الباحث والخبير الاقتصادي اليمني وحيد الفودعي: اليمن يشهد أسوأ الأوضاع الاقتصادية التي مرّ بها في تاريخه الحديث

الباحث والخبير الاقتصادي اليمني وحيد الفودعي: اليمن يشهد أسوأ الأوضاع الاقتصادية التي مرّ بها في تاريخه الحديث
حاوره: أحمد الأغبري
يعيش اليمن أزمة اقتصادية متعددة الأوجه جراء الحرب المستعرة هناك منذ أكثر من عشر سنوات؛ وهي الأزمة التي تعبّر عن نفسها بوضوح في استمرار تردي الأوضاع المعيشية، كنتيجة طبيعية لتدهور قيمة العملة الوطنية، وتراجع القدرة الشرائية، مع استمرار تضاؤل قيمة المرتبات الحكومية، بالتوازي مع تصاعد مؤشرات الأزمة الانسانية. في هذا الحوار مع الباحث والخبير الاقتصادي اليمنيّ، وحيد الفودعي، سنحاول تقديم مقاربة لهذه الأزمة في محاولة لفهم واقعها وكيفية تجاوزها. فيما يلي نص الحوار:
○ كمستقرئ اقتصادي؛ هل يمكن الحديث عن انفراجة للأزمة الاقتصادية التي تعصف باليمن جراء الحرب أم أن اليمن يمضي اقتصاديًا باتجاه المزيد من التأزم؟
• في ظل الوضع الراهن، يبدو أن اليمن يمضي نحو مزيد من التأزيم الاقتصادي، ما لم تحدث تغييرات جذرية على المستويين السياسي والاقتصادي. الحرب المستمرة والانقسام السياسي والاقتصادي، إضافة إلى توقف صادرات النفط وانخفاض الإيرادات المحلية، أدت إلى عجز مالي كبير وأزمة معيشية خانقة. والحديث عن انفراجة قريبة يظل بعيد المنال في ظل غياب حلول شاملة وواقعية. حتى مع الدعم الخارجي، مثل المنح السعودية، فإنها تقدم حلولًا مؤقتة ولا تعالج جذور الأزمة. لذلك، بدون استئناف تصدير النفط، تعزيز الإيرادات المحلية، وتوحيد المؤسسات الاقتصادية، ستبقى الأزمة الاقتصادية تتفاقم، مع آثار كارثية على المواطن اليمني ومستقبل البلاد.
○ كيف تقيمون المشهد الاقتصادي اليمني اليوم مقارنة بما كان عليه قبل سنوات الحرب؟
• الوضع الاقتصادي في اليمن اليوم يمكن وصفه بأنه أحد أسوأ الأوضاع التي مر بها البلد في تاريخه الحديث، إذا ما قورن بفترة ما قبل الحرب. قبل اندلاع الصراع، كان الاقتصاد اليمني يعاني من تحديات هيكلية مثل الاعتماد الكبير على النفط والغاز، محدودية التنوع الاقتصادي، وضعف البنية التحتية، إلا أن هذه التحديات كانت ضمن إطار يمكن السيطرة عليه نسبيًا.
مع بدء الحرب، دخلت البلاد في دوامة من التدهور الاقتصادي الحاد. تعطلت صادرات النفط، التي كانت تمثل نحو 70% من الإيرادات الحكومية، وتعرضت القطاعات الحيوية الأخرى مثل الزراعة والصناعة والخدمات لأضرار جسيمة نتيجة القتال والبنية التحتية المدمرة. كما أدى الانقسام السياسي إلى انقسام المؤسسات الاقتصادية، مثل البنك المركزي، ما فاقم أزمة العملة وأضعف السيطرة على السياسات المالية والنقدية.
اليوم، يعيش الاقتصاد اليمني أزمة متعددة الأوجه تشمل انهيارًا في قيمة العملة، تضخمًا جامحًا، عجزًا ماليًا حادًا، وارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الفقر والبطالة. القدرة الشرائية للمواطنين تراجعت بشكل كبير، فيما أصبحت الحكومة عاجزة عن سداد الالتزامات الأساسية مثل رواتب الموظفين. الأزمات الإنسانية والاجتماعية، الناتجة عن شح الموارد وارتفاع تكاليف المعيشة، باتت تعمق حالة انعدام الأمن الغذائي وانتشار الأمراض.
بالمقارنة، يمكن القول إن الاقتصاد اليمني ما قبل الحرب، رغم هشاشته، كان يتمتع بمقومات تتيح له تحقيق نمو معقول واستقرار نسبي، بينما اليوم أصبح الاقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية، ما يجعله عرضة للضغوط السياسية الإقليمية والدولية.
○ إذا حاولنا تأطير الأزمة الاقتصادية بمزيد من التأصيل، أين تكمن المشكلة الحقيقية؟ هل في الفساد، غياب رؤية إصلاحية، أم في خلل إداري بين الأجهزة الحكومية، أم ماذا؟
• المشكلة الحقيقية للاقتصاد اليمني اليوم هي مزيج معقد من عوامل بعضها ذكرته لك سابقا، إضافة إلى عوامل الفساد، غياب الرؤية الإصلاحية، والخلل الإداري بين الأجهزة الحكومية، لكنها تتجاوز هذه الجوانب لتصل إلى الانقسام السياسي الحاد الذي أفرز انقسامًا اقتصاديًا على كافة المستويات، سواء في السياسات المالية أو النقدية. أبرز مثال على ذلك هو انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن، ما أدى إلى غياب إدارة موحدة للسياسات النقدية، وبالتالي تعمق الأزمة الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، فإن توقف صادرات النفط بسبب الهجمات الحوثية على موانئ التصدير شكّل ضربة قاسية للاقتصاد. فقدت الحكومة الشرعية ما يقارب 1.44 مليار دولار سنويًا من الإيرادات النفطية، وهو ما يعادل نحو 120 مليون دولار شهريًا. كما أن تحويل مسار السفن من ميناء عدن إلى ميناء الحديدة، الذي يقع تحت سيطرة «أنصار الله» (الحوثيون)، أفقد الحكومة الشرعية 540 مليون دولار سنويًا، أي حوالي 45 مليون دولار شهريًا. بإجمالي خسائر سنوية تصل إلى 1.98 مليار دولار، وباتت الحكومة غير قادرة على تغطية التزاماتها الأساسية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب الموازنة العامة للدولة لدى الحكومة الشرعية منذ سنوات أسهم في تفاقم الأزمة. عدم وجود موازنة يعكس غياب التخطيط الاقتصادي وعدم القدرة على إدارة الموارد بكفاءة، ما جعل الاعتماد على المساعدات الخارجية هو السبيل الوحيد لتسيير شؤون الدولة. هذا الاعتماد، رغم أهميته في المدى القصير، يعمّق هشاشة الاقتصاد ويتركه عرضة للتقلبات السياسية الإقليمية والدولية. إجمالاً، يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية في اليمن اليوم هي نتيجة حتمية لتداخل الفساد الإداري والسياسي مع الانقسام الوطني والتوقف شبه الكامل لمصادر الدخل الرئيسية.
○ كيف تطورت الأزمة الاقتصادية وصولًا إلى انهيار العملة الوطنية، تسربها إلى سوق العملات، وارتفاع فاتورة الاستيراد؟
• الأزمة الاقتصادية في اليمن تطورت بشكل تدريجي نتيجة لتداخل عوامل الحرب، سوء الإدارة، والانقسامات السياسية. مع توقف صادرات النفط، الذي كان المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية، مما أدى إلى عجز هائل في الميزانية. هذا التراجع المالي دفع الحكومة إلى تمويل العجز من خلال طباعة العملة بشكل مفرط، دون وجود غطاء نقدي أو احتياطي أجنبي كافٍ.
هذا التوسع في الكتلة النقدية أدى إلى انهيار قيمة العملة الوطنية بشكل كبير، ما تسبب في ارتفاع معدلات التضخم وتآكل القدرة الشرائية للسكان. على سبيل المثال، أصبح المواطن العادي يعاني من غلاء المعيشة بشكل غير مسبوق، مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية بسبب اعتماد اليمن بشكل كبير على الواردات، التي يتم تمويلها بعملات أجنبية أصبحت نادرة.
في الوقت نفسه، أدى الانقسام السياسي إلى انقسام البنك المركزي بين عدن وصنعاء، ما عطل إدارة السياسات النقدية بشكل موحد. هذا الانقسام سمح بتسرب العملة الأجنبية إلى السوق السوداء بدلاً من استخدامها لتلبية الاحتياجات الوطنية، ما زاد من الضغط على الاقتصاد الرسمي.
إضافة إلى ذلك، فإن فاتورة الاستيراد ارتفعت نتيجة اعتماد البلاد شبه الكامل على الواردات لتلبية احتياجات السوق المحلي، في ظل شلل شبه كامل للقطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة. هذا الاعتماد على الاستيراد أدى إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية في ظل انخفاض كبير في المعروض منها، ما ساهم في تفاقم أزمة العملة الوطنية وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل عام. إجمالًا، الأزمة الاقتصادية تطورت نتيجة مزيج من توقف الإيرادات النفطية، سوء إدارة السياسات النقدية، الانقسام السياسي، والاعتماد الكبير على الاستيراد وغيرها من العوامل، ما جعل الاقتصاد اليمني في حالة انهيار مستمر.
طباعة العملة
○ ماذا عن موضوع تسرب النقد من الدورة النقدية واتجاهها ناحية الصرافين؟ لم تجبني على ذلك…؟
• بالنسبة لتسرب العملة المحلية إلى السوق الموازية بدلاً من البنوك، فقد نتج عن مجموعة من العوامل التي عمقت الأزمة. من أبرز هذه الأسباب انعدام الثقة بالبنوك نتيجة الانقسام السياسي والنقدي بين الأطراف المتصارعة، وتجميد أرصدة البنوك لدى البنك المركزي في صنعاء، بما في ذلك أدوات مالية مثل أذون الخزانة. كما ساهمت بعض الممارسات غير المسؤولة من قبل سلطة الأمر الواقع في صنعاء، مثل منع تداول الطبعة الجديدة من العملة في المناطق التي تسيطر عليها، وإصدار قانون يمنع الفوائد الربوية، في زعزعة استقرار القطاع المصرفي…ألخ.
هذه العوامل مجتمعة دفعت المواطنين والتجار إلى سحب ودائعهم من البنوك والاعتماد على سوق الصرافة بدلاً من القطاع المصرفي الرسمي. ونتيجة لذلك، أصبحت هناك كتلة نقدية كبيرة خارج النظام المصرفي، ما أدى إلى اختلال التوازن النقدي وزيادة المضاربة على العملة. هذه التطورات، بالإضافة إلى عوامل اقتصادية أخرى مثل توقف صادرات النفط وغياب الإيرادات الحكومية، ساهمت بشكل كبير في تدهور قيمة الريال اليمني وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
○ برأيكم، هل كانت بداية المشكلة في طباعة العملة دون غطاء أم في غياب الدور الفعال للبنك المركزي؟
• كما قلت لك، المشكلة الاقتصادية في اليمن ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة الأمد تفاقمت مع بداية الحرب. مع اندلاع الصراع، دخلت البلاد في دوامة من التدهور الاقتصادي الحاد. تعطلت صادرات النفط، التي كانت تشكل شريان الحياة للاقتصاد، وتعرضت القطاعات الحيوية الأخرى مثل الزراعة والصناعة والخدمات لأضرار جسيمة نتيجة القتال وتدمير البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، أدى الانقسام السياسي إلى انقسام المؤسسات الاقتصادية، مثل البنك المركزي، ما زاد من تعقيد الأزمة وأضعف القدرة على إدارة السياسات المالية والنقدية.
لا يمكن حصر بداية المشكلة في طباعة العملة دون غطاء فقط، لكنها كانت أحد العوامل الرئيسية التي عمّقت الأزمة. طباعة العملة بشكل مفرط من دون وجود غطاء نقدي أو احتياطي كافٍ تسبب في انخفاض حاد في قيمة الريال اليمني، ارتفاع معدلات التضخم، وتآكل القوة الشرائية للمواطنين.
في الوقت نفسه، غياب الدور الفعال للبنك المركزي منذ انقسامه بين عدن وصنعاء شكّل عاملًا أساسيًا آخر في تفاقم المشكلة. هذا الانقسام منع توحيد السياسات النقدية والرقابة المالية، ما أدى إلى تسرب العملات الأجنبية إلى السوق السوداء بدلاً من استغلالها لدعم الاقتصاد الوطني.
بالتالي، الأزمة الاقتصادية في اليمن هي نتيجة مزيج معقد من القرارات النقدية غير المدروسة، الفساد، الانقسام السياسي، وغياب إدارة مركزية فعّالة، ما جعل الوضع أكثر تعقيدًا وترك الاقتصاد في حالة انهيار شبه كامل.
○ انعكاسًا لتدهور العملة، تراجعت القدرة الشرائية وضعفت قيمة الرواتب الحكومية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة المعيشية. هل كان بالإمكان تجنب هذا التدهور؟ وكيف؟
• تدهور العملة وتراجع القدرة الشرائية كان بالإمكان تجنبه أو على الأقل تقليل آثاره لو تم اتخاذ إجراءات إصلاحية عاجلة ومدروسة في الوقت المناسب. أولًا، كان من الضروري أن تعمل الحكومة على تعزيز ثقة المواطنين والمؤسسات في القطاع المصرفي من خلال تحسين إدارة البنك المركزي، وتوحيد السياسات النقدية بين الأطراف المختلفة، والحد من الانقسام المؤسسي. ثانيًا، كان يمكن تجنب التوسع الكبير في طباعة العملة من دون غطاء نقدي من خلال الاعتماد على سياسات مالية أكثر انضباطًا، مثل ترشيد الإنفاق الحكومي، تحسين كفاءة تحصيل الإيرادات المحلية، وضبط النفقات غير الضرورية. ثالثًا، كان ينبغي للحكومة التركيز على تنشيط القطاعات الإنتاجية، خاصة الزراعة والصناعة، لتقليل الاعتماد على الواردات التي تزيد الطلب على العملات الأجنبية. كذلك، تعزيز الصادرات غير النفطية، واستغلال الموارد المحلية، كان من شأنه أن يخفف الضغط على ميزان المدفوعات ويزيد من الاحتياطي النقدي. رابعًا، كان يمكن إدارة التدفقات النقدية بشكل أفضل من خلال إجراءات لمنع المضاربة على العملة المحلية، وضمان استقرار السوق المصرفية عبر تقديم حوافز لتشجيع المواطنين والتجار على التعامل مع البنوك بدلًا من السوق الموازية. خامسًا، إعادة تصدير النفط تمثل خطوة محورية كان يمكن أن تخفف من حدة الأزمة الاقتصادية وتحد من تدهور العملة. فلو تمكنت الحكومة الشرعية من استئناف تصدير النفط بشكل مستدام، لساهم ذلك في توفير إيرادات نقدية كبيرة تُقدر بنحو 1.44 مليار دولار سنويًا، مما يعزز الاحتياطي النقدي ويدعم استقرار العملة. هذه الإيرادات كان يمكن استخدامها لدفع المرتبات، تمويل الخدمات الأساسية، وتقليل الاعتماد على طباعة العملة أو المساعدات الخارجية. إعادة التصدير تحتاج إلى استقرار أمني وسياسي، مع ضمان آليات شفافة لإدارة العائدات. أخيرًا، لو توفرت شفافية أكبر وإرادة سياسية جادة في تنفيذ إصلاحات هيكلية، مع دعم دولي موجه نحو الاستقرار الاقتصادي، لكان بالإمكان تقليل تدهور العملة وآثاره الكارثية على معيشة المواطنين.
○ هل تعتقدون أن الركون الحكومي على الدعم الخارجي ساهم في ضعف تحصيل الإيرادات المحلية والضريبية، مع العجز عن إيجاد بدائل لتعويض توقف تصدير النفط؟
• أرى أن الركون الحكومي على الدعم الخارجي هو جزء من المشكلة وليس كلّها. الدعم الخارجي ساهم في سد بعض الفجوات المالية، لكنه خلق حالة من الاعتماد شبه الكلي، مما أدى إلى تساهل الحكومة في تحصيل الإيرادات المحلية، سواء الضريبية أو الجمركية. هذا التسيب انعكس سلبًا على الاقتصاد، خصوصًا في ظل توقف صادرات النفط، التي كانت تمثل مصدر الإيرادات الرئيسي.
