تحقيقات وتقارير

عام الشهيد الفلسطيني

عام الشهيد الفلسطيني

وائل الحجار

 لفلسطين، كان العام 2024 استمرارًا لمسار من الشهادة المعمّدة بالدماء والدموع، حصدت خيرة من الشعب الفلسطيني الذي قررت حكومة إسرائيل أن قتله تفصيل لن يغيّر شيئا في العالم، ولن يهزّ ضمائر الدول الكبرى، أو ضمير عالم غير متوازن.

أكثر من 45 ألف شهيد موثّق، وغيرهم الآلاف مجهولين ومفقودين، كان لهم، لو سمح القاتل، أن يودّعوا بجنازات ومواكب تشييع تكرّم ذكراهم، تزفّ فيها الأمهات الناجيات إلى حين، أبناءهن وبناتهنّ شهداء وشهيدات، والزوجات أزواجهن، والأزواج زوجاتهم، والأهل أبناءهم، وعائلات بأكملها، شهداء على طريق حرّية الوطن السليب.
لكن الحال لم يكن هكذا في هذا العام المشؤوم.
كان العام 2024 عام القتل الرخيص. فلا القاتل سمح بتكريم القتيل، ولا أسلحته الفتاكة وقنابله الغبية والذكية أبقت للموت حرمة، بل مضت تنهش من أجساد الذين ارتقوا، قطّعتها وأحرقتها وأذابتها أيضًا، ورمتها للقطط والحيوانات الضالّة تنهش فيها، وتنهش في ضمير الإنسانية، حتى صار هذا الضمير ـ المسمّى قانونا دوليًا – فارغًا أجوف غائرًا عقيمًا.

الطفل الشهيد

ولكل قتيل في فلسطين حكاية، والحكايات أكثر من أن تعدّ، فقد تكاثر القتل ولا يتوقّف، وغابت ملصقات الشهداء وأسماؤهم في صورة مطبّعة تكاد تصبح عادية لمشاهد نشرات الأخبار، فلا حكايا تروى عن هند رجب (6 أعوام) إلا استغاثة أخيرة لها من حي تل الهوى في مدينة غزة «خذيني تعالي. أمانة خايفة تعالي. رني على حدا يجي يأخذني».. ولم يأت أحد من خارج غزة، لإنقاذ الأطفال الفلسطينيين من قدرهم، فارتقى منهم أكثر من 17 ألف نفسًا إلى بارئها، ممن أمكن التعرف على جثثهم فلم تُفقد أو تتبخّر أو تذوب.
والشهيد هو الطفل الذي حرم من داره وملعبه ومدرسته وحياته، والرضيع الذي توفي في أحضان أمه من دون أن يعي بعد ماذا يحصل. كان الإسرائيليون وفي مقدمتهم المطلوب دوليا بتهم جرائم حرب بنيامين نتنياهو في الانتظار ليقرّروا مصيره، يموت أو يعيش.
والشهيد هو المدني، وهو الجدّ، «روح الروح»، يجسّد الشهيد خالد النبهان صورة له، بعد أن ودّع حفيدته ريم بالدمع الزكي، ولسان حاله ما قاله غداة ارتقائها: «بإذن الله سنبقى في هذا المكان، وإذا الله كتب لنا الحياة فمرحبًا بالحياة، وإن كان الله عز وجل كتب لنا الموت فمرحبًا بالموت ومرحبًا بلقاء الله». وهكذا كان.
كان عام 2024 عام الإبادة، وعام الشهيد.
ولأن الحياة ولّادة عند الشعب الفلسطيني الذي اعتاد أن يخوض في الصّعب انتصارًا لحريته وكرامته وحقّه الطبيعي في وطنه وأرضه وترابها وهوائها ومائها المصادرة كل يوم أكثر، فهي ليس خاتمة الحكاية، بل قد تكون بداية لها، تقضّ مضاجع الطغاة وكبار المجرمين من حاملي ألقاب الرؤساء، والوزراء والقادة والجنرالات ممن شارك في الجريمة، أو أيدها أو دعمها أو موّلها.
والشهيد في فلسطين، أو على طريقها، ليس نوعًا واحدا، بل أنواع من المسارات.

الشهيد المدني

وأول الشهداء المدني الذي لم يرفع سلاحًا، لكنه ليس مغلوبًا على أمره. بل يحمل بشكل طبيعي عبء الذّود عن فكرة، وأيضَا عن حياته وبقائه كشعب مستقل. هكذا كان، وهكذا سيبقى، جيلا وراء جيل. والجيل المذبوح، قد يطلّ يومًا ليسائل كلّ الذين تفرّجوا على المقتلة أو شاركوا فيها، وهو سؤال مؤجّل، لكنه صار جزءًا من وعي يقاوم الإبادة، وسيأتي وقت الحساب.
ولكلّ مدني، طفلًا، أو امرأة، أو رجلا، أو كهلا وشيخا، اسم سيحفر يوما، ونسب سيروى، ربّما على نصب كبير في ساحة مدينة غزة الحرّة، بعد زمن، عندما يُزهق الحق الباطل، ويندحر المحتل والمستعمر.
والمدني في غزة الشهيدة، طبيب أيضًا، قتله الجيش الإسرائيلي وهو يحاول تضميد جراح أو إنقاذ حياة، فانضم إلى قافلة الشهداء. أحمد سمور وإسراء أبو زايدة وحسن حمدان، وعمر فراونة وهمام اللوح، وعدنان البرش، وإياد الرنتيسي، وسعيد جودة، ومحمود أبو نجيلة وأحمد السحار وزياد التتري، وسرين العطار ومدحت صيدم ومحمود الخياط ورزان الرخاوي ولائحة تطول وتطول. وفي اللائحة أكثر من ألف طبيب وممرض اغتالهم الاحتلال منذ بدء إبادته الوحشية، بنيرانه، أو بالتعذيب الهمجي في سجونه ومعتقلاته، فكان قسم أبقراط يواجه كذلك آلة الموت الإسرائيلية بعناد أسطوريّ حتى الشهادة.
والشهيد مسعف أو عامل إغاثة، استشهد أكثر من 230 منهم وهم يحاولون إنقاذ حياة الآخرين، بصمت، فارتقى معهم، ولاحقته ولاحقت آلياته طائرات الإبادة الإسرائيلية ونيران قناصيها وآلة إسرائيل الحربية سيئة السّمعة، لكنّه نكران الذّات حتى الشهادة.
والشهيد هو المرأة الفلسطينية، ربّة البيت، والعاملة، والمناضلة، وسند العائلة، فارتقى منهن أكثر من 12 ألفًا، جدّات، وأمهات، وزوجات، وأخوات وبنات، تسابقن على تصبير بعضهن البعض، وعلى تصبير الرّجال، وتشاركن في دفن بعضهم بعضًا، وفي وداع الأحبّة. وهي المرأة الفلسطينية التي كانت تحتضن أولادها وتخبئهم في قلبها عند القصف الهمجي، فيستشهدون معًا عائلات عائلات… وكم من العائلات أبيدت في غزة.
والشهيد صحافي أو صحافية، آخرهم في جريمة وقحة في النصيرات، فيصل أبو القمصان وأيمن الجدي وإبراهيم الشيخ علي، وفادي حسونة ومحمد اللدعة، وقبلهم سامر أبو دقة وحمزة الدحدوح وألاء الهمص وياسر الفاضي وأكرم الشافعي وغيرهم كثر في لائحة من أكثر من 200 في سياق تصفية إسرائيل لشهود الحقيقة.. ولم تبدأ من غزة فقط، بل هي سياسة منهجية لدى الاحتلال ارتكب خلالها هذه الجريمة مرارًا وتكرارًا، وأرفقها بمنع الصحافيين الأجانب من دخول القطاع المحاصر، وبغلق القنوات التي تنقل الصورة والشهادة، ومداهمة مكاتبها واغتيال مراسليها.
والشهيد مدرّس، أو أستاذ جامعي، أو عالم، أو خبير قتلتهم إسرائيل في إبادتها للكفاءات وخيرة أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، من الدكتور سفيان تايه ـ رئيس الجامعة الإسلامية، إلى الدكاترة سعيد الزبدة وتيسير إبراهيم وإبراهيم الأسطل وأسامة المزيني وأحمد أبو عبسة وأحمد الدلو وأدهم حسونة وأحمد القرا ونسمة أبو شعيرة، ولائحة تطول أيضَا من مئات من الأساتذة والمدرسين والمعلمين، والعلماء، والأكاديميين، والباحثين.

الشهيد الأسير

والشهيد هو الأسير الذي ارتقى بعد أن سامه الجلّاد العنصري المريض أنواع العذاب في السجون، فهو محمد عبد الرحمن هويشل إدريس ومعاذ خالد محمد ريان وعرفات يوسف عرفات الخواجا، وماجد حمدي إبراهيم سوافيري، وأحمد عبد مرجان العقاد، ووفا أمين محمد عبد الهادي، وكمال حسين أحمد راضي، وفتحي محمد محمود جاد وعشرات غيرهم قدر عددهم بأكثر من 40 من غزة والضفة والداخل، في سجون سيئة السمعة كـ«سديه تيمان» و«عوفر» وغيرها، يتلذّذ الساديون فيها بممارسة كلّ فنون الإجرام بحقّ أسراهم.
وهو وليد دقة، آتيًا من باقة الغربية في الداخل إلى الكفاح الوطني الفلسطيني، فارتقى في سجنه بعد معاناة مع المرض والإهمال الطبي المتعمّد والتعذيب في سجون الاحتلال، فيما جثمانه لا يزال أسيرًا تسعى إسرائيل لمقايضته.
واحتجاز الاحتلال لجثامين الشهداء وإهانتهم حتى وهم أموات، هو سلوك رسمي إسرائيلي قديم. وتشكل «مقابر الأرقام» شاهدا عليه، فيصرّ الاحتلال على رفض تسليم الجثامين إلى العائلة، ويضع على قبر كلّ شهيد محتجز رقمًا بدلا من اسمه، من دون أي ذكر لتاريخ وفاته.
ووثقت الجهات الفلسطينية المعنية وجود مئات الجثامين المحتجزة لشهداء من بينهم نساء وأطفال.
والشهيد المدني هو أيضَا المتطوع الأجنبي الذي ذهب إلى القطاع ليساعد في الدفاع عن الحياة والكرامة الإنسانية، كعمال الإغاثة البولندي داميان سوبول وزميلته الأسترالية لالزاومي فرانك كوم والبريطانيون جيمس هندرسون وجون أنتوني تشابمان وجيمس كيربي، والأمريكي الكندي جاكوب فلينجر، والطالبة والناشطة التركية الأمريكية عائشة نور إيزغي التي ارتقت برصاص الاحتلال في الضفة.

الشهيد المجهول

والشهيد هذا العام، كان أيضَا الشهيد المجهول.
ذلك الذي ارتقى ممزّقًا أو مذابا، أو مشوّها، فكان من الصعب التعرف عليه.
وتعبّر منشورات على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه الحالة، فهذا الشهيد «ناصح وطويل، لابس ترنق توتي مع كحلي»، أو «الشهيد مجهول ـ جاكيت أسود».
وفي حرب الإبادة على غزة، تحدثت جهات رسمية فلسطينية عن أعداد كبيرة من الجثث لشهداء لم يتم التعرف عليهم، من بينها جثث ممزقة لأشلاء، ومنزوعة فروات الرؤوس، وأخرى مقطوعة الرؤوس، أفرجت عنها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد خطفها من أماكن مختلفة في مدينة غزة ومدن شمال قطاع غزة.
ورجّحت السلطات المحلية في غزة ومنظمات حقوقية، أن هذه الجثث قد تكون انتُهكت وسرقت أعضاؤها أو أجزاء منها.
والشهيد المدني أيضَا هو رقم تقديري لأولئك المفقودين الذين إما أن جثثهم لم تنتشل بعد من أنقاض الخراب الذي خلفته إسرائيل، أو أن أجسادهم أذابتها «القنابل الذكية»، ويتجاوز عددهم المقّدر الـ13 ألفًا، وتقول مصادر أممية إن الرّقم قد يكون أكبر بكثير.
ولكل شهيد من كل هؤلاء اسم وحكاية وحياة تستحق أن تروى، وأن تخلّد ذكراهم لحفظ أجيال مقبلة.
كان عام 2024 عام الشهيد ولقاء الله في غزة الجريحة.
كان عام القتيل، وبئس القاتل.

الشهيد المقاوم

والشهيد في غزة أيضًا مقاتل قتل وسلاحه في يده.
هؤلاء، اختاروا طريقهم، واختاروا الشهادة، بعد أن فشلت كل مسارات السلام واتفاقياته ودعواته، في أن تنجز ولو جزءا يسيرًا من حق شعبهم في الاستقلال من نير احتلال دام أكثر من ثلاثة أرباع قرن.
يصفهم «العالم الحرّ» بالإرهابيين، ولا يهتمّ إن استهدفوا مدنيين أو عسكريين، ففعل المقاومة على أرض فلسطين ـ وليس أوكرانيا ـ هو جريمة دولية وإرهاب.
وهو نفس العالم الذي يمجّد بطولات المقاتلين من أجل الحرية في أمريكا وأوروبا خلال سياقات الحروب التاريخية ومعارك التحرير الوطني وما شابه، ويحتفي بهم عند كل مناسبة وذكرى، ويقيم لهم النصب، ويحفر أسماءهم لتخلّد في تاريخ إشكالي من استعمار المجتمعات المحلية واستغلالها.
أما مقاتلو غزة وفلسطين جميعًا، فهم الإرهابيون!
لكن سيرة مقاومي فلسطين، لديها رواية أخرى عند الشعب الفلسطيني، وقبل ذلك عند من اختار هذا الدرب، أي الكفاح المسلّح، وسيلة اعتقد بأنها سبيله إلى تحقيق أهداف شعبه الوطنية.
وشهداء «طوفان الأقصى» في هذه الفئة.
وهم كثر. لم تحصهم كلّهم فصائل المقاومة الفلسطينية بعد، وغابت الكثير من أسمائهم في أتون المجزرة، فيما برزت أسماء بعضهم، استشهدوا على هذا الدرب.
ولكل من هؤلاء اسم، حتى لو غاب في ضجيج الحرب،
وأم، وأب، وزوجة، وأخت.. وخلال هذه الحرب، ستغيب بشكل عام بيانات نعيهم عن الفصائل، إلا من ارتقى منهم خارج قطاع غزة.
فمن استشهد في الضفة الغربية هذا العام، كان له ذكر في أدبيات المقاومة الفلسطينية. وهكذا ارتقت وفاء جرار، المناضلة الفلسطينية ومؤسسة «رابطة أهالي الشهداء والأسرى» في محافظة جنين ومنسقتها، بعد أن اعتقلها الاحتلال واتخذ منها درعًا بشريا قبل أن تفجر المركبة العسكرية التي كانت تقلّها فترتقي. والشهيد في الضفة هو المقاتل أبو شجاع (محمد جابر) قائد «كتيبة طولكرم» التابعة لـ«سرايا القدس»، الجناح العسكري لـ«حركة الجهاد الإسلامي»، مشتبكًا من المسافة صفر مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، بعدما أعيا جنوده وتحدّاهم علانية وتفاخرًا في مطاردة طويلة استمرت سنوات.
والشهيد هم مقاومو قباطية في جنين الذين نكّل الاحتلال الإسرائيلي بجثامينهم وألقاها عن سطح أحد المنازل، على عادته في إهانة جثامين القتلى عند الفلسطينيين.
والشهيد في الضفة هو حنان أبو سلامة (59 عامًا) التي عرفت بأول شهيدة للزيتون، اغتالتها رصاصات الاحتلال الغادرة على أرض قريتها الفقوعة قرب جدار الفصل العنصري خلال قطاف الزيتون، فامتزجت دماؤها بحبّاته، فعلًا مدنيًا مقاوما لا عنفيّا في وجه مستعمري الأرض وقاطعي الأشجار.
وكثر مثل هؤلاء في الضفة الغربية المحتلة، وفي القدس، فاق عددهم منذ بداية الحرب على غزة الـ833 شهيدًا.

«القادة الشهداء»

والشهيد المقاتل أيضَا هو «الشهيد القائد».
وإسماعيل هنية، الذي انتخبه شعبه، والمنتخب في صناديق الاقتراع، ورئيس الحكومة الفلسطينية السابق ورئيس حركة «حماس»، احتل مكانه إلى جانب آخرين من قادة الشعب الفلسطيني الذين بذلوا حياتهم من أجل قضيتهم وعقيدتهم وإيمانهم.
وحسب تصريحاته السابقة، لم يكن هنية يستمهل الموت والشهادة، بل أقبل لها وهو العارف أن لعدوّه يدًا تطول لكنها في عقيدة المؤمن أضعف من أمر الله وقضائه.
والشهادة عند القادة الفلسطينيين، هي إرث يمتد منذ ما قبل النكبة، ومدعاة فخر وتبجيل واحترام عند الفلسطينيين.
وبهذا المعنى، كانت شهادة إسماعيل هنية، بعد استشهاد قسم كبير من عائلته.
وهذا النوع من الناس، السياسي والمقاوم في آن، لا يمكن للموت أن يهزمه أو يمحو ذكره أو ذكر خطّه. وتمتزج الشهادة بالمعنى الديني هنا، مع بعدها الوطني، لتعبّد الطريق إلى ذاكرة أجيال ستأتي، وتبني على الشيء مقتضاه. وهي بهذا المعنى، عند عموم الفلسطينيين، العنوان الآخر للبذل والتضحية ونكران الذات لأجل قضية أسمى بنظر شهدائها وبنظر شعبها وبنظر أجيالها المتعاقبة.
وربما، إن أردنا أن نتوقّع مستقبلًا ما، فقد تدرس هذه الأجيال الصراع من النقطة التي كانت حياة يحيى السنوار (أبو إبراهيم) ترتفع فيها إلى بارئها.
فالصورة الملحمية التي ظهر فيها زعيم حركة «حماس» خلال دقائقه الأخيرة، هي صورة المقاتل ـ القائد في وعي شرائح واسعة من الفلسطينيين ـ وغيرهم ـ التي تصرّ على القتال حتى الرّمق الأخير، ممتشقًا سلاحه، ولو بجسد أثخنته شظايا قنابل ورصاص الاحتلال، وبعصا هي ما استطاع إليه سبيلًا لضرب مسيّرة التجسّس الإسرائيلية.
ولا ريب أن سؤال الجندي المتحكّم بهذه المسيّرة، عن معركته الأخيرة مع السنوار، قد يقدّم تفاصيل أكثر عن كيف يرى الإسرائيلي «الممكنن» والمجهّز بكل عتاد وماكينات الإبادة الإلكترونية والتفوق التكنولوجي، معركته مع هذا السّاكن الأصلي العنيد، وماذا عساه اعتقد؟
والإرهاب الإسرائيلي الدولاتي هنا، الموجّه ضد المدنيين، يصطدم مع «إرهاب» يُتهم فيه صاحب الأرض.
وإذا كان الإرهاب الإسرائيلي تطوّر كثيرًا منذ قيام دولة إسرائيل، وكان يعتمد العنف السياسي الذي يمكن أن يوجّه حتى، (كما حدث فعلا مع اغتيال عصابتي مناحيم بيغن وإسحق شامير المبعوث الدولي برنادوت في أربعينيات القرن الماضي)، ضد ممثلي منظمة أمميّة أقيمت لمحاسبة النازي على جرائمه ضد اليهود ومنع تكرار مثلها، إلى إرهاب مادّي ومعنوي على مستوى صناعي ضد الشعب الفلسطيني، فإن «إرهاب» الفلسطيني لا تفسير ولا مرادف له في الوعي الشعبي الفلسطيني بشكل عامّ، إلا المقاومة الوطنية. وهي مقاومة لا تزال تستند ـ أيضَا منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن ـ على فكرة التحرر الوطني، ورفض الاقتلاع من الأرض، ورفض محو الهويّة.
وهذا ما يدركه كذلك عقلاء الإسرائيليين، كما في تصريح عاموس شوكين ناشر صحيفة «هآرتس» الذي قال فيه إنّ الفلسطينيين الذين تصفهم إسرائيل بـ«الإرهابيين»، هم «مقاتلو حرية»، قبل أن تعود «هآرتس» وتتنصّل من هذه التصريحات وتشير إلى أنها لا تقصد مقاتلي «حماس»، بعد ترهيب مورس ولا يزال عليها من قبل أجهزة الدولة الإسرائيلية.
وكما السنوار على أرض غزة، كان القائد الفلسطيني «السياسي المقاتل» عرضة للتصفية خارج البلاد المحتلة.
والشهيد هنا هو الشيخ صالح العاروري، أحد الحلقات العسكرية والسياسية المهمة في الرّبط مع حلفاء «حماس» في «محور المقاومة» الذي تقوده إيران، وفي العمل العسكري للحركة في الضفة الغربية، وكان من رواده المؤسسين، فضلًا عن تاريخه في تأسيس «حركة المقاومة الإسلامية» وحثّ التيار الإسلامي على تبني الكفاح المسلح.
ونموذج آخر للسياسي المقاتل الذي صفّته إسرائيل، خارج البلاد المحتلة، هو أحد قادة «كتائب شهداء الأقصى» العميد خليل المقدح الذي سبق لإسرائيل أن اتهمته بتهريب السلاح إلى الضفة الغربية.
ومن بين الذين استهدفتهم إسرائيل في الخارج، القيادي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» نضال عبد العال. واتهم الجيش الإسرائيلي عبد العال، الذي ارتقى مع رفيقه القيادي العسكري عماد عودة، بأنه «كان يقود جهودا منظمة «الجبهة الشعبية» لتخطيط وتنفيذ عمليات استهدفت إسرائيل، وعمل مسؤولا عن توجيه النشاطات للمنظمة في مناطق الضفة الغربية».

ذاكرة التكريم

وهذه الأسماء، وغيرها من القادة المقاتلين الذين ارتقوا، هي استمرار لتراث من تبجيل الشهادة عند الفلسطينيين.
خلّد الفلسطينيون الشهيد في كلّ جوانب حياتهم، ولتكريم معنى الشهادة من خلال نتاجهم الأدبي والفني والشعري، وفي الفولكلور الوطني.
وكان الشهيد يزفّ عريسًا، وهو ما دأبت على فعله أيضًا فصائل المقاومة والثورة الفلسطينية حتى يومنا في بيانات نعيها.
فالشهداء «نيّالهم» ونيّال أهلهم..
وهم «أجسادهمْ في تربة الأوطانِ أرواُحهُم في جنَّةِ الرّضْوانِ»، و«هناكَ لا شكوى من الطغيانِ وهناك فيْضُ العفْوِ والغفرانِ» (قصيدة «الثلاثاء الحمراء» للشاعر إبراهيم طوقان»)، ولسان حالهم في «الدلعونا» التي تتذكّر نفس القصة:
«اوعى يا اختي بعدي تنهمي
-لاجل هالوطن ضحيت بدمي
-وكله لعيونك يا فلسطينا»
(في تخليد شهداء ثورة البراق الذين أعدمهم الانتداب الإنكليزي عام 1930، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير).
وخلال عقود من الكفاح والمقاومة احتُفي بالشهيد عريسًا في الأغاني الشعبية والوطنية والأهازيج، فها هم الفلسطينيون قد «جابو الشهيد جابوه، جابو العريس جابوه، يا فرحة أمه وأبوه، أنا أمه يا فرح أمه، في عرسه في ليلة دمه، يا تراب الحرية ضمه، اخواته للثورة انضموا، بزغرودة يلا حيوه» («جابو الشهيد» – تأليف موسيقي: وجيه بدرخان، كلمات: صلاح الدين الحسيني).

 ـ «القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب