ميساء جلاّد: بعد كتابة أطروحة الماستر كتبت الأحداث من خلال الموسيقى
ميساء جلاّد: بعد كتابة أطروحة الماستر كتبت الأحداث من خلال الموسيقى
زهرة مرعي
«مرجع: حرب الفنادق» ألبوم موسيقي يستعيد معارك عسكرية مدنية مبتكرة لبنانيا
بيروت ـ «القدس العربي»: تُعرّف ميساء جلاّد ألبومها الموسيقي «مرجع: حرب الفنادق»، بـ«مقطوعة موسيقية عن أول معركة ناطحات سحاب في العالم، والممتدّة من 22 تشرين الأول/اكتوبر 1975 إلى 29 آذار/مارس 1976».
ألبوم من 12 أغنية مُكرّس للتعبير عن معارك قاسية قضت على كثير من المواطنين الأبرياء. مقاتلون عرّفتهم الباحثة والموسيقية ميساء جلاّد بالحمر، وهم المنتمون لما يُعرف بالحركة الوطنية، والزرق وهم المنتمون لما يُعرف بالجبهة اللبنانية.
ميساء جلاد مهندسة معمارية ولدت بعد اتفاق الطائف بسنة، وصلتها المعلومات عن الحرب الأهلية، وبيروت الشرقية والغربية بالقطارة، إلى أن جمعت بنفسها الكثير من المعلومات عن حرب الفنادق، وبرج المر وهوليدي إن، ومن مراجع عديدة، بهدف كتابة اطروحة لنيل الماستر في الحفاظ على العمارة. إذاً هو بحث عن دور المباني في الحروب؟ وقراءة لحرب الفنادق من منظور هندسي؟ ولماذا تُدرَّس حرب الفنادق في أكاديميات الجيش الأمريكي؟
إنه البنيان الهندسي ذو الصلة الوثيقة بمحيطه. فكيف يصنع هذا البنيان الحاضر والمستقبل؟ ميساء جلاّد التي بحثت هندسياً وإنسانياً بهذه الحرب ونالت الماستر، واصلت جهودها على جبهة الموسيقى، بما يتيح وصول نتائج بحثها لشريحة أوسع تتخطى درجة علمية ومهنة. كتبت الكلمات ولحنتها وأدتها بالتعاون مع كثيرين. وهكذا تناغم الجانب الموسيقى الأثير في تكوينها الشخصي، مع الجانب الهندسي المعماري انطلاقاً من صلته بالإنسان وحياته الاجتماعية والسياسية.
مع ميساء جلاّد هذا الحوار:
• كيف تمكنت معركة عسكرية من أن تحمل عنوان «مرجع: حرب الفنادق» على صعيد موسيقي وكذلك بحثي؟
• قررت منذ بضع سنوات أي مشروع فني اُقدم عليه يبدأ من البحث. والبحث يستدعي وجود مراجع، فكانت حرب الفنادق هي الموضوع الأول لمشروع مرجع. تلك الحرب كتبتها في اطروحة لنيل درجة الماستر من جامعة كولومبيا، في تخصص عنوانه «كيفية الحفاظ على التاريخ من خلال المباني». نلت الماستر وصارت الأطروحة مرجعاً أكاديمياً في الجامعة. عشت لثلاث سنوات في الولايات المتحدة شعرت بالعزلة عن الموسيقى وهذا ما أزعجني كثيراً. وهكذا ولدت فكرة مجنونة بكتابة موسيقى عن حرب الفنادق، وعن البحث الهندسي الذي أنجزته. ومن خلال تلك الموسيقى سيتمكن الناس من التعرّف إلى الاكتشافات التي وصلت إليها بنتيجة أبحاثي. ولدت سنة 1990 ولم أشهد الحرب الأهلية، لكني تأثّرت جداً بما اكتشفته خلال كتابتي للأطروحة عن مدينتي بيروت. خجلت لكوني أجهل كلّ ما مرّ عليها، وأن أهلي عاشوا تلك الأهوال، وكذلك ناس المدينة. فكان قرار كتابة الموسيقى، والتي استغرق حسم نوعيتها وقتاً.
○ أيهما الأصعب كتابة الماستر أم الكلمات والموسيقى؟
• استغرقت كتابة الماستر ستة أشهر. بالتأكيد احتاجت الموسيقى لوقت أطول كونها عملاً تشاركياً مع الفنان فادي طبّال وموسيقيين لبنانيين آخرين. كنّا حيال أسئلة واختبارات عن كيفية ترجمة الهندسة إلى موسيقى، وكيف نموسق معركة عسكرية؟ كيف ولماذا نكتب هذا التاريخ الأليم رغم الصعوبات التي نمر بها منذ 2019-2020؟
○ مراجع الماستر وفيرة فماذا عن مرجعك لكتابة الموسيقى؟
• كنت حيال ابتكار في كتابة الموسيقى. في جلسة مع يمنى سابا سألتني عن كيفية التعبير عن الصمت أو الفراغ في الموسيقى؟ عزفت يمنى سابا العود، وعزفت الغيتار. كمثال للتعبير عن الفراغ لا نمدد أحرف المد الألف والواو والياء، بل نشدد على الأحرف الأخرى. كانت هذه بداية الابتكار، وأكملت العمل مع فادي طبّال وكافة الموسيقيين المشاركين.
○ هل شعرت بحاجة لمشاعر الناس خلال كتابتك للموسيقى؟
• لدى إعدادي للأطروحة التقيت بالمحارب أسعد شفتري، وأخبرني عن حرب الفنادق من دون أن أعلم إذا كان من عناصرها أم لا. والتقيت الراحل لقمان سليم، وصاحب فندق ألكازار من آل طرزي، والذي بات اليوم مقراً لمصرف كبير. ألكازار واحد من الفنادق التي سيطرت عليها الميليشيات. ولقاء الصدفة الأهم والأكبر كان مع بيير، وهو خال أحد أصدقائي. أخبرني أن منزلهم كان في منطقة الزيتوني وكان في عمر المراهقة، وأنه كان يجالس المحاربين الزرق ويسألهم عن ما يقومون به. انتهت حرب الفنادق اقترب منه الموت على يد الحمر الذين قتلوا المسيحيين في تلك المنطقة. صدفة دخل مُسلح كان يتشارك معه ألعاباً على الماء فرجوه أن لا يُقتلوا، وهكذا نجا. وما كشفته أبحاثي أن الزرق أخرجوا كافة أقاربهم ومعارفهم من منطقة الفنادق قبل انسحابهم منها، وتجاهلوا الآخرين.
○ تنقّل المتحاربون بين الفنادق وفي طوابقها فكيف تنقّلت الموسيقى بين أغنية وأخرى؟
• بين أغنية وأخرى اُصبح قراري أن اُصبح أنا المبنى. لهذا تحمل الأغنيات أسماء هيكازيان، و22 تشرين الأول/اكتوبر وبرج المر (25 إلى 27 تشرين الأول/اكتوبر) وغيرها: فيتلو الألبوم الخط الزمني والمكاني للمعركة. أحكي بلