السجال القديم ـ الجديد حول «السيادة»
السجال القديم ـ الجديد حول «السيادة»
د. سعيد الشهابي
يقوم النظام العالمي الحديث على مبدأ «سيادة الدولة» ضمن حدودها، وعدم جواز اختراق تلك السيادة. وهذا لا يلغي وجود توجهات لإقامة الدولة الأممية القائمة على أسس فكرية أو أيديولوجية مشتركة. ولكن التجارب السياسية والعسكرية أثبتت تعمق ظاهرة التشبث بحدود الدولة القطرية، والاستعداد لخوض الحروب للحفاظ عليها.
ويمكن القول إن هناك التزاما عاما بمبدأ احترام سيادة الدول، وفي حال الحاجة لاختراق حدود الدول المجاورة لأسباب أمنية كمطاردة المجرمين، فإن ذلك محكوم بالاتفاقات الأمنية بين الدول. صحيح أن الدول الكبرى من أكثر منتهكي سيادة الدول الأخرى، ولكن يبقى المبدأ قائما ويتم التنظير له باستمرار، وتنص عليه دساتير أغلب الدول. فمن أولى مواد دساتير الدول النص على أن الدولة «ذات سيادة كاملة». هذه السيادة لها صفة قانونية تخوّل الحكومة ممارسة صلاحيات كاملة على كافة أراضيها. ولذلك فعندما اقتُرح إقامة دولة فلسطينية على جزء من أراضي الضفة الغربية كان هناك رفض عام لأنها ستكون خاضعة للسيادة الإسرائيلية. وليس جديدا القول إن «إسرائيل» ترفض الاعتراف بسيادة دولة فلسطينية مستقلة. ومن الانتقادات التي وجهت لقيام السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع عدم توفرها على السيادة التي تجعلها دولة حديثة كاملة الصلاحيات.
دول الشرق الأوسط، كغيرها، تمارس مبدأ السيادة وتتحاشى القيام بما يمثل خرقا له. وتبقى «إسرائيل» متفرّدة في اختراق سيادة الدول الأخرى بشكل مباشر وعلني تارة وبأساليب غير مباشرة من قبل أجهزتها الأمنية التي تستهدف مناوئيها تارة أخرى. ويُذكر هنا ثلاثة أشكال من هذه الاختراقات التي قامت قوات الاحتلال بها وأضرّت بمبدأ السيادة الذي يؤكده القانون الدولي.
أولها: اختراق مباشر، كما يحدث مع لبنان والعراق وسوريا. فلدى زعامات الكيان قناعة راسخة بحقهم في القيام بذلك تحت عنوان «ضمان أمن إسرائيل». ويلاحظ أن التصريحات الدولية كثيرا ما تنص على أن «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها» لتبرير ما تمارسه من اختراقات لسيادة الدول الأخرى. وهذا يمثل حالة من الفوضى غير مقبولة لأنها تضعف مبدأ سيادة الدولة القطرية، وتؤسس لتهميش القانون الدولي والعلاقات الدولية. ولكن ما الذي يردع كيان الاحتلال عن السعي لإضعاف هذا القانون؟
أليس احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة خرقا للقرارين الدوليين 242 و 338؟ فلن يكون هناك أمن في المنطقة بدون وجود رادع حقيقي لـ «إسرائيل» عن الاستمرار في سياسة البلطجة التي تدفعها لاختراق سيادة دول المنطقة سواء المجاورة لفلسطين أم البعيدة عنها. وقبل أربعة أشهر داهم أكثر من 100 مقاتل من وحدة شلداغ الخاصة موقعا تحت الأرض لإنتاج الصواريخ الدقيقة في عمق سوريا ودمّروه. ولدى كيان الاحتلال تاريخ طويل في اختراق سيادة الدول العربية. ففي ذروة الحرب العراقية ـ الإيرانية شنّت القوات الإسرائيلية عملية «أوبرا» المعروفة أيضًا باسم عملية بابل، وقامت بغارة جوية إسرائيلية مفاجئة نُفذت في 1981، وأسفرت عن تدمير المفاعل النووي العراقي (أوسيراك) الذي كان قيد الإنشاء على بعد 17 كيلومترًا (10.5 ميل) من جنوب شرق بغداد.
ثانيها: اختراق غير مباشر بإرسال فرق الاغتيال كما حدث مع تونس والإمارات وإيران، وكما حدث بالاعتداء على مطار عنتيبة في أوغندا في العام 1976. هنا تتعرض سيادة الدول وأمن الأفراد الذين يعيشون ضمن حدودها للخطر الدائم. فاغتيال قادة فلسطينيين في تونس مثل أبو جهاد وأبو أياد وأبو اللطف كان اختراقا صارخا للسيادة التونسية، ولكن العالم بقي صامتا ولم تتخذ إجراءات ضد ذلك الاختراق. أما في الإمارات فقد بعثت «إسرائيل» في 2010 فريقا لاغتيال المناضل الفلسطيني محمود المبحوح. ففي 18 يناير وصل 27 شخصا في رحلات جوية من ست دول مختلفة في أوروبا يحملون جوازات سفر غربية (12 منهم بريطانيون و6 أيرلنديين و4 أستراليين و4 فرنسيين و1 ألماني) إلى مطار دبي، وفي اليوم التالي قتلوا المناضل الفلسطيني. كانت العملية اختراقا أمنيا من جهة وتجاوزا للقوانين الدولية سواء بانتهاك سيادة دولة الإمارات أم بقتل المبحوح خارج إطار القانون من جهة ثانية. وفي إيران حدثت اختراقات عديدة للسيادة كأن أخطرها اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ورئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق في يوم 31 تموز/يوليو 2024 في العاصمة الإيرانية طهران. كما اغتالت عددا من علماء الذرّة الإيرانيين من بينهم الخبير الكبير فخري زادة.
مع دخول العام الميلادي الجديد يجدر بالعالم فتح ملفات الضحايا المدنيين في مناطق الصراع ضمن مشروع حضاري لتجنيب البشر الآثار المدمّرة للحروب التي تشنها أمريكا وإسرائيل وينجم عنها إزهاق أرواح أعداد كبيرة من المدنيين
أما النمط الثالث من انتهاك سيادة الدول فيتمثل بالتدخل لتغيير الحكم فيها أو تغيير حدودها، أو استخدام أجوائها لارتكاب أعمال في بلدان أخرى. فبالإضافة إلى لبنان الذي تعرّض لاعتداءات إسرائيلية متكررة على مدى ثلاثة أرباع القرن، تعتزم قوات الاحتلال استهداف اليمن لاغتيال قادتها وإسقاط حكومتها التي تتزعمها حركة «أنصار الله» بقيادة عبد الملك الحوثي. وهذه سابقة نوعية إذا سمح العالم بها فلن تكون هناك حواجز أمام «إسرائيل» في توسيع نفوذها الإقليمي وممارسة دور شرطي المنطقة.
وهناك قلق كبير كذلك من استهداف إسرائيلي للجمهورية الإسلامية الإيرانية وتدمير منشآتها الاقتصادية والعسكرية. ومن المؤكد أن كيان الاحتلال يرغب في إسقاط النظام الإسلامي في إيران، وهي رغبة تشاركه فيها دول غربية عديدة في طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية. في السابق كانت أمريكا هي التي تمارس هذا النوع من التدخلات، كما فعلت في إيران في 1953 عندما أسقطت حكومة الزعيم الوطني محمد مصدّق، وكما تدخلت في تشيلي في 1973 عندما أسقطت حكومة الساندينيين. وفي العام الماضي أحيت حكومة الرئيس غابرييل بوريتش الذكرى الـ50 لانقلاب الدكتاتور بينوشيه في 11 سبتمبر/أيلول 1973، على أول رئيس يساري منتخب ديمقراطيا سلفادور أياندي، الذي اعتُبر منذ ذلك اليوم، أيقونة النضال اليساري في أمريكا اللاتينية. والواضح أن أمريكا أوكلت قضايا التدخل المباشر لتغيير أنظمة الحكم غير الصديقة لـ «إسرائيل» التي تمارس نفوذا يفوق حجمها كثيرا، ويعكس الرغبة الأمريكية في الدور الإسرائيلي ليكون ذراعا لأمريكا بالوكالة. يضاف إلى ذلك أن سيادة الدول تتطلب عدم التدخل في شؤونها الداخلية، لكن هذه السيادة تتعرض للاهتزاز إذا انتهكت الدولة حقوق الإنسان على نطاق واسع. فهذه الحقوق يجب أن تكون سابقة على أية اعتبارات أخرى. وكما أن السيادة تقتضي عدم تعريض الدولة للتهديد من الخارج، فإنها هي الأخرى مطالبة بعدم التهديد باستخدام القوة ضد الغير، وأن تكون السيادة مشفوعة بمبادئ الحوار والتفاوض والاحترام المتبادل بين الدول.
إنه لأمرٌ بديهي أن ينجم عن تلك التدخلات سقوط ضحايا عسكريين ومدنيين. ولكن ثقافة العصر الأمريكي الحالية لا ترى في ذلك رادعا. فما أكثر الضحايا المدنيين الذين يسقطون بالجملة في العمليات العسكرية التي تمارسها أمريكا، وكذلك «إسرائيل». ومع دخول العام الميلادي الجديد يجدر بالعالم فتح ملفات الضحايا المدنيين في مناطق الصراع ضمن مشروع حضاري لتجنيب البشر الآثار المدمّرة للحروب التي تشنها أمريكا وإسرائيل وينجم عنها إزهاق أرواح أعداد كبيرة من المدنيين. وهنا يطرح نقاش حول نسبية مقولة «سيادة» الدول. فما قيمة هذه السيادة إذا ألغيت من معادلات الصراع قيمة حياة الإنسان، فأسقطت سيادته وقيمة إنسانيته. ما جدوى الحديث عن التطور السياسي والقيمي في عالم القرن الحادي والعشرين إذا لم يشمل سياسات فاعلة لوقف حمامات الدم التي تلازم أي صراع مسلّح، بدون مراعاة حرمة النفس البشرية. إن من الضروري تطوير مفهوم سيادة الدولة في ضوء التحولات في النظام الدولي وتأثيره على مفهوم السيادة، ومن المهم أيضا توسيع مفهوم السيادة ليشمل قداسة الحياة البشرية. ومطلوب كذلك قراءة السجال حول هذه المفاهيم ضمن سياقات العولمة خصوصا في مجالات الاقتصاد والتطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وثمة تساؤل مشروع: ما جدوى التطور التكنولوجي إذا لم يصاحبه صعود في مستوى التزام الدول بإبقائه ضمن الذوق البشري والقيم الحضارية التي تراكمت خلال التجربة الإنسانية الواسعة. فامتلاك التكنولوجيا لن يساهم في إحلال الأمن والسلم الدوليين ما لم يكن مالكوها حريصين على تحقيق ذلك. أما إذا استُخدمت لممارسة سياسات القهر والغلبة والاستحواذ فستنعكس آثارها بشكل مدمر على البشرية.
كاتب بحريني