حين تنتج الإنسانية معجزة… قصة الطبيب الذي أعاد لمريم يدها
حين تنتج الإنسانية معجزة… قصة الطبيب الذي أعاد لمريم يدها
مريم مشتاوي
نحن أبناء الخوف، أبناء زمنٍ أنهكته الحروب، حتى باتت أفراحه مقصوفة الأجنحة، ومبسمه مبللاً بندى الدموع. نحن جيلٌ أرهقته النكبات، جيلٌ تشكّل تحت وطأة القذائف وصوت الانفجارات، حتى صار الخوف جزءًا من تكويننا النفسي، يسكن مسامات أرواحنا ويتغلغل في كل لحظة فرح عابرة. لم تعد الأخبار السعيدة تمرّ كرسائل طمأنينة، بل غدت كمائن، مَصائد خادعة، كأنها بداية انفجار يلوح في الأفق. الضحكة لم تعد سوى صدى للعاصفة المقبلة، والأمان في أرضنا صار خطأً مطبعيًا، كلمة مشوهة في نص كُتب بمداد الدماء.
الحرب، هذا الوحش الرمادي الذي لا يرحم، سلب منا عفوية البهجة، حتى صرنا نتوجس من اللحظات الدافئة، نخشى أن تكون مجرد هدوء ما قبل العاصفة. كيف لا وقد شهدنا مرارًا كيف تنفجر الأوطان فجأة، وكيف تتحول ضحكات الأطفال إلى صمتٍ مروع تحت الأنقاض؟
ومع ذلك، ورغم هذه الظلال الثقيلة التي تخيم على قلوبنا، هناك لحظات، وإن كانت نادرة، تشبه استراحة المحارب وسط معركة طاحنة. لحظاتٌ خاطفة، نرتفع خلالها فوق ركام الألم، كأننا نلتقط أنفاسنا قبل أن يعاود الحزن خنقنا. إنها لحظات الخدر أو الضياع، تلك التي نبحث عنها بوعي أو دون وعي، كالغريق الذي يتعلق بأضعف الأمل، رغم يقينه بعمق البحر من تحته.
الدكتور المعجزة
هذا الأسبوع، كنت أبحث عن لحظة كهذه، عن خبر سعيد، عن بصيص نور وسط العتمة. أردت أن أرى الحياة وسط الموت، الأمل وسط الرماد، فبحثت حيث يبدو البحث عن الفرح ضربًا من الجنون، بحثت في غزة. أعلم كم يبدو ذلك ساذجًا، فغزة التي صارت عنوانًا للفاجعة والدمار، كيف يمكن أن تنبت فيها زهرة فرح؟ لكني وجدته. نعم، وجدته، ليس كذبة ولا وهمًا، بل في قصة الطبيب العراقي محمد طاهر، هذا الجراح الذي منح طفلة فلسطينية فرصة للعودة للحياة، بعدما كانت يدها المبتورة شاهدًا على وحشية الحرب.
الدكتور محمد طاهر، جراح الأطراف الدقيقة، لم يكن يبحث عن شهرة ولا تصفيق، لكنه غادر منزله الدافئ وعائلته في لندن، تاركًا وراءه راحة الحياة المستقرة، ليكون حيث الألم الحقيقي، حيث الحاجة للإنسانية أعظم. انضم للفريق الطبي الأوروبي المتطوع في غزة، وهناك، في المستشفى الأوروبي جنوب القطاع، بدأ عمله، ليعالج الضحايا الذين لا صوت لهم سوى أنين الجروح.
لم تكن مهمته في غزة لتستمر أكثر من ثلاثة أشهر، لكنه الآن هناك منذ خمسة أشهر، رافضًا المغادرة، رغم انتهاء مهمته الإنسانية الرسمية. لأنه ببساطة لم يستطع أن يرحل، لم يستطع أن يترك مرضاه خلفه، في مدينة تحترق بالألم يومًا بعد يوم.
وهنا تبدأ الحكاية، حكاية لامستني بعمق، إنها الطفلة مريم صباح، ذات التسعة أعوام، تلك الطفلة التي أصابها القصف الإسرائيلي في دير البلح.. هناك حيث اعتُبرت المنطقة «آمنة للنزوح»، فكان نصيبها جروحًا غائرة في بطنها ويدًا مبتورة.. فالبراءة صارت جريمة تستحق العقاب.
عودة من تحت الركام!
نُقلت مريم إلى مستشفى الأقصى، حيث التقى بها الدكتور طاهر. نظر إلى يدها المبتورة، إلى النزيف الذي لم يهدأ، وفاجأ والدها بطلب بدا مستحيلاً: «ابحث عن يدها. قد نتمكن من إعادة وصلها». كيف يمكن البحث عن يدٍ وسط ركام منزل مدمر، في بقعةٍ تتناثر فيها الأشلاء والدماء؟ لكن الأب لم يتردد. عاد إلى منزله المهدّم في دير البلح، باحثًا بين الركام، تحت الحجارة، بين آثار الدمار، وكأنما يبحث عن بقايا روحه.
بعد ثلاثة أيام من البحث المضني، وجد اليد الصغيرة، متجمدة، خاملة، وكأنها بانتظار لمسة معجزة تعيد إليها الحياة. حملها بيدين ترتعشان، وعاد بها إلى المستشفى، حيث كان الطبيب ينتظر.
خاض الدكتور طاهر معركةً جراحية استمرت أكثر من خمس ساعات، بين أدواته الطبية والاحتمالات الضئيلة، في غرفة معقمة بقدر المستطاع رغم محدودية الإمكانيات، في مستشفى يعاني من نقص الأدوية وأدوات التعقيم. كان الجو شديد البرودة، وربما هذه البرودة نفسها، كما أوضح الطبيب لاحقًا، هي ما ساهم في حفظ اليد وجعل إعادة توصيلها ممكنًا.
كانت الجراحة معقدة، سباقًا مع الزمن والتعفن والآمال المجهضة، لكن المعجزة حدثت. بعد أكثر من خمس ساعات، أعاد الطبيب العراقي يد مريم إلى مكانها، ليس فقط كطرف جسدي، بل كجزء من طفولتها المسلوبة، كرمز لحياة لم تنتهِ بعد.
رغم نجاح العملية، لم تزل المخاوف قائمة. فقد كانت يد مريم ملوثة بمواد كيميائية نتيجة القصف، مما يزيد خطر الالتهابات، في ظل شح المضادات الحيوية وانقطاع الإمدادات الطبية بفعل الحصار. ورغم ذلك، أشرق الأمل. لقد أشرق في عيني الطفلة، في نظرات والديها، وفي وجه طبيب يخاطر بحياته يومياً لأجل الآخرين.
لكن ما حدث لمريم ليس نادرًا في غزة. فبحسب تقارير اليونيسف، ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول فقط، فقد أكثر من ألف طفل في غزة أطرافهم جراء القصف الإسرائيلي. ألف جرح، ألف ندبة لن تندمل، ألف ذكرى للبراءة المنتهكة.
وتشير تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى أن عشرة أطفال يفقدون ساقًا أو طرفًا كل يوم في غزة، حتى تحولت هذه البقعة المحاصرة إلى أكبر تجمع للأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث.
هذا هو الوجه الحقيقي للحرب، ليس أرقامًا باردة، بل حكايات من لحم ودم. ومع ذلك، فإن في قلب هذه المأساة، ينبض الأمل. الطبيب محمد طاهر لم يُعد فقط يد مريم، بل أعاد معنى الإنسانية في زمنٍ قست فيه القلوب. لقد قال دون كلمات: حتى في أقسى الحروب، يمكن ليدٍ واحدة أن تكون رمزًا للشفاء، ولجراحٍ غائرة أن تجد من يضمدها بحب.
ما فعله الطبيب في غزة ليس مجرد عملية جراحية، بل رسالة صامتة للعالم: ما زال هناك من ينحاز للحياة، رغم كل هذا الظلام.
كاتبة لبنانيّة