أنس الشابي: تيّارات الإسلام السياسي «مخلب استعماري»
أنس الشابي: تيّارات الإسلام السياسي «مخلب استعماري»
ينتمي أنس الشابي (1953) إلى نخبة من الباحثين العرب الذين اهتموا بقراءة التراث والفقه والحركات الإسلامية، وقد تعرّض إلى حملات وصلت إلى التهديد والتكفير من أنصار الإخوان المسلمين في تونس. ويعدّ خريج كلية الشريعة وأصول الدين في تونس، من أغزر الباحثين التونسيين، خاض معارك فكرية مع أنصار «الاتجاه الإسلامي» (اسم حركة «النهضة» الإخوانية سابقاً) وله إلمام واسع بالإرث التنويري ومحن المفكرين العرب الذين تعرضوا للتكفير والاغتيال من الحركات التي ترفع شعار «الإسلام». هو أيضاً عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي التونسي سابقاً (تأسس في أربعينات القرن الماضي وأصبح اسمه «التجديد» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) وعضو هيئة تحرير جريدته «الطريق الجديد» طوال سنوات. في هذا الحوار، يؤكد الشابي أنّ الاختلافات بين تيارات الإسلام السياسي ليست إلا اختلافات شكلية لأن مشروعها واحد هو «تأمين إسرائيل والقضاء على ثقافة المقاومة»، معتبراً أنّ ما يجري في سوريا اليوم ليس أكثر من خطوة أخرى صوب تأمين الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط. في رأيه، تشكّل هذه الحركات «مخلباً استعمارياً صهيونياً لا أكثر»
■ هلّلت الأحزاب والجماعات الإسلاميّة لسقوط دمشق واعتبرته الجزء الثاني لـ «الربيع العربي». كيف ترى هذه الخطوة في علاقة بالترتيبات الإقليميّة ودور الإسلام السياسي فيها؟
ــــ بعد أحداث سنة 2011 وتمكين الحركات الإسلاميّة السنية ـــ رغم الاختلافات البسيطة في ما بينها ــــ من الوصول إلى الحكم في مصر وفي تونس وبعد تجربة قصيرة لم تتجاوز السنة في مصر والسنتين في تونس، لفظهما الشعبان عبر الاعتصامات ومظاهر الرفض الشعبي لفشلهما في تسيير الشأن العام من ناحية وحرصهما على أخونة المجتمعَين من ناحية أخرى. لن نتحدّث عن ليبيا هنا لأنّ وضعها خاص يختلط فيه الإقليمي بالديني بالقبلي مع غياب الأجسام الوسيطة في العملية السياسيّة كالأحزاب والنقابات وتنظيمات المجتمع المدني. في مصر، أزاح الجيش حكم المرشد بطلب من الشعب الذي خرج في تظاهرات مليونيّة لم تتوقف طوال شهر تموز (يوليو) 2013. وفي تونس، فشلت حركة «النهضة» في الحصول على الغالبية البرلمانيّة وتمكّن الباجي قائد السبسي من الوصول إلى رئاسة الجمهورية بعدما أعلن أنّ هدفه الأساسي هو إزاحة الحركة من الحكم. المهمّ أن سقوط حركة الإخوان المسلمين الأم في مصر وفرعها في تونس، كان إعلاناً جليّاً عن فشل ما سمّي «الربيع العربي» في نسخته الأولى. اليوم لأسباب إقليمية، تلجأ القوى الأميركية والصهيونية وما تبعهما، إلى الاستعانة بالحركات التي أثبتت فشلها في كلّ المهمات التي كلَّفت بها منذ سنة 2011 بتنفيذ أجندات إقليمية تستهدف القضاء على محور المقاومة وتمكين إسرائيل من حدود متحركة آمنة وتسليم الأكراد إلى النظام التركي. والمحصلة من كلّ ما ذكر هو سقوط دمشق، وهو أمر فرح له الإخوان المسلمون لأنّه أعاد الروح إلى مشروعهم المتمثّل في أخونة المجتمع بصرف النظر عن السيادة القوميّة والوطن وأراضيه المحتلة وضرورة مقاومة الغاصب وغيرها ممّا لا علاقة له بفكر الإخوان المسلمين، فقد تناقلت الأخبار صمت الحكّام الجدد في سوريا عما قامت به إسرائيل من تدمير كامل للمطارات والأسلحة والمخابئ وغيرها من المعدات الحربيّة.
الإيمان بالأمميّة الإسلامية والانتساب إلى أمّة تتّسع بانتشار الإسلام، هو ما يضع منتسبي الحركات الإسلاميّة في موقع العداء للأوطان بمفهومها الحديث
■ اهتممت كثيراً بتاريخ الإسلام السياسي منذ نشأة جماعة الإخوان، هل تعتبر أنهم مسؤولون عن كلّ البؤس الذي يعيشه العالم الإسلامي واعتبارهم خدم المشروع الصهيوني في المنطقة العربية؟
ـــ في ما يخصّ تونس، أستطيع القول إنّ «حركة الاتجاه الإسلامي» سابقاً و«النهضة» حالياً طوال تاريخها الذي قارب نصف قرن، اتصفت بجملة من الصفات تكاد تكون عامة ومشتركة بين كلّ الحركات الإسلاميّة وهي التالية:
1) تمارس السياسة ولكنها سياسة بلا برنامج، فقد تتخذ الموقف ولكنها سرعان ما تتراجع عنه إن ظهر لها أنّ في ذلك ما يحقق لها مصلحة آنيّة، وفي ذلك خطورة على العملية السياسيّة ذاتها لأنّ الأحزاب تسير وفقاً لبرامج محدّدة ومضبوطة متّفق عليها في المؤتمرات والوثائق إذ يكون الوضوح هو الرابط بين مختلف الأحزاب، لتنشأ بذلك التحالفات والمفاهمات وغيرهما. أمّا بالنسبة إلى الحركات الإسلاميّة ومن بينها التونسيّة، فتنقلب من الموقع إلى نقيضه من دون مقدّمات. قد تتحالف في السرّ مع جناح من الحكم وتتحالف في الوقت نفسه مع المعارضات. قال حسن البنا لمن دعاه إلى كتابة برنامج للإخوان المسلمين إنّ الناس يجتمعون على مبادئ لا على تفاصيل لأنّنا إذا دخلنا في التفاصيل، فسنختلف ونتفرع ولا ننتهي إلى خير كثير».
2) الانحراف بالنقاش العام حول المسائل التي تهمّ المجموع إلى قضايا جانبيّة. فإن تحدثنا عن التعليم وضرورة النهوض به استناداً إلى التجارب التربويّة الحديثة، فقد انحرفوا بنا إلى الحديث عن التعليم الديني في الأزهر أو الزيتونة مثلاً. وإن قرّر الحكم اعتماد السياحة مورداً من الموارد الاقتصادية، تنادوا إلى ضرورة المحافظة على الأخلاق وفرض المايوهات الشرعيّة وغيرهما. وإن اتجهنا إلى كتابة دستور علماني يعلي من شأن المواطن، سارعوا إلى تكفير دعاته واتهامهم بالعلمانية. لو أردنا تعداد مواقف الإسلاميين الرافضة لكلّ الوسائل الحديثة للتنمية، لما انتهينا لأنهم ليسوا إلا عامل إحباط وإفساد وإبطال لكلّ ما يمكن أن ينهض بالأمة، وكل ذلك تحت ستار المحافظة على الهوية والحصول على رأي الدين في كلّ شيء. فهم بمختلف أصنافهم عامل شدّ إلى الوراء أضاعوا عشرات الفرص على البلاد العربية، فالجزائر قضت عشر سنوات كاملة وهي في حرب معهم وكذا الحال في مصر وفي تونس وسوريا البارحة واليوم وغداً.
■ في 2011، أُسقطت الأنظمة الوطنيّة في تونس وليبيا ومصر، وتم تمكين الإخوان من الحكم. اليوم تحكم جبهة «النصرة» سوريا، فهل وصلنا إلى تبييض «القاعدة» بعد تبييض الإخوان؟
ــــ رغم كثرة الفرق الإسلاميّة وتعدّدها، إلا أنّها في نهاية الأمر واحد. وكما يقال تعدّدت الألسنة والخطاب واحد، كلّ الحركات بدءاً من الأزهر إلى الدواعش مروراً بـ «القاعدة» والإخوان المسلمين وحزب «التحرير» جميعهم يصدرون عن القاعدة العقائديّة نفسها التي تقوم على جملة من الأسس لا تختلف أبداً، ولكن قد يتمّ الصمت عن بعضها أو إخفاء بعضها الآخر في بعض الأحيان لضرورة ما، وهي التالية:
1) ينقسم البشر لدى هذه الحركات إلى مؤمنين وغير مؤمنين، ولو كانوا أبناء وطن واحد فلا تتساوى الحقوق والواجبات بين المسلم وغيره. وهو ما فصّله الفقه الإسلامي في أحكام أهل الذمّة التي نجدها ظاهرة ومنفّذة لدى الدواعش، لكنها تتخفّى لدى من يوصفون خطأ بالإسلاميين المعتدلين كسليم العوا والغنوشي وذلك بالقول إنّهما يريان حالياً الاكتفاء بمنع غير المسلم من المشاركة في الدفاع عن الوطن لأن هذا الدفاع في تقديرهما يحمل معنى دينياً لا يمكن أن يشارك فيه سوى المسلم. أما الجزية وعوامل التفرقة في أحكام أهل الذمة الأخرى، فيصمتان عنها مؤقتاً ولن تظهر إلا وقت التمكين وحكم الشرع. هذه التفرقة بدأت في الظهور والإعلان عنها في حكم الجولاني.
2) الإيمان بالأمميّة الإسلامية والانتساب إلى أمّة لا حدود لها تتّسع بانتشار الإسلام وتضيق بضيقه، وهو ما يضع منتسبي الحركات الإسلاميّة في موقع العداء للأوطان بمفهومها الحديث لأنّ الإيمان لديهم يجب أن يكون نقيضاً للفكرة الوطنيّة التي تعني الانتماء إلى رقعة جغرافيّة محدّدة ومجموعة بشريّة صاغ التاريخ والجغرافيا والآمال الواحدة شخصيّتها وذاتيتها. فالطالباني أقرب إلى الإسلامي التونسي من ابن بلده غير الإسلامي وكذلك الأمر بالنسبة إلى المصري والشيشاني وغيرهما، لأن الانتماء إلى العقيدة أولى من الانتماء إلى الوطن. وهذا ما يفسر فرح الحركات الإسلامية لوصول الجولاني إلى حكم سوريا، وبيّن أن تبعات هذا الاعتقاد خطيرة جدّاً لأنها تقسم العالم وفقاً لما ورد في المدوّنة الفقهية الإسلامية إلى دارين: دار الإسلام وهي الدار التي يسود فيها شرع «طالبان» أو الجولاني أو غيرهما، ودار الحرب التي تشمل كل ما عدا ذلك وهي دار مستهدفة سواء كان سكانها من المسلمين أو من ديانات أخرى، وليقس هذا على ما لم يقل.
يجب تخليص الإسلام من مفاهيم الجهاد والعنف وأهل الذمّة وغيرها من الآيات المدنيّة التي تناقض الآيات المكية المبنيّة على التسامح والإخاء الديني
3) يقوم العمل السياسي على جملة من الآليات كالتحالف والمفاهمات والجبهات التي قد تتنازل فيها كلّ الأطراف للوصول إلى مواءمات ترضي الجميع وتحفظ للمجتمع استقراره. ولأنّ الحركات الإسلاميّة جميعها لا تمارس عملاً سياسيّاً بل تعمل من أجل إقناع الآخرين بعقيدتها ولو بالإكراه، لذا ترفض التحالف والعمل الجبهوي لأنّها ترى أنّ عقد الإسلام يغني عن أيّ تحالف، وكلّ اختلاف يجب أن يردّ إلى كتاب الله وسنّة رسوله. أمّا في حالة الاضطرار إلى المساهمة في عمل مشترك، فإنّها بمجرّد فكّ الحصار عنها تعود إلى ما كانت عليه. ومن أمثلة ذلك مساهمة حركة «النهضة» التونسيّة في جبهة 18 أكتوبر 2005 التي جمعت عدداً من خصوم نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي من تيارات سياسيّة وفكريّة مختلفة وأصدرت بياناً يتعلّق بالحريات والمساواة بين الذكر والأنثى وغيرهما من النقاط. إلا أنّ الحركة سرعان ما تراجعت عن كلّ ما وافقت بعد وصولها إلى الحكم، ما دفع القيادي اليساري حمّة الهمامي إلى تذكيرها بالأيام الخوالي في مقال شهير صدر في جريدة «المغرب» بتاريخ 8 آب (أغسطس) 2012 ترجّاها فيه بالعودة إلى الالتزام بما تعهّد به قادتها في الداخل والخارج، ولكنها كانت صرخة في واد ذهبت مع الريح كما يقول الكواكبي.
ما نخلص إليه أنّ المفاضلة بين هذه الحركات والقول بتبييض بعضها دون البعض الآخر لا يستقيم في واقع الحال، فجميع الحركات الإسلامية تحكمها جملة من الثوابت التي تحدّد خطّ سيرها وأتينا عليها أعلاه، فإن ظهر اختلاف بين «داعش» وحركة «النهضة» أو بين «القاعدة» وحزب «التحرير»، أو بين اليسار الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين، فهو اختلاف شكلي وظاهري لا يُعتدّ به في كبرى المعارك التي تجمعهم كتطبيق الشريعة أو محاربة الكفار أو الدعوة إلى الخلافة.
■ عدد من الحقوقيّين من أعلام الحركة الديموقراطيّة في العالم العربي، يدافعون عن الإسلام السياسي ويعتبرونه قابلاً للشرط الديموقراطي، هل يمكن بناء ديموقراطيّة عربيّة بمشاركة هؤلاء؟
ــــ لا يخلو حال الداعين إلى تشريك الإسلاميّين في العمليّة الديموقراطية من حالين، فإمّا أنهم يدعون إلى ذلك معارضةً منهم لأنظمة الحكم القائمة ونكاية فيها أو أنهم يجهلون حقيقة هذه الحركات. إنّ المتأمل في السند الفكري والأرضيّة العقديّة التي يصدر عنها هؤلاء، يتيقّن أن مجرد إدماجهم في العمليّة السياسيّة يقضي عليها وينتقل بها من مجال الاختلاف في الرأي وسُبل التحكّم فيه إلى حرب دينيّة لن تنتهي إلا بالقضاء على أحد الطرفين لسبب بسيط يتعامى عنه هؤلاء الديموقراطيّون هو أنّنا بصدد حزب ديني يقوم على عقيدة وإيمان شخصي غير قابل للمفاوضة والأخذ والردّ. لسنا هنا بصدد حزب بشري له برامج سياسيّة تفصيليّة صاغها الذكاء الإنساني عبر النقاش والحوار والبحث عن الأصلح والأصوب، فالديموقراطيّة باعتبارها الأسلوب الأمثل لإدارة الخلافات ويحكمها الخطأ والصواب، لا موقع لها في الحركات الدينية التي تحتكم إلى الإيمان والكفر. إنّ من يرفع شعار «الإسلام هو الحلّ» حكم على معارضه بالكفر وبوجوب إقامة حدّ الردة عليه. والغريب في الأمر أنّ الداعين إلى تشريك الإسلاميين في العملية السياسية يتغافلون عن أن هذه الأخيرة تؤمن بالشورى وليس بالديموقراطية وإن استعملت هذا اللفظ في بعض بياناتها.
■ مراجعة البرامج التربويّة و«إصلاح الإسلام» على حدّ عبارة العفيف الأخضر، هل تعتبرها السبيل الوحيد لتخليص العالم العربي من هيمنة الإخوان؟
ــــ صحيح أنّ مراجعة البرامج التربوية وتخليص الإسلام من آيات ومفاهيم الجهاد والعنف وأهل الذمّة وغيرها من الآيات المدنيّة التي تناقض الآيات المكية المبنيّة على التسامح والإخاء الديني ضروري وحتمي كما شرح المفكر العفيف الأخضر. غير أنّ هذه وسائل لن تؤتي أكلها إلا بعد عقود. نحن اليوم في معركة حياة أو موت مع هذه التنظيمات التي وضعت نفسها في خدمة من يدفع أكثر والعاجل العاجل لمقاومتها لا يمكن أن يتأتى إلا عن طريق السلطة. ففي بلادنا العربية، نفتقر إلى قوى مدنيّة منظمة وأحزاب سياسيّة قادرة على التأثير في الشارع ثمّ في الحكم وأجهزته. لذا يبقى الملجأ الأخير في الظرف الحالي هو دفع السلطة إلى مواجهة هذه التيارات وإعانتها على ذلك بكل السبل والوسائل. وقد حاولنا ذلك في تسعينات القرن الماضي في تونس إبّان حكم الرئيس بن علي ولكن الحسابات السياسيّة الضيّقة أفسدت العمليّة برمّتها وإن تركت آثارها في برامج التعليم وفي الميدان الثقافي والإعلامي. ما يحدث حالياً في المملكة العربيّة السعوديّة على المستوى الفني والثقافي والاجتماعي أمر لافت للانتباه، أعتقد أنّ دعمه حتمي لأنّه ينزع الغطاء الديني عن هذه الحركات ويفسد عليها صدقيّة مرجعيّاتها التي دائماً ما استشهدت بها.
■ اهتممت كثيراً بروّاد التنوير أمثال العفيف الأخضر، ومحمود طه، وفرج فودة، ومهدي عامل، وحسين مروة ونصر حامد أبو زيد… ألا ترى أنّ الثقافة العربية الرسمية متواطئة مع الإخوان في تهميش هؤلاء وإبعادهم من دائرة الضوء؟
للإجابة عن هذا السؤال، وجب أن نضع في الحسبان أنّ السلطات الرسميّة في تعاملها مع ملف الحركات الإسلاميّة جميعها تصدر عن:
1) اعتبارها الملف ملفاً سياسيّاً ومعالجته لا تكون إلا بالوسائل الأمنيّة إن تجاوز الإسلاميّون حدود المسموح به سياسيّاً لأنّ هذه السلطات لا تمتلك برنامجاً متكاملاً لتطوير مجتمعها، فهي أقرب إلى أنظمة تصريف الأعمال وحتى الإيديولوجيّة منها التي تمكّنت من الوصول إلى الحكم كالتيارات القوميّة، فإنها رغم خلافها مع الإسلاميّين، توقّفت عند حدود محاكمتهم وفي الوقت نفسه قدّمت لهم من الخدمات التي أبقتهم أحياء. فعبد الناصر في الوقت نفسه الذي أعدم فيه قادتهم، أصدر قانوناً سمّاه «قانون تطوير الأزهر» كان من نتائجه انتشار الفكر المتطرّف ومطاردة أصحاب الفكر الحرّ وتكوين مجتمعين مختلفين: واحد تمثله المدرسة العمومية وآخر يمثله التعليم الأزهري، وهو مجتمع له لباسه الخاص وتعليمه الذي يتناول مسائل أثبت العلم خطأها كبقاء الجنين في بطن أمه لمدة سنوات والقرعة في تحديد النسب وغيرها. أما العراق، فقد أنهى صدّام حكمه بأن أصبح داعية إسلاميّاً، إن قيل هذا عن أنظمة تعلن انتسابها إلى الحداثة والعصر، فكيف يكون الحال يا ترى مع أنظمة ملكية أو جملكية؟ هذا الأسلوب في التعامل مع الحركات الإسلاميّة الذي لا يستند إلى محدّدات فكرية وضوابط معرفية، أدى إلى محاصرة أي محاولة لتحريك الراكد وتنوير المجتمع، فكلّ خطاب يناقش مسألة لها علاقة بالفكر الديني يعرّض صاحبه للمحاكمة أو مصادرة مؤلفه. والغريب أنّ مَن يقوم بذلك، هو مؤسّسات الدولة ذاتها عبر أجهزتها، وهي لا تتدخّل لإيقاف هذا العبث والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى: على سبيل الذكر لا الحصر، لن ننسى ما تعرض له صادق جلال العظم أو نصر حامد أبو زيد أو لويس عوض وغيرهم ممن لم تحمهم الدولة العربيّة المعاصرة، بل تركتهم لخصومهم يصادرون كتبهم ويحاصرونهم ويغتالونهم.
2) معالجتها ملف الحركات الإسلاميّة باعتباره ملفاً يتعلّق بتفسير القرآن والأحاديث والأحكام الفقهيّة لاختيار قراءة مناسبة للظرف الداخلي الحالي، لتحصر السلطة نفسها في الفضاء الديني وتصبح الخيارات التي تطبقها هي نفسها خيارات الحركات الإسلامية التي تتوهّم مواجهتها ويصبح التنازع بينهما حول من سينفذ هذه الخيارات وليس حول صدقيّة مضمونها وضرورته لقيام دولة عصرية، والأمثلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى. ففي البلاد العربية ـــ إن استثنينا لبنان لخصوصيّة نتمنّى أن تبقى ــــ نجد أنّ رئاسة الدولة ممنوعة على المسيحيّين وغيرهم من الديانات الأخرى، وانتقال المسلم إلى ديانة أخرى يعاقب عليه لأنّه يعتبر ردّة ومناقشة أي فكرة دينيّة تعرّض صاحبها للمحاكمة بتهمة ازدراء الأديان، والغريب في الأمر أنّ السلطة الحاكمة في البلاد العربيّة لم تقرأ كتاب علي عبد الرازق وما زالت مصرّة على إبقاء فصل الديانة في دساتيرها رغم أنّ هذه الدساتير لم توضع إلا لتنظيم حياة البشر على الأرض وليس في الآخرة.
مؤلفاته
أصدر أنس الشابي عدداً كبيراً من المؤلفات منها: «التطرف الديني في تونس نقد الفكر والممارسة» (1991)، و«إنصافاً للزيتونة والزيتونيين» (2011) و«النخبة الهشّة» (2013)، و«المسألة الدينية في تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر» (2014)، و«فايسبوكيات إسلامويّة» (2015)، و«أحمد أديب المكي، حجازي في تونس (1876-1933)» (2020) وغيرها من المؤلفات البحثية، إلى جانب إسهامه في كتابة فصول في «الموسوعة التونسيّة» و«معجم البابطين» لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. كما شارك في ندوات عقدتها وزارة الثقافة التونسية ونشرها «منتدى الفكر التنويري التونسي» عن زين العابدين السنوسيي ومحمد الصالح المهيدي وأبو القاسم محمد كرو وعبد الرزاق كرباكة. وشارك في كتاب جماعي جديد بعنوان «قراءات في فكر العفيف الأخضر» (دار خريف للنشر ــــ 2024)