بيلاريجيا التونسية: عاصمة جمال أثرية عجز الزمن عن سحقها
بيلاريجيا التونسية: عاصمة جمال أثرية عجز الزمن عن سحقها
روعة قاسم
تونس ـ : تقع مدينة بلاريجيا أو بولا ريجيا الأثرية في الشمال الغربي للبلاد التونسية وتحديدا بولاية جندوبة التي تعتبر من أجمل ولايات البلاد التونسية، إن لم تكن أجملها، بغاباتها وجبالها وأنهارها وبحيراتها وسدودها وأراضيها الفلاحية الخصبة وشواطئها. فلم يكن اختيار الأولين موقع بيلاريجيا لبناء هذه المدينة الهامة في الأزمنة الغابرة من باب الصدفة وذلك بالنظر للجنان التي تحيط بها والتي تجعل الحياة جميلة ورائعة وآسرة للقلب والروح في بحثهما عن الجمال ومتطلبات العيش والهدوء والسكينة.
فالمدينة الأثرية تقع على سفح جبل مرتفع، وتشرف على سهل وادي مجردة الذي جعل، ومنذ الأزل، شمال البلاد التونسية أرضا زراعية منتجة لكل أنواع الزراعات سواء الكبرى أو السقوية أو غيرها. وهي مطلة على الطريق الرابط بين مدينة قرطاج عاصمة جمهورية قرطاج التاريخية، وعاصمة مقاطعة أفريكا الرومانية وعاصمة أفريكا الوندالية والبيزنطية، وبين عنابة التي كانت مندمجة ضمن هذا الفضاء الحضاري التونسي. كما تقع بيلاريجيا على الطريق المؤدي إلى مدينة طبرقة الساحلية القرطاجية أو ثاباركا، والذي يقطع جبال خمير، وذلك عبر فرنانة وعين دراهم الخلابة التي تنعت بكونها سويسرا شمال أفريقيا بالنظر إلى غاباتها وجبالها وطرازها المعماري الشبيه بالريف السويسري.
حضارات متعاقبة
فلم يكن من باب الصدفة أن يقع عليها اختيار الملك النوميدي ماسينيسا لتكون عاصمته وهو الذي ولد في مدينة دقة أو دوقا الأثرية التونسية غير البعيدة عن بيلاريجيا والواقعة على الطريق إلى مدينة قرطاج عاصمة جمهورية قرطاج. ولذلك فإن بولا ريجيا تعني باللغة القديمة بولا الملكية باعتبارها مركز حكم الملك ماسينيسا، الذي كان حليفا لقرطاج في أواخر عهدها وبعد انحسار هيمنتها ونفوذها ثم غدر بها لصالح روما القوة الناشئة.
والجميل في بيلاريجيا أن آثارها في حالة حسنة جدا وبقيت صامدة حتى اليوم رغم مرور الزمن، ورغم العوامل الطبيعية والمناخية التي عادة ما تتسبب في انهيار الأسقف والجدران والأعمدة في المدن التاريخية التي هجرها أهلها. وتدل المباني الفخمة المزدانة بالتماثيل والفسيفساء في بيلاريجيا على أهمية من سكن تلك المدينة في عصورها الذهبية من حيث المال والجاه والنفوذ والسلطة لتؤكد على أنها فعلا بولا الملكية التي لا تضاهيها أي مدينة نوميدية أخرى من حيث الجمال.
لقد تأسست بيلاريجيا أو بولا ريجيا على الأرجح في القرن الرابع قبل الميلاد وخضعت لنفوذ قرطاج التي تأسست قبلها بخمسة قرون حسب بعض المؤرخين، وتسعة قرون حسب البعض الآخر، باعتبار أن تاريخ تأسيس قرطاج فيه اختلاف بين من يقول أنه تم في سنة 814 ق. م وبين من يرجعه إلى سنة 1250 ق. م وهو الأرجح. وبعد سقوط قرطاج منح الرومان تسيير شمال أفريقيا بالوكالة إلى النوميديين فأصبحت بيلاريجيا الملكية سنة 156 ق. م عاصمة للملك النوميدي ماسينيسا وكيل روما، التي لم تنتظر طويلا حتى تقرر تسيير المنطقة مباشرة بنفسها ومن دون الحاجة إلى وساطة النوميديين فتصطدم بهم في زمن الملك يوغرطة الذي اتخذ من مدينة قلعة سنان التونسية عاصمة له، والتي تضم مائدته ومعقله إلى اليوم.
وبعد قضاء روما على من تمرد من حلفائها النوميديين، وحلولها مباشرة مكانهم في تسيير شمال أفريقيا، أعادت الحياة إلى مدينة قرطاج مجددا لتصبح عاصمة مقاطعة أفريكا الرومانية التي تضم تونس الحالية وشرق الجزائر والغرب الليبي. وازدهرت الحياة في بيلاريجيا التي تحولت فعليا إلى مدينة رومانية فأضيفت لها الكثير من المباني والمعالم التي بقي الكثير منها متواجدا إلى اليوم، وتوسعت في المساحة بتدفق سكان جدد من المناطق المحيطة ومن الوافدين على البلاد.
واعتبر أغلب المؤرخين بأن المدينة الملكية عاشت مع الرومان عهدا جديدا من المجد لا يختلف عن تحولها إلى عاصمة للنوميديين في زمن حليف روما ماسينيسا، وذلك بالرغم من كونها ليست عاصمة المقاطعة التي اختار الرومان أن تكون مدينة قرطاج عاصمة إمبراطورية قرطاج السابقة، عدوتهم اللدود التي تصارعوا معها لعقود طويلة. وبالمقابل فإن بيلاريجيا لم تعرف ازدهارا يذكر خلال فترة حكم البيزنطيين لمدن قرطاج وسبيطلة ودقة وغيرها التي أضيف لها الكثير أيضا من المعمار وازدهرت فيها الحياة السياسية والتجارية والفكرية والثقافية وما زالت الآثار فيها بادية إلى اليوم.
ونتيجة لإهمالها من قبل البيزنطيين الذين أدركهم الإسلام في أفريكا أو أفريقية (تونس الحالية مثلما كانت تسمى في الفترة الرومانية والبيزنطية والإسلامية)، لم تعد بيلاريجيا جاذبة للسكان ويرجح البعض أن معالم الحياة بدأت تختفي فيها مع بداية الألفية الثانية. ولم توجد دراسات تتحدث عن وضع المدينة خلال فترة حكم الوندال الذين أسسوا دولة دامت قرابة مئة عام، اتخذت من مدينة قرطاج عاصمة لها، وبسطت نفوذها خلال الفترة التي تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وسبقت الغزو البيزنطي للبلاد.
ويشار إلى أن المعطيات المتعلقة بالمدينة خلال فترة حكم الوندال وهي الفترة الممتدة ما بين سنتي 439 و533 للميلاد غير متوفرة باعتبار أن الفترة قصيرة ولم تتجاوز القرن من الزمان شأنها شأن الفترة البيزنطية التي تجاوزت القرن ونصف بقليل وكلاهما لا يقارن مثلا بالدولة القرطاجية التي دامت قرابة الألف عام من تاريخ البلاد التونسية. لكن ما يؤكد عليه المؤرخون أن بيلاريجيا كانت موجودة خلال تلك الفترة لكن لم يكن لها دور يذكر في الأحداث التاريخية وأن الحروب والمعارك التي كانت تحصل بين الوندال والبيزنطيين لم تؤثر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، فخلال هذه الفترة والفترة البيزنطية التي بدأت سنة 533 وانتهت في القرن السابع للميلاد مع الفتح الإسلامي لتونس تم بناء كنائس وحصون ومقابر تخص السكان الذين اعتنقوا الديانة المسيحية وازدهرت الحياة في المدينة.
إن أهم ما يميز بلاريجيا هو بيوتها الأرستقراطية الراقية والفخمة والمزدانة بلوحات الفسيفساء والتماثيل، ذات الطوابق والتي تضم غرفا عديدة ومرافق هامة للسكن والنظافة والإستحمام والعبادة، وهي فريدة من نوعها في تونس في العصور القديمة باعتبارها تضم طوابق تحت الأرض. فمدينة قرطاج على سبيل المثال عُرفت ببناء الطوابق لكن لم يذكر المؤرخون أن منازلها كانت تضم طوابق تحت الأرض للسكن والعبادة على غرار مدينة بيلاريجيا الملكية، بل أن طوابقها تحت الأرض كانت مخصصة إما لتجميع مياه الأمطار أو لتخزين المؤن.
ويرى البعض أن سبب البناء تحت الأرض هو الوقاية من الحرارة صيفا ومن شدة البرد شتاء خاصة وأن تلك الربوع من البلاد التونسية تعرف شتاء بانخفاض درجات الحرارة وتهاطل الثلوج، كما تعرف صيفا بارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات هامة. وبذلك نجح سكان بيلاريجيا القدامى في تشييد مدينة يطيب فيها العيش بشهادة المؤرخين واستطاعت طيلة قرون أن تصبح عاصمة للنوميديين وملكهم في البداية ثم مقصدا للعائلات الأرستقراطية في فترة حكم الرومان وسيطرتهم على البلاد.
وقد قام المكتشفون من علماء الآثار الذين نقبوا على أسرار بلاريجيا في القرن التاسع عشر بتسمية المساكن بالنظر إلى لوحات الفسيفساء (الموزاييك) الذي تتضمنه هذه المنازل الفاخرة التي أبهرت هؤلاء المكتشفين وأيضا زائري بلاريجيا. ومن الأسماء التي أطلقت على هذه المنازل، منزل فينوس، ومنزل القنص، ومنزل القنص الجديد، ومنزل صيد السمك، ومنزل الفسيفساء، ومنزل الكنز وغيره من الأسماء التي أطلقت على هذه النفائس الأثرية التونسية.
معالم هامة
لم تعد بلاريجيا اليوم مدينة مأهولة بالسكان وهجرها أهلها إلى المدن والقرى المجاورة ولم يبق منها سوى الموقع الأثري التي يعتبر كنزا هاما ووثيقة تاريخية تدل على عراقة هذه الأرض التونسية وعلى مخزونها الحضاري والثقافي والتراثي الهام. ويحتوي الموقع على معالم هامة بقيت مكوناتها قائمة إلى يوم الناس هذا رغم عدم تعهدها بالصيانة في الأزمنة الغابرة وهجرة السكان لهذه المدينة في وقت مبكر والتحصن بقرى وتجمعات سكنية أخرى غير بعيدة عن بيلاريجيا.
وبالإضافة إلى الموقع الأثري تضم بيلاريجيا اليوم متحفا يعرض لوحات فسيفساء وتوابيت إضافة لعدة آثار تعود إلى الحقب القرطاجية النوميدية والرومانية وهو مزار مفتوح للسياح المهتمين بتاريخ البلاد التونسية الذي هو جزء لا يتجزأ من حضارات البحر الأبيض المتوسط. كما نقلت قطع عديدة من آثار بلاريجيا ولوحاتها الفسيفسائية النفيسة إلى المتحف الوطني بباردو بالعاصمة التونسية وهو المتحف الأهم بالبلاد من حيث الشهرة العالمية بالنظر لما يتضمنه من آثار نادرة تخص كل مراحل التاريخ التونسي وخصوصا زمن قرطاج وعصر الإمبراطوريات الإسلامية.
ويشار إلى أن أقدم الشواهد التاريخية ببلاريجيا يعود إلى عصور فجر التاريخ وهو ما يؤكد على أن هذه المدينة أقدم من الحضارات التي تنسب إليها وهي القرطاجية والنوميدية والرومانية والبيزنطية. وهو ما جعل البعض يؤكد على أن قصة الحضارات الوافدة على تونس، والتي تنسب إلى جغرافيا أخرى بعيدة عن تونس الحالية، هي من تلفيق الرومان والإغريق والمستعمرين الجدد لمحو أي أثر للإنسان التونسي في تشكيل حضاراته وليتم القبول بالاستعمار الجديد على أنه وافد مثل غيره. ومن بين المعالم التي تضمها بيلاريجيا الساحة العمومية أو الفوروم والبازيليكا والحمامات العمومية وأهمها الحمام الممّي المنسوب إلى جوليا ماميا، وكذلك الحمام الكبير الواقع جنوبا، والحمام الواقع شمال غربي المسرح. كما تضم بيلاريجيا مبنى المكتبة القديمة وفضاء السوق والمسرح نصف الدائري والمدرج والمعابد التي تعود إلى مختلف الحضارات والحقب، من معابد الآلهة القرطاجية والنوميدية والرومانية، إلى الكنائس الرومانية والبيزنطية، باعتبار أن الرومان عرفوا فترتين واحدة وثنية وأخرى مسيحية.
يرى وليد الغزواني الباحث في التاريخ والتراث، وأصيل منطقة فرنانة المتاخمة لبيلاريجيا في حديثه لـ«القدس العربي» أن بولاريجيا أو بولا الملكية هي واحدة من عواصم للنوميديين تقع في غرب تونس على غرار دقة أو دوقا مسقط رأس ماسينيسا، والكاف سيرتا وزاما ريجيا، وقلعة سنان عاصمة يوغرطة التي يتواجد فيها معقله أو مائدته كما يتم تعريفها. ففي أواخر عهد قرطاج، حسب الغزواني، تعايشت في تونس الحالية دولتان، جمهورية قرطاج التي تراجع نفوذها وانحسر، ومملكة نوميديا التي توسعت على حسابها بدعم من الرومان، وكان توسع نوميديا شرقا داخل الأراضي التونسية وغربا باتجاه الأراضي التي تنسب اليوم إلى الجزائر، والمركز لهذه الحضارة هو الشمال الغربي التونسي.
ويضيف محدثنا قائلا: «لقد لعبت مدينة بيلاريجيا، التي كانت خاضعة لنفوذ جمهورية قرطاج ثم استأثر بها النوميديون، دورا هاما في مملكة نوميديا الناشئة على حساب جمهورية قرطاج باعتبارها كانت عاصمة الملك النوميدي ماسينيسا المولود في مدينة دقة أو دوقا التونسية، ثم أصبحت لاحقا حاضرة هامة ورئيسية من حواضر النوميديين حين تم تغيير العاصمة خلال الفترة التي حكم فيها الرومان البلاد التونسية وشرق الجزائر من خلال وكلائهم النوميديين. وازدادت أهمية بولاريجيا مع قدوم الرومان لحكم المنطقة مباشرة وليس من خلال الوكلاء، وتوسعت حتى لفتت الأنظار وذاع صيتها بين الأمم بعد أن استوطنها كبار القوم وأثرياؤهم.
واليوم، ورغم كل هذا المخزون الأثري الهام الذي لا مثيل له في العالم، والذي حافظ على أهم مكوناته، لم تعرف بولاريجيا الشهرة التي عرفتها بعض المدن الأثرية الشهيرة في العالم والتي لا تتفوق عليها في شيء. والسبب في ذلك هو التقصير من دولة الاستقلال في التعريف بالمخزون الأثري التونسي وتركيزها على سياحة الشواطئ والسواحل وليس على السياحة الثقافية القادرة على جلب الفئة الراقية من السياح.
وبالتالي فإن تنشيط السياحة بمنطقة الشمال الغربي يتطلب تركيزا متزايدا على المناطق الأثرية التي تبدو بحاجة إلى تثمين وتعريف وتسجيل في اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي الإنساني. وفي هذا الإطار وجب على المجتمع المدني التونسي أن يضغط باتجاه أن تتحرك الدولة لتثمين تراثها وتاريخها في بولاريجيا وفي غيرها حتى لا يسطو أحد على هذا الإرث الإنساني ويقوم بتزييف التاريخ خاصة وأن المتربصين بتراث تونس قصد السطو عليه كثر».
«القدس العربي»