ثقافة وفنون

العرب في السنة الجديدة… جهل أم تجاهل؟

العرب في السنة الجديدة… جهل أم تجاهل؟

رامي أبو شهاب

في رواية شهيرة للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، اختلف بعض المترجمين في صحة ترجمة عنوانها، هل هو جهل أم تجاهل؟ ولعل الفرق بينهما كبير جداً، ومن المفارقة التي تستحق الذكر أن الروائي التشيكي، تجاهل لغته الأم «التشيكية»، فكتب بالفرنسية، فهل تجاهل مؤلف «كائن الذي لا تحتمل خفته» لغته الأم عن قصد! ولاسيما أنه لم يكن جاهلاً بها، ولعل هذا يختلف عن كاتب كان يجهل لغته الأم، فكتب بلغة لم يرثها، غير أن القيمة تبقى في سياق معنى الجهل أو التجاهل، والحاجة لكل منهما.
أذكر في مسرحية للكاتب إنريك إبسن بعنوان «البطة البرية»، حيث كان التجاهل قادراً على إنقاذ الفتاة «هيدفيج» من الموت، ومن هنا يكمن الفرق بين التجاهل أو الجهل، ذلك أن معرفة سر ما قد يقود إلى التدمير؛ ولذلك ينبغي التعامل معه بحذر، من منطلق أنّ التجاهل قد يحتمل موقفين متناقضين، ففي بعض الأحيان فإن إصرار بعض المثاليين على الحقيقة قد يستجلب كارثة، وعليه فإن التجاهل قد يكون أسلم كما نرى في مسرحية إبسن الشهيرة، التي طرحت قيمة التجاهل في عالم لا مثالي.
قد يحتمل التجاهل مواقف إيجابية أو غير متوقعة كما نشاهده في الفيلم الألماني «حياة الآخرين» 2006، إذ تجاهل ضابط استخبارات ما جمعه من معلومات عن كاتب أو مفكر، ولاسيما أنشطته المناهضة للنظام الاشتراكي، فالأدلة كانت كافية كي تصنع تحولاً في قناعات الضابط، ويتخلص من جهله، ويتبنى التجاهل الذي أصبح تجاهلاً إيجابياً، وفي فيلم آخر – سبق وأن تناولته في مقالة سابقة في صحيفة «القدس العربي» – وأعني الفيلم الأمريكي «لا تنظر إلى أعلى» 2021 حيث كان التجاهل سلبياً، حين تجاهلت أمة كاملة كارثة مصيرية قد تؤدي إلى فناء البشرية في مشهد باعث على شيء من السخرية.
ولكن ما علاقة الجهل والتجاهل في السنة الجديدة؟ ربما كنت أعني – حقيقة – السنة التي انقضت، أو التي مارسنا فيها التجاهل بأقصى صوره، أم أننا كنا نعاني من الجهل؟ لا شك أننا إزاء وضع مربك، فالمعضلة تظهر عندما توضع على محك الوعي، ومن ثم الإدراك، فثمة فرق بين الجهل والتجاهل، فانقضاء سنة كان كافياً كي نعلم.. إنْ كنا جاهلين أم نتجاهل، ولا سيما تجاه ما شهدناه من إبادة جماعية ما زالت مستمرة إلى الآن، وبذلك فهل أمسى التجاهل خياراً أو قراراً إرادياً من باب الاتساق مع ثقافتنا التي أتقناها من عقود طويلة! نحن آخر الشعوب التي عاشت في ظل أنظمة ديكتاتورية دموية، على الرغم من تظاهرنا لعقود طويلة أنه نظام عادل، وإنساني، وعند الثورة عليه تجاهل النظام الشعب الذي تجاهل – بدوره – إجرام نظام لعقود، ولكن كليهما لم يكن جاهلاً إنما كان يتجاهل.
لقد تعلمنا ـ نحن الشعوب العربية – التجاهل، وأصبح جزءاً من ثقافتنا، بل إن الدرس الأول الذي يعلمه الوالدان لأطفالهم التجاهل، كي يتمكنوا من الحياة في هذه الأوطان، وبذلك كبرت الثقافة، وأصبح التجاهل ديناً جديداً، ولا نملك الردة عليه، فالسلطة في العالم العربي تمكنت من تكريس التجاهل في معظم الأحوال، والجهل في بعض الأحايين، ومن ذلك تجاهل وجود الحرية، وتقبل الفساد، وتجاهل الكرامة الإنسانية، وكان علينا أن نتقبل عقوداً من سوء التخطيط، والإدارة الفاسدة، والمحسوبيات والواسطات، والعنصرية، والهزائم، والخيانات، وأن نتجاهل خيبتنا، وأن نمجد الفشل، حتى الهزيمة أو الهزائم تعلمنا أن نتجاهلها، فتجاهلنا نكبة 1948، ونكسة 1967، والغزو الأمريكي للعراق، والكثير الكثير من الأحداث التي اعتدنا تجاهلها كي نمضي، وبذلك يمكن القول بوجود جهاز مفاهيمي تتقن السلطات تصنيعه، كما يتقن العقل الجمعي في اللاوعي العربي هضمه، وبذلك أمسى التجاهل نظاماً ثقافياً قادراً على الاستمرار، عبر تطوير آليات محددة تحفظ وجوده، وأن يتمكن الآباء من تورثيه للأبناء، وبذلك فإن التجاهل أمسى ثقافة أجيال لا ثقافة مرحلة.
مع بداية السنة الجديدة، إننا لا نتطلع إلى مزيد من التغيير، وإنما إلى مزيد من التجاهل لما مضى، وما يمكن أن يأتي، ومن ذلك تجاهل أكثر من خمسين ألف شهيد في غزة، وآلاف من القتلى في كل رقعة في هذا الوطن، أن نتجاهل اللاجئين والمهاجرين، والذين نسيهم العالم في سجون أو معتقلات ديكتاتوريات تتقن فن تعليم التجاهل، ولكن دوام الحال من المحال. لقد تعلمنا أن نتجاهل الأمل، فالتجاهل أحكم قبضته على عقولنا التي تعطلت، وباتت ترفض في لا وعيها التغيير، على الرغم من وجود فرص كثيرة سنحت أمامنا كي نتخلص من تجاهلنا، لا جهلنا، فلا أظن أن مشكلة العقل العربي تكمن في الجهل، على الرغم من توفره، فضلاً عن أن سياقات عصرنا التي باتت لا تقبله في ظل معرفة مستمرة، وسائلة، غير أنّ المعضلة تكمن في أننا نتجاهل رغبتنا بالمعرفة، وأصبحنا نتبنى التجاهل نهجاً للحياة، وبتنا نؤمن بأن معرفة قليلة تكفي لأن نبقى على قيد الحياة. نجد التجاهل في جميع شؤون الحياة، بدءاً من حياتنا الأسرية، وفي عملنا، ومؤسساتنا، وفي كل شأن يمكن للمعرفة أو الإقرار بالمعرفة أن تقود إلى إرباك لنهج البقاء والاستمرارية، التي ربما تتعطل نتيجة أي محاولة لنفي التجاهل، وعلى الرغم من ذلك، فهل يمكن أن نقول بوجود تجاهل اختياري، مقابل تجاهل إجباري؟ فثمة منا من يمارسون الجهل، ويستشعرون بإكراهاته يومياً، يشعرون بالألم، ولكنهم يمضون حتى فاضت بهم التعاسة، ولكن المأساة حين نرى نمطاً من المتجاهلين، الذين لا يزعجهم، ويمضون بالتقاط الصور، والحديث عن الأمل والتفاؤل، وهم يضعون صورهم على مواقع التوصل.. يحتسون فنجانا من القهوة، أو يقفون على شاطئ البحر، مع الكثير من الاحتفاء بالحياة، ما يذكرني بعبارة للفيلسوف سلافوي جيجك مفادها، أن الفلسفة لا تستهدف تقديم إجابات سعيدة أو مبهجة، إنما تستهدف الكشف عن تعاستنا، ولعلنا بذلك نتفهم لماذا معظمنا يفضل التجاهل – ربما- لأنه يفضل أن يكون سعيداً.
ونخلص إلى أن التجاهل قد تجاوز مقولة ثقافة أمة، إنما أمسى حقيقة، فلسفة تستهدف البقاء أو الوجود، ومن هنا يمكن تفهم تجاهل القمع، وانعدام الحرية، وألم الآخرين، والهزيمة، أو حتى تقبل القتل الجماعي والإبادة، بوصف ذلك لدى البعض يعدّ دفاعاً نفسياً ضرورياً من أجل تجنب الانهيار الكامل، وإذا كان جان بول سارتر قد قال يوماً: «نحن محكومون بالحرية»، فهل يمكن القول: «نحن محكومون بالتجاهل»؟ وكل عام وأنتم بخير، والكثير من التجاهل!
كاتب أردني فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب