مراجعة لأوراق أنس خطاب: رجالات «الجولاني» (لا) يتغيّرون
مراجعة لأوراق أنس خطاب: رجالات «الجولاني» (لا) يتغيّرون
حسين الامين
لم يفوّت أبو محمد الجولاني، طيلة السنوات الأخيرة، فرصة للتأكيد أن التنظيم الذي يقوده، أي «هيئة تحرير الشام»، يركّز اهتمامه على «تحرير» سوريا، وإقامة دولة إسلامية فيها. وبالتالي، قطع الجولاني علاقة التنظيم بفكرة أصيلة وهي «الجهاد العالمي»، وحصَر نشاط جماعته ضمن سوريا، وكان هذا من أهم أسباب خلافه مع زعيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، حين أعلن انفصال «جبهة النصرة» عن التنظيم الأم، بشكل رسمي، عام 2016. ومنح الانفصال عن «القاعدة»، الجولاني، هامشاً أوسع في تنظيم العلاقة مع تركيا ودول إقليمية أخرى، وحتى دول غربية، وإن كانت هذه العلاقات حملت طابعاً أمنياً، وأدارتها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التابعة لتلك الدول، وظلّت بعيدة عن المجال السياسي العلني. حتى إن بعض أجهزة الاستخبارات التي حافظت على علاقة متقدّمة بالجولاني شخصياً، كانت دولها – وبعضها لا تزال – تعلنه إرهابياً يقود جماعة إرهابية أيضاً.
وعلى درب إعادة رسم هوية «هيئة تحرير الشام»، كان لا بدّ من إحكام السيطرة على محافظة إدلب، وإعادة هيكلة الجماعات الجهادية والمعارِضة هناك. وفي سبيل ذلك، خاضت «الهيئة»، بقيادة الجولاني، معارك عسكرية، وأخرى أمنية، ضدّ مجموعات وشخصيات لم تقبل الانضواء ضمن صفوفها، أو القبول بسلطتها وقيادتها. وفي أواخر عام 2017، دخلت «تحرير الشام» في عدد من المواجهات مع بقايا تنظيم «داعش» في إدلب، كما وقعت معارك بينها وبين «حركة أحرار الشام»، وهي أحد أكبر الفصائل المسلحة المعارضة، والتي تعرّض قادتها من الصفَين الأول والثاني لعملية اغتيال كبرى، في انفجار داخل مقرّ اجتماعهم في بلدة رام حمدان في محافظة إدلب. ولم توفّر «الهيئة» أيضاً، بعض مجموعات «الجيش الحر»، أو ما تطلق عليه اليوم تسمية «الجيش الوطني» الذي يسيطر على شمال حلب بشكل خاصّ، والمدعوم من تركيا.
وإلى جانب المعارك العسكرية، انخرطت الهيئة في حرب أمنية ضدّ خصومها من الجهاديين والمعارضين، قادها الرجل الثاني فيها، ومسؤول جهازها الأمني، أنس خطّاب، المعروف بأبي أحمد حدود. ويتّهم قادة تنظيم «داعش»، خطّاب، بالوشاية المتكرّرة بقادة التنظيم وأفراده الذين تواروا في شمال سوريا، بعد خسارتهم معاقلهم الأساسية في الشرق. ويقول هؤلاء إن خطّاب جمع عنهم المعلومات وقدّمها إلى الاستخبارات التركية، التي نقلتها بالتالي إلى «التحالف الدولي»، الذي عمل بدوره على اغتيال قادة «داعش» أو اعتقالهم، فيما تكفّل عناصر أمن «الهيئة» باعتقال عناصر التنظيم وقتلهم، حتى غدت إدلب «مصيدة» للجهاديين الذين تلاحقهم الدول الغربية وتركيا. كذلك، نفّذت «تحرير الشام»، خلال العامين الماضيين، حملات اعتقالات واسعة شملت أكثر من 1000 شخص من عناصر وقيادات عسكرية وأمنية من مختلف التنظيمات المسلحة الأخرى، في قضية عُرفت باسم: «العملاء لروسيا ونظام الأسد والتحالف الدولي». وأثارت تلك الاعتقالات ردود فعل واسعة في مناطق «الهيئة»، حيث خرجت تظاهرات استمرّت شهوراً طويلة، وأُجبرت «تحرير الشام» على إثرها على إطلاق سراح عدد من المعتقلين، الذين ظهرت عليهم آثار تعذيب واضحة.
اليوم، تولّى أنس خطّاب، الذي ارتدى البزّة الرسمية وربطة العنق، على خطى قائد «القيادة العامة» أحمد الشرع، مهمّة إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية السورية الرسمية، من خلال رئاسة جهاز «الاستخبارات العامة». وإذا كان الجولاني/ الشرع، نجح في صبغ تنظيمه بصبغة سورية محلية (على رغم وجود مئات المقاتلين الأجانب ضمن صفوف هيئة تحرير الشام)، عبر رحلة طويلة من تبديل الأدبيات والشعارات، وتقديم فروض الطاعة والضمانات الأمنية لدول عربية وغربية، وتنفيذ مهام «التنظيف»، فإن قادة «الهيئة»، وخصوصاً العسكريين والأمنيين والشرعيين، ما زالوا متأخرين عن مواكبة تحوّلات الجولاني العلنية، وهم اليوم أمام امتحان صعب، بعدما وجدوا أنفسهم، خلال أسبوع واحد، «رجال دولة». وفي هذا الإطار، تسود مخاوف من أن يدير خطّاب، بشكل خاص، مهمته الجديدة وفق الطريقة التي أدار بها «أمن الشمال»، خصوصاً أن في ثقافة الرجل وأفكاره التي عبّر عنها بنفسه في كتيّبات نشرها خلال السنوات الماضية، ما يعزّز المخاوف المذكورة. ومن يطّلع على كتابات خطّاب، يخرج باستنتاجات صعبة، لا يُعلم معها مدى استعداد الرجل لتقبّل فكرة كونه صار على رأس أهم وأكبر جهاز أمني رسمي في دولة تحكمها حكومة تريد أن تحجز لها مكاناً بين الحكومات «غير المارقة» بنظر الغرب.
وعلى سبيل المثال، يرد في كتيّب ألّفه خطّاب باسم «حكم الانتساب إلى الجماعات والجيوش الوطنية»، أن «أعداء الإسلام قاموا بنشر مذهب الوطنية في بلدان المسلمين وترسيخه في نفوس الناس». ويعرّف الكتيب الوطنية بأنها «على الضدّ من دين الإسلام، فهي دين آخر غير دين الإسلام»، مُورداً من بين «مثالبها»، أن «في الوطنية حقّاً عاماً لجميع المواطنين – مهما اختلفت أديانهم – في الولاية وتولّي المناصب العامة، ولو كانوا من الملاحدة أو المرتدّين، بينما في الإسلام لا تجوز إلا للمسلمين، بل لا تجوز إلا للعدول من المسلمين». وأبعد من ذلك يذهب خطّاب، فيحرّم «إظهار الانتساب إلى الوطنية على سبيل التورية ومخادعة العدو، وليس على سبيل الحقيقة»، لما يترتّب عليه من «مفاسد»؛ إذ إن «من تأمّل في تجربة الإخوان المسلمين تبيّن له ذلك، فقد رفعوا شعار الديمقراطية ابتداءً لمخادعة العدو، حتى جاء جيل معاصر منهم لا يرى إشكالاً شرعياً في مذهب الديمقراطية، ويرى أنه لا يختلف عن الشورى إلا في أمور يسيرة يمكن تجاوزها، وبذلك تصبح الديمقراطية إسلامية!». وإذا كان خطّاب، على ما أورد بنفسه، لا يقبل الوطنية ولا توظيف غير المسلمين، بل غير العدول منهم، في أجهزة الدولة (أو ربما الإمارة!)، فأي نموذج ينتظر السوريين في العهد الجديد؟
وليس أنس خطّاب، الذي زار أمس الدوحة ضمن وفد سوري رسمي، وحده من يحمل اسمه وتاريخه الكثير من الإشارات المحتملة حول المرحلة المقبلة، بل ثمة إلى جانبه شخصيّات أخرى في القيادة الجديدة في دمشق، ومنهم وزراء عُيّنوا أخيراً، من مثل وزير العدل الجديد، شادي الويسي، الذي ظهر في مقطعي فيديو مصوّريْن في وقت سابق، وهو ينفّذ حكم الإعدام بامرأة، مرة عبر تلاوة «الحكم الشرعي»، وأخرى عبر إطلاق رصاصة على رأس امرأة وهي تتوسّل رؤية أولادها!
الاخبار اللبنانيه