الغياب الواضح لاستراتيجية حكومية لتعويض توقف النفط ببدائل اقتصادية، مثل تحسين إدارة الموارد غير النفطية أو تنشيط القطاعات الإنتاجية كالتجارة والزراعة، زاد من عمق الأزمة. المشكلة هنا مزدوجة، من جهة، الاعتماد على دعم خارجي غير مستدام، ومن جهة أخرى، عدم استغلال الإمكانيات المتاحة لتعزيز الإيرادات المحلية بشكل كافٍ.
○ كيف تقيمون الدعم السعودي، خاصة المنحة التي أوشكت على النفاد، للبنك المركزي؟ وهل هو حل مستدام أم مجرد مسكن مؤقت؟
• الدعم السعودي للحكومة الشرعية، مثل منحة عام 2023 البالغة 1.2 مليار دولار، كان له دور مهم في توفير سيولة مؤقتة ساعدت على استقرار العملة نسبيًا وتغطية بعض الالتزامات العاجلة مثل دفع المرتبات. إضافة إلى ذلك، تم الإعلان مؤخرًا عن دعم جديد بقيمة 500 مليون دولار، منها 300 مليون كوديعة للبنك المركزي و200 مليون كدفعة أولى من حزمة دعم أخرى تقدر بـ 1.2 مليار دولار. ومع ذلك، فإن هذا الدعم لا يكفي ولا يعوض الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الحكومة الشرعية نتيجة توقف صادرات النفط وتحويل مسار السفن، والتي تُقدر كما ذكرنا سابقا بنحو 1.98 مليار دولار سنويًا (1.44 مليار دولار من صادرات النفط و540 مليون دولار من رسوم الشحن).
هذا الوضع يبرز الفجوة المالية الهائلة التي لا يمكن سدها بالدعم الخارجي وحده، مما يجعل الاعتماد عليه حلاً غير مستدام. في ظل استمرار غياب الإيرادات الذاتية والانقسام السياسي والاقتصادي، يظل الاقتصاد اليمني في حالة ضعف شديد، ما يستدعي إصلاحات جذرية تشمل استئناف تصدير النفط وتحسين إدارة الموارد المحلية لتعزيز الاستقرار وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
المرتبات
○ كيف يمكن تفسير عجز الحكومة عن دفع المرتبات بمجرد نفاد الدعم السعودي، في ظل عدم قدرتها على إيجاد بدائل إيرادية أو ضبط تسرب الحصيلة المالية؟
• عجز الحكومة عن دفع المرتبات بمجرد نفاد الدعم، وأقصد بدعم الموازنة لعام 2023، يعكس اعتمادها شبه الكامل على المساعدات الخارجية، مع غياب استراتيجيات فعالة لتعزيز الإيرادات الذاتية. ضعف تحصيل الإيرادات المحلية، مثل الضرائب والجمارك، وتسرب جزء كبير منها بسبب الفساد وسوء الإدارة، ساهم في تفاقم العجز. بالإضافة إلى ذلك، لم تتخذ الحكومة خطوات كافية لتعويض توقف الإيرادات النفطية عبر بدائل اقتصادية مستدامة. هذه العوامل مجتمعة تركت الحكومة في مواجهة أزمة مالية خانقة بمجرد انتهاء الدعم الخارجي.
○ أقصد أين موارد الدولة، ولماذا لم يتم التركيز على تعزيز الموارد القائمة وابتكار موارد جديدة تعوض عن إيرادات النفط والغاز؟
• أغلب الموارد الضريبية والجمركية في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين، والتي تشمل ضرائب كبار المكلفين، وإيرادات الموانئ الحيوية مثل ميناء الحديدة. هذا الوضع أدى إلى حرمان الحكومة الشرعية من جزء كبير من إيرادات الدولة، مما زاد من صعوبة تعزيز الموارد القائمة. ومع غياب سيطرة الحكومة على معظم هذه الموارد وعدم استغلالها لما تبقى من موارد ضريبية وجمركية تحت سيطرتها، لم يتم التركيز بشكل كافٍ على تطوير بدائل اقتصادية مستدامة أو تحسين القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والايرادات السمكية. النتيجة هي اعتماد شبه كلي على النفط والغاز، وعند توقف هذه الإيرادات، أصبح الاقتصاد أكثر هشاشة وعُرضة للأزمات.
○ ماذا يعني استمرار استيراد النفط مع وجود نفط مخزن في الموانئ لا يتم تصديره؟
• استيراد المشتقات ليس مرتبطًا بتوقف إنتاج أو تصدير النفط المحلي، بل بمصفاة عدن المتوقفة عن العمل. إعادة تشغيل المصفاة يمكن أن تسهم في تكرير النفط المحلي، مما يقلل الحاجة إلى استيراد المشتقات النفطية ويخفف الضغط على العملة الصعبة، مع تحسين إدارة الموارد بشكل أكثر كفاءة.
○ ما دور البنك المركزي في مواجهة أزمتي المرتبات والعجز في ميزان المدفوعات؟
• من المهم التعامل مع موضوعي المرتبات والعجز في ميزان المدفوعات كقضيتين منفصلتين، لأن كلاهما يندرج تحت مسؤوليات وآليات مختلفة. فيما يتعلق بالمرتبات، فهي مسؤولية الحكومة التي تعتمد على الإيرادات العامة مثل الضرائب، الجمارك، وعائدات النفط. البنك المركزي لا يمتلك موارد مستقلة لتغطية المرتبات، ودوره يقتصر على تسهيل العمليات النقدية وإدارة السيولة. غياب السيطرة الحكومية على الإيرادات وتوريدها للخزينة العامة أدى إلى تعثر دفع المرتبات.
أما العجز في ميزان المدفوعات، فهو مرتبط بإدارة البنك المركزي للعملات الأجنبية وتغطية فاتورة الاستيراد. توقف صادرات النفط وتراجع الاحتياطيات الأجنبية جعل البنك عاجزًا عن تمويل الواردات بشكل كافٍ، مما زاد من الضغط على العملة الوطنية. معالجة هذا العجز تتطلب استئناف تصدير النفط، تعزيز الصادرات، وإصلاح السياسات النقدية والمالية لضمان استقرار السوق.
○ لماذا فشلت الحكومة في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي المقدم من صندوق النقد العربي؟
• فشلت الحكومة في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي المقدم من صندوق النقد العربي لعدة أسباب رئيسية: أولاً، الانقسام السياسي والمؤسسي بين أطراف الصراع أعاق تنفيذ سياسات إصلاح موحدة وشاملة، خاصة في ظل انقسام البنك المركزي وغياب التنسيق بين المؤسسات المالية. ثانيًا، ضعف القدرة الإدارية والتنظيمية للحكومة، وغياب رؤية واضحة للإصلاح الاقتصادي، حالا دون تطبيق الخطوات التي يتطلبها البرنامج، مثل تحسين تحصيل الإيرادات، ضبط الإنفاق العام، وتعزيز الشفافية. ثالثًا، الأوضاع الأمنية غير المستقرة والحرب المستمرة منعت الحكومة من إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية أو استثمار الموارد المتاحة. كما أن اعتماد الحكومة على الدعم الخارجي بدلاً من العمل على إصلاحات داخلية حقيقية جعل تنفيذ البرنامج تحديًا كبيرًا. أخيرًا، تفاقم الأزمة الإنسانية والاجتماعية جعل الأولويات تنصب على مواجهة الأزمات العاجلة بدلاً من التركيز على الإصلاحات الاقتصادية طويلة الأمد.
○ للأزمة الاقتصادية أوجه متعددة، يمكن قراءتها في البطالة كعنوان لتعثر عجلة الإنتاج. ما هي أبعاد استمرار ارتفاع مؤشرات البطالة والفقر والمرض والوفيات في حال استمر الوضع الراهن لعقد قادم على الأقل؟
• استمرار ارتفاع البطالة والفقر والمرض والوفيات لعقد قادم في ظل الوضع الراهن يعني مزيدًا من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. تعثر عجلة الإنتاج سيزيد من اعتماد اليمن على المساعدات الخارجية، بينما يفاقم انعدام الأمن الغذائي والمعيشي. انتشار الأمراض بسبب نقص الخدمات الصحية وارتفاع معدلات الوفيات نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة سيؤدي إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة، ما يضعف فرص التعافي الاقتصادي والاجتماعي حتى في حالة انتهاء الصراع مستقبلاً.
○ رغم تعثر جهود الأمم المتحدة لدفع الأطراف نحو توقيع خريطة طريق شاملة، ما زال مكتب المبعوث الأممي يعمل على التوصل إلى اتفاق اقتصادي بين الطرفين. هل يمكن تحقيق اتفاق اقتصادي يتجاوز انقسام البنكين المركزيين والسوق المصرفية، ويسهم في استئناف تصدير النفط؟
• التوصل إلى اتفاق اقتصادي بين الأطراف اليمنية ممكن من الناحية النظرية، لكنه يواجه تحديات كبيرة. نجاح الاتفاق يتطلب إرادة سياسية حقيقية وتجاوز الانقسامات بين البنكين المركزيين وتوحيد السياسات النقدية. استئناف تصدير النفط يمكن أن يكون خطوة لتعزيز الثقة، لكن ذلك مشروط بتوافق اقتصادي شامل وآليات شفافة لتوزيع الإيرادات.
الاتفاق الاقتصادي يمثل أولوية قصوى؛ لأنه يرتبط مباشرة بحياة المواطنين واستقرار البلاد. معالجة القضايا الاقتصادية، مثل استئناف تصدير النفط وتوحيد السياسات النقدية، يمكن أن توفر إيرادات لدفع المرتبات، تمويل الخدمات الأساسية، وتخفيف الأزمات الإنسانية.
الاتفاق الاقتصادي يمهد الطريق لتحقيق استقرار نسبي، ما يعزز الثقة بين الأطراف ويوفر أرضية مشتركة للتفاهم، وهو ما قد يفتح الباب لاحقًا لحلول سياسية أكثر شمولية. التركيز على الجانب الاقتصادي أولاً يمنح الأطراف فرصة لمعالجة القضايا العاجلة التي تؤثر على الناس بشكل يومي، ما يجعله ضرورة لا يمكن تأجيلها.
○ في الوقت الراهن، ما هي الحلول المتاحة أمام الحكومة المعترف بها لسداد التزاماتها؟
• في الوقت الراهن، الخيارات المتاحة أمام الحكومة لسداد التزاماتها محدودة وتتطلب مزيجًا من الإجراءات العاجلة والاستراتيجية: أولا، استئناف تصدير النفط، الذي يمثل الحل الأسرع لتعزيز الإيرادات، لكن ذلك يعتمد على تحقيق استقرار أمني وسياسي وضمان حماية موانئ التصدير. ثانيا: تعزيز تحصيل الإيرادات المحلية من خلال تحسين كفاءة الجباية الضريبية والجمركية وضبط تسرب الإيرادات. ثالثا: تقليل الإنفاق غير الضروري من خلال مراجعة النفقات الحكومية وترشيدها، بما في ذلك تقليل الإعاشات الخارجية والمصاريف غير الضرورية. رابعا: طلب دعم إضافي من خلال السعي للحصول على دعم مالي إضافي من الدول المانحة والمؤسسات الدولية كحل مؤقت لتغطية الالتزامات العاجلة. خامسا: تشغيل القطاعات الإنتاجية من خلال العمل على تفعيل القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصيد لتوفير مصادر دخل محلية وتخفيف الاعتماد على الاستيراد. سادسا: تشغيل مصفاة عدن، وإعادة تشغيل المصفاة لتكرير النفط المحلي، ما يقلل الحاجة إلى استيراد المشتقات النفطية ويخفف الضغط على العملة الصعبة. سابعا: تعزيز الشفافية والإصلاحات من خلال تطبيق إصلاحات مالية وهيكلية لزيادة ثقة المانحين والمستثمرين، مع ضمان توجيه الموارد نحو الأولويات الأساسية كدفع المرتبات وتمويل الخدمات. هذه الحلول تتطلب إرادة سياسية قوية وإدارة فعالة لتخفيف الأزمة بشكل مستدام.
القدس العربي