لا ينكره أحد أن ما شهدناه طوال الأشهر الماضية هو «فيلم/عرض رعب»، ففي الشهرين الأولين من الحرب دمرت إسرائيل أكثر مما دمر الحلفاء في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. وشنت غارات جوية على غزة أكثر من الغارات التي شنتها أمريكا وبريطانيا ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ولا أحد يعرف الحصيلة الحقيقية للإبادة، لكن ما نعرفه هو أن إسرائيل حولت غزة إلى 42 مليون طن من الأنقاض.
قمع الاحتجاج
وبعد ربيع الجامعات الأمريكية وتضامنها مع الشعب الفلسطيني غزة، حاول مدراؤها وبدعم من المؤسسات الفدرالية وجماعات الضغط في الكونغرس ومسلحة بالقوانين والتهديد، بفصل ومنع الطلاب من دخول الحرم الجامعي أو تعليق دراستهم لفترات طويلة، ومواجهة المد الطلابي لم يكن في أمريكا فحسب ولكن في الجامعات الغربية بشكل عام.
وتم التلويح باتهامات معاداة السامية في وجه أي متظاهر حاول التعبير عن رفضه للإبادة الجماعية في غزة أو طالب بوقف إطلاق النار أو محاولة الضغط على الجامعات الأمريكية سحب استثماراتها من الشركات التي تتعامل مع إسرائيل أو تدعم الجيش الإسرائيلي. ويبدو أن الإستراتيجيات قد نجحت، فبعد عودة الطلاب إلى الجامعات في خريف 2024 ثبتت فعالية القيود التي فرضتها الجامعات على الطلاب المؤيدين لفلسطين ونشاطهم. ولاحظت صحيفة «نيويوبورك تايمز» (25/11/2024) أن عدد التظاهرات المؤيدة لفلسطين في الفصل الدراسي الأول تضاءل إلى 950 تظاهرة في حرم الجامعات الأمريكية مقارنة مع 3.000 تظاهرة في الربيع. وأضافت الصحيفة أن الجامعات شددت القيود وأغلقت بوابات الجامعة وأصدرت عقوبات رادعة بعد التظاهرات المؤيدة لفلسطين في الربيع. ولأول مرة تطلب الجامعات التي كانت تحتفل يوما بتاريخها في نشاط الطلاب بتدخل أمن الجامعات وتفريق أو اعتقال الطلاب. ويبدو أن الجامعات لجأت إلى سياسة قمع المؤيدين لفلسطين بعد شكاوى حقوق مدنية فيدرالية ودعاوى قضائية وتدقيق شديد من الكونغرس يتهم الجامعات بالتسامح مع معاداة السامية. وتم امتحان رئيسات جامعات هارفارد وكولومبيا وبنسلفانيا وأم أي تي في جلسات استماع أمام الكونغرس. وبسبب دورها التحريضي في مساءلة مديرات الجامعة ودفاعها عن إسرائيل، كافأ ترامب إيلس ستيفانيك، النائبة الجمهورية عن نيويورك بترشيحها لمنصب سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة.
وهناك مصطلح بات مستخدما وهو «استثناء فلسطين» من حرية التعبير في الجامعات الأمريكية. ونفس الأمر يصدق على أماكن في أوروبا وخاصة ألمانيا التي قمعت حرية التعبير المؤيدة لفلسطين. وبات ارتداء الكوفية الفلسطينية أو رفع العلم الفلسطيني أو ترديد هتاف من النهر إلى البحر دعوة لإبادة إسرائيل وتهمة، كما بدا من تصريحات وزيرة داخلية بريطانيا في عهد المحافظين والتي وصفت المتظاهرين واحتجاجاتهم بـ«مسيرات الكراهية».
رفض أرقام الضحايا
وكان من أهم معالم الحرب على الحقيقة والتقليل من حجم الكارثة الفلسطينية، هو التشكيك براوية الفلسطينيين في غزة والتقليل من أهمية الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة. وبدأت وسائل الإعلام الغربي بقرن أي رقم من الأرقام المتراكمة يوميا بلازمة: حسب وزارة الصحة الفلسطينية التي تسيطر عليها حماس ولا تفرق بين المدني والمقاتل، مع أن إسرائيل قالت إنها قتلت ما يقرب من 17.000 من مقاتلي حماس والفصائل الأخرى، وحجم القتلى كان يزداد في اضطراد حتى وصل بعد أكثر من عام إلى 45.000 شخص، هذا بدون حساب الأعداد التي ظلت تحت الأنقاض أو من ماتوا بسبب الجوع وفقر التغذية والمرض وسوء الأوضاع التي يعيشونها.
وساهم بايدن في تصريحاته بإلقاء الشك على عدد الضحايا، وهو الذي لم يبد أي رحمة تجاه الفلسطينيين بقدر ما أبدى تجاه الإسرائيليين، وقال إنه لا يثق بأرقامهم، حيث تحدث «عنهم» بصيغة الغائب. رغم أن الأمم المتحدة والحكومات الصديقة لإسرائيل، بما في ذلك إدارة بايدن، استخدمت البيانات المنشورة على نطاق واسع باعتبارها أفضل مقياس لما حدث على مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية. وفي الوقت نفسه سخر المسؤولون الإسرائيليون وأنصارهم في الخارج من أرقام الضحايا المبلغ عنها في غزة باعتبارها نتاجا مبالغا فيه لمروجي دعاية حماس. ولكن الدمار الذي لا يمكن إنكاره في غزة ومئات الأحداث الموثقة التي أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا تحكي قصة مختلفة، قصة تحاول مجموعات مراقبة لا حصر لها ومنظمات حقوق الإنسان توضيحها بمزيد من التفصيل. وفي بداية كانون الأول/ديسمبر أصدرت منظمة «إيروورز» ومقرها بريطانيا، تقريرا فحص بالتفصيل الدقيق الأيام الخمسة والعشرين الأولى من الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلصت المنظمة إلى أنه في تلك الفترة الزمنية، «وقع الضرر المدني في غزة على نطاق لا يضاهيه أي صراع» لاحقته المنظمة، بما في ذلك حملات القصف التي قادتها الولايات المتحدة على مدينتي الموصل والرقة الخاضعتين لسيطرة تنظيم الدولة في حينه. وقالت المنظمة إن حملة إسرائيل في غزة «لا تقارن بأي حملة جوية في القرن الحادي والعشرين» و«الصراع الأكثر كثافة وتدميرا وفتكا» الذي تتبعته. وتشتهر المنظمة بنهجها الشامل والدقيق وفي حالة غزة، أمضت «إيروورز» أشهرا في تمشيط البيانات مفتوحة المصدر حول الضحايا، بما في ذلك أرقام الهوية الوطنية الفلسطينية للضحايا، وإشعارات وسائل التواصل الاجتماعي، والتقارير الإخبارية وغيرها من المعلومات، لبناء مجموعة بيانات بشأن كل حادثة إصابة. لقد أدى حجم الدمار ونمط الضربات وخطاب العديد من الساسة الإسرائيليين إلى إعلان منظمة العفو الدولية في شهر كانون الأول/ديسمبر أن إسرائيل ارتكبت – وما زالت ترتكب – أعمال إبادة جماعية. وتبدو إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب القادمة عازمة على حماية إسرائيل من المزيد من المحاسبة الدولية، على خطى سلفها في نواح كثيرة. فقد تلقت إدارة بايدن ما يقرب من 500 تقرير يزعم أن إسرائيل استخدمت أسلحة زودتها بها الولايات المتحدة في هجمات تسببت في أضرار غير ضرورية للمدنيين في قطاع غزة، لكنها فشلت في الامتثال لسياساتها الخاصة التي تتطلب تحقيقات سريعة في مثل هذه الادعاءات. ونشر موقع «ذي انترسبت» (12/12/2024) تقريرا أشار فيه إلى بند مخفي في مشروع قانون الدفاع السنوي يمنع البنتاغون من الاستشهاد بمعلومات واردة عن وزارة الصحة في غزة كمصدر موثوق. وهو ما سيسهم في إخفاء المدى الكامل لعدد القتلى في غزة في الاتصالات العامة للجيش. وكانت البيانات من السلطات الفلسطينية هي الإحصاء الوحيد المتسق والموثوق لعدد القتلى من غزة على مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية، حيث حرمت إسرائيل باستمرار العاملين في مجال حقوق الإنسان من الوصول إلى القطاع ومنعت الصحافيين الأجانب من الدخول.
تدحرج العروش
أحدثت غزة وفلسطين ثورة في الوعي الغربي وأدت لصراع سرديات وتغير في مواقف الداعمين لإسرائيل. وأظهرت الكثير من استطلاعات الرأي التي جرت خلال العام صورة عن تراجع الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل. وبدأ الكثيرون يتساءلون عن مبرر دعم دولة تقتل الأطفال والنساء وبدون تمييز. وبدا الانقسام واضحا في صفوف الديمقراطيين الذين طالب جناح مؤثر منهم وقواعدهم الانتخابية الرئيس بايدن والمرشحة اللاحقة كامالا هاريس بتغيير مواقفهم من الحرب واستخدام ما لديهم من نفوذ لإنقاذ الحملة ومنع دونالد ترامب من الفوز، لكنهم ترددوا وخسروا الانتخابات في أكبر خسارة يتكبدها الحزب الديمقراطي منذ 20 عاما. ونفس الأمر يقال عن انتخابات بريطانيا التي أعادت العمال إلى الحكم بعد سنوات في البرية، وكان فوزهم كاسحا على المحافظين الذين فسدوا وأفسدوا البلاد، ولكنه كان ناقصا بسبب مواقف المسلمين الذين امتنعوا عن التصويت للعمال بسبب غزة أو صوتوا لمستقلين. وفي فرنسا بات الرئيس إيمانويل ماكرون مثل البطة العرجاء فيما يواجه أولاف شولتز، المستشار الألماني انتخابات في شباط/فبراير 2025 بعد سحب الثقة منه. ومع أن مشاكله وماكرون هي نتاج سياسات داخلية إلا أن الإبادة في غزة تركت آثارها على المسرح العالمي، من ناحية عزلة الأنظمة التي دعمت تدمير غزة وقتل الفلسطينيين وسياسات الإنتقام الإسرائيلية. وينتهي عام 2024 وقد تم تدمير كامل غزة ووسط تبجح نتنياهو بأنه لن يترك غزة ولا الجولان التي استولى عليها بعد فرار بشار الأسد.
وينتهي وبايدن يتبجح بأن سقوط الأسد لم يكن ممكنا بدون وقوفه الثابت مع إسرائيل. مع أن ولايته سيتم تذكرها كأسوأ إدارة في التاريخ الحديث.
وفي الوقت الذي يسير فيه نحو أيامه الأخيرة في البيت الأبيض يحضر ترامب للعودة منتصرا ويهدد بأنه سيحول غزة إلى جهنم لو لم يفرج عن الأسرى. وكأن جهنم ليست موجودة هناك.
وبالمحصلة فقد أكدت الحرب على غزة أن أمريكا مهما حاولت الظهور بمظهر الحريص على المدنيين هي طرف في الإبادة، وكما قال المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد خالدي فأمريكا ليست عرابا نزيها وهو الخطأ الجوهري الذي ارتكبه ياسر عرفات وفريقه و«هذا ما يدفعني: لا تستطيع إسرائيل القيام بأي من هذا – قتل هذا العدد من الفلسطينيين [أكثر من 40.000 في وقت مقابلة الغارديان معه] من دون الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. الولايات المتحدة تعطي إسرائيل الضوء الأخضر، وهي طرف في الحرب على فلسطين، هذا ما يدفعني كأمريكي، فأنا لست فلسطينيا فقط في هذا بل ولأنني أمريكي/ ونحن مسؤولون». وكما قال أفي شلايم، المؤرخ المعروف: «أمريكا هي المعقل الأخير [لإسرائيل] وفي يوم من الأيام سوف تتغير السياسة الأمريكية». وفي الوقت الحالي تبدو أنها تسير باتجاه ترامب، واليمين المتطرف في إسرائيل فرح بعودته، ولهذا فإن عام 2025 قد يكون أسوأ من الذي سبقه. والمهم في كل هذا أن فلسطين عادت للوعي العالمي، وأصبح نتنياهو مطلوبا دوليا ويقود دولة معزولة ونجح في توريط أمريكا بجرائمه. وكشفت حرب غزة عن عورات الغرب ومعاييره المزدوجة.