ثقافة وفنون

مايا سعيد تحكي حياتنا بـ«خمس دقائق»

مايا سعيد تحكي حياتنا بـ«خمس دقائق»

جو قديح

إنها الساعة السابعة… كل ساعة، وكل يوم. توقف الزمن في رأس رجل خانته الذاكرة، فأصبح يمزج بين ذكريات مبهمة ويغوص في واقع مشوب بالأوهام، ينسج فيه الخيال مع الهلوسات. ندخل بسهولة في خصوصية رجل وامرأة، في بيت صغير في زمن الميلاد، حيث تتشابك المشاهد وتتضارب قبل أن تنقلب مفاهيم اللعبة الدرامية رأساً على عقب. ما زالت الساعة متوقفة، كأنّها الشاهد الوحيد على حياة هذا الثنائي الذي يتقاذف ذكريات تضفي على المواقف نكهات مختلفة، واحدة تلو الأخرى.

شجرة ميلادية غير مكتملة تهيمن على صالون متواضع، تناثرت فيه بضعة مفروشات، كذاكرة هذا الرجل الخمسيني التي تهشّمت منذ زمن. السينوغرافيا بسيطة، خالية من أي ادعاء، تُدخل المشاهد منذ اللحظة الأولى في أجواء هذا البيت الدافئ. هذا الجو كان ركيزة الإخراج الذي خلق طابعاً حميمياً للمساحة في ساعة من الزمن. المكونات الدرامية جاءت بسيطة ولكن متقنة، تخدم عملاً بعيداً كل البعد عن الادعاء. النص سلس، ترتكز حواراته على لغة محكية سهلة، تتخللها بعض المصطلحات والمفردات التي أحسنت الكاتبة مايا سعيد استخدامها وإسقاطها، ما أضاف بُعداً إبداعياً للتوليفة الإخراجية، إذ جاء العرض كمقطوعة «جاز» تتصاعد وتيرتها ثم تهدأ بانسيابية.

أداء الممثلين كان متناغماً ومتماسكاً، بين نكهة الـ«فارس» (Farce) والواقعية السيكولوجية. تخلل العرض مونولوغان للشخصيتين، كسرا الإيقاع ليُدخلا المشاهد في سراديب ماضٍ بعيد، مفعم بالحنين إلى الطفولة والمنازل الدافئة، مستنداً إلى تماهي الجمهور مع الذاكرة البصرية والصوتية وحتى ذاكرة الشم، التي تحمل عبق حياة كل منا في طفولته. تناغم أداء طارق تميم وسولانج تراك، أضفى طابعاً حيوياً ومتقلباً على مساحة ضيقة مسرحياً لكنها واسعة بحجم الحياة. تنقلت تراك كالفراشة على المسرح، أحبها الضوء وأحبته، مقدمة شخصيةً ظلّها خفيف، بلكنة ونبرة صوت خاصتين، تضفيان أبعاداً فريدة للشخصية التي تتلعثم وتلدغ أحياناً. تراك، التي تتقن أيضاً فن التقليد، استطاعت أن تحتل الفضاء المسرحي بشخصية جذابة، عنيدة ومثابرة، تنكشف أبعادها الحقيقية في المشهد الأخير، حين تذكرنا بهاملت الذي يختفي ليترك مكاناً لفورتنبراس. أما طارق تميم، فتأرجح أداؤه بين الدراما المتقنة وخفة الظل، ما ذكّرنا بكبار المسرح اللبناني كزياد أبو عبسي الذي كان أستاذه أيّام الدراسة. قدّم شخصية مضطربة بأفكار ملبّدة، وهو ما انعكس على تصرفاته وحركته الجسدية. بدا كأنه يرتدي الشخصية بكل تفاصيلها، ما أكسبه عطف الجمهور منذ اللحظة الأولى.

رغم سهولة التنقل بين الممثلين، إلا أنّ الأغراض المبعثرة على الأرض وفتات البلاستيك المكسّرة شكلت حواجز صغيرة أعاقت حركتهم، لكنها خدمت الشخصيات، فباتت الأرض كأنها شخصية إضافية في العرض. صمت كبير يخيّم على هذا العمل، صمت الزمان والمكان، صمت الإنسان الذي ينزلق نحو النهاية. صمت عميق ومدوٍّ، يشبه لوحة «الذاكرة» للفنان ماغريت. تفرض مسرحية «خمس دقايق» على المشاهد الغوص في أمواج ماضيه ومخاوف مستقبله المبهم، حيث لا شيء مؤكداً، وحيث النسيان والحنين والنكران يصبحون خلاصاً محتملاً.
الكوميديا الميلادية تبدأ عندما يزين رجل خمسيني بيته، فتقتحم امرأة منزله. لكننا نكتشف، شيئاً فشيئاً، عبر قصص متداخلة، العلاقة بين هذا الثنائي، ما يدفع المشاهد إلى طرح أسئلة عدة: هل هذه المرأة من نسيج خياله؟ هل هي فعلاً تبحث عن شقة أخرى؟ أم أنها مجرد نوتة موسيقية ألّفها لتبرير وجوده؟
إخراج مايا سعيد بسيط ومتواضع، كأنها عرفت أنها إذا أثقلت العرض بمؤثرات وألاعيب إخراجية، ستفقد الحدوتة عفويتها وتكبّل الممثلين بألعاب يقع داخل فخها مخرجون مخضرمون كثر أو من يعتدون على فن «المايسترة». سلاسة العرض وبساطته سطرا ذكاء هذه المخرجة في عملها الأول وليس الأخير، هي التي شاركت في نجاح أعمال عدة سابقاً، اليوم تمضي عملاً. «إذا أردنا أن نعرف ماذا في أستراليا، يجب أن نعرف ماذا في البرازيل» كما كان يقول «حسني البورظان» في مسرحية «صح النوم»، وإذا أردنا أن نعرف ماذا في مخيلة مايا سعيد، فيجب أن نشاهد مسرحية «خمس دقايق»، التي تبلغ مدتها ساعة واحدة.

* مسرحية «خمس دقايق»: حتّى غد الأحد– الساعة السابعة والنصف مساءً – District 7 (الجمّيزة، بيروت). للاستعلام: 81/233144

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب