الطائفيّة… قوت إسرائيل في المنطقة
الطائفيّة… قوت إسرائيل في المنطقة
تقتات الدولة العبريّة بتطلّعها لتقسيم سورية على تلك الاعتبارات الوشائجيّة – الاجتماعيّة المتّصلة بتسيس الطائفيّ والمذهبيّ والعرقيّ وحتّى الجهويّ، لأنّ في ذلك ضمانًا لأمنها القوميّ الّذي يشترط أن يظلّ العرب من خلف شريط التماس معها طوائف وجماعات متنازع فيما بينها
كانت دائمًا هزائمنا العسكريّة نحن العرب مع إسرائيل منذ نكبة عام 48، مرورًا بنكسة 67 دعوة إلى مقولة “تخلّفنا” الّتي داومت بعض نخبنا ومثقّفيها على ترجيحها كإطار تفسيريّ يفسّر تفوّق إسرائيل، ومن خلفها الغرب علينا في المنطقة. خصوصًا بعد نكسة هزيمة حزيران/يونيو 1967 وانهيار المشروع الناصريّ وعبد الناصر الّذي بقيت الأمّة العربيّة تتطلّع إلى حلم الوحدة والتحرير من خلف كتفيه في حينه.
لم نكن متخلّفين كما ظنّ بعضنا، وصار يظنّ معظمنا، غير أن تكرّر الهزيمة عسكريًّا بين النكبة كمأساة والنكسة كمهزلة وفق مقولة كارل ماركس الشهيرة، هو ما رسخ القول بـ”تخلّفنا حضاريًّا” سببًا للهزيمة. مع العلم، أن هناك أممًا حديثة كانت أقلّ منّا نحن العرب “تحضّرًا” وحضورًا في التاريخ، ولا ترى بنفسها متخلّفة، لأنّها ببساطة لم تهزم في حروبها. نحن العرب أمّة مهزومة لا متخلّفة، كان هذا في ظلّ الهزيمة، حين كانت عسكريّة نجمع عليها ونقرّ بها، بينما اليوم يهزم فينا ما هو أكبر وأبعد من العسكريّ – والسياسيّ، في الوقت الّذي لم نعد نجمع فيه أصلًا على مفهومي الهزيمة والانتصار. ليس لأنّنا أمّة فرطت ففرط عقدها إلى أمم، بل إلى طوائف وجماعات مذهبيّة مغبونة على نحو غير مسبوق في تاريخنا في المشرق العربيّ تحديدًا.
في نصّ قصير منشور على مدوّنة جبل عامل للأستاذ محمّد ناصر الدين ابن الجنوب اللبنانيّ تناول فيه مواكب مشهديّة عاشوراء (ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من محرّم) والتحوّلات الّتي طرأت عليها منذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي في لبنان، يقول: “كانت عاشوراء أجمل… لم نكن بحاجة إلى هذا الجيش من الرايات، والفضائيّات والطقوس الجديدة، والكثير من الأصوات الرديئة والمزعجة، والحواجز الإسمنتيّة…. بيت صغير متواضع للحاجة “أميرة” في القرية، ودزينة أو اثنتان من شموع زهيدة الثمن، وأوراق من ورد الجوريّ، يافطات حزننا في وجوه الأمّهات، وكان عدوّنا، يزيد، واضحًا لا لبس أو شبهة في ذلك الزمن الجميل: دبّابة تربض في أعلى التلّة وهيليكوبتر إسرائيليّة تأكل من لحمنا الحيّ، ومن حطام أبنائنا وأسلحتهم الّتي تغطّي السفوح”. كان “اليزيد” واضحًا لا لبس فيه متمثّلًا في المستعمر واحتلاله، ولمّا التبس هذا الأخير، التبس “الحسين” بدوره على أهله معه.
ما لنا وللتاريخ، فالتطييف بوصفه تسيس للطائفة أو المذهب، ظاهرة حديثة جارية من اللحظة الّتي بدأ فيها تفعيل الحدود الدينيّة والمذهبيّة في بعض مجتمعاتنا ليتلطّى خلفها أتباعها كلّ على حصّته في السياسيّ. بدأ ذلك في لبنان الّذي أسفرت حربه الأهليّة بين طوائفه في أواسط سبعينيّات القرن الماضي إلى اتّفاق الطائف المؤسّس للنظام الطائفيّ اللبنانيّ منذ مطلع التسعينيّات. ثمّ لحق بلبنان العراق الّذي أسفر غزوه عام 2003 عن الإطاحة بنظام البعث واستبداله بنظام درب العراقيّين على تعريفهم لأنفسهم وفق الانتماء الطائفيّ، جعل من عرب العراق “سنة وشيعة”، بينما الأكراد ظلّوا بعرف القوّات الغازية كردًّا. فيما سورية الّتي تتوسّط البلدين، كنّا قد أملنا أن تنجو من هذه العدوى، لولا أن قرّر نظام الأسد ترحيل ثورة شعبه الشعبيّة عليه سنة 2011 إلى الطائفي مستدخلًا لقمعها قوى إقليميّة طائفيّة كذلك. ما جعل كلّ هذا العمق الجغرافيّ الممتدّ من العراق مرورًا بسورية وصولًا إلى لبنان معملًا لإنتاج الاصطفاف الطائفيّ.
لا يقف التطييف عند حدّ السياسيّ والاجتماع، بل يطاول التاريخ كذلك، عبر تطييف مجراه بأثر رجعيّ وإعادة بعث رموزه الحضاريّة – الجمعيّة طائفيًّا. تخيّل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وقبل إسقاط نظام الأسد بشهر تحديدًا، احتجّ كثيرون من أهالي إدلب على مسجد في يوم تدشينه (افتتاحه) في منطقة البردقلي من المحافظة، لأنّ المسجد حمل اسم “الزهراء” ولونه الأسود، الّذي رأوا فيه الأهالي رمزًا شيعيًّا. ممّا اضطرّ متبرّعي بناء المسجد التبرير بالقول إنّ تسمية المسجد نسبة لوالدتهم واسمها زهراء لا الزهراء فاطمة بنت النبيّ. ومع ذلك، وبعد موجة جدل على مواقع التواصل جرى تغيير اسم المسجد إلى “العزّة لله”، ليكفي اللّه “الطائفيّين” شرّ القتال.
في الوقت الّذي كان يتخلّص فيه السوريّون من طاغية بلادهم، استغلّ جيش الاحتلال الإسرائيليّ الظرف، وتمدّد في عمق الجولان السوريّ تحت ذريعة ملء الفراغ، لتغدو المسافة بين دبّاباته وأبواب العاصمة دمشق لا تزيد عن عشرين كيلومترًا. ومع ذلك، لم تصدر القيادة الجديدة لدمشق المتمثّلة بإدارة العمليّات بيانًا واحدًا يذكر السوريّين بمحتلّ جولانهم والمتمادي على جنوبهم، ليس لانشغالهم بثقل انتقاليّة المرحلة فقط، وهذا يفهم نظرًا لحجم التحدّيات المحيقة بالسوريّين. إلّا أنّ حمولة تحامل قطاع واسع من السوريّين على كلّ من ساند ودعم قتلهم وتهجيرهم من قوى محلّيّة وإقليميّة ذات امتداد طائفيّ، للحدّ الّذي لم يعد يبدو فيه الاحتلال الإسرائيليّ سؤالًا، ليس على مستوى القيادة الجديدة، إنّما على مستوى المزاج الشعبيّ السوريّ الّذي بات يتقصّد غضّ الطرف وصرفه عن إحدى أهمّ القضايا السوريّة وطنيّة.
تقتات الدولة العبريّة بتطلّعها لتقسيم سورية على تلك الاعتبارات الوشائجيّة – الاجتماعيّة المتّصلة بتسيس الطائفيّ والمذهبيّ والعرقيّ وحتّى الجهويّ، لأنّ في ذلك ضمانًا لأمنها القوميّ الّذي يشترط أن يظلّ العرب من خلف شريط التماس معها طوائف وجماعات متنازع فيما بينها. إنّ بلادًا تنخرها الطائفيّة لا تستقرّ بقدر ما يمكن أن تمنح الاحتلال استقراره عليها، كما لو أنّ الطائفيّة قوت إسرائيل وأحد مصادر قوّتها على محيطها والمنطقة في المرحلة القادمة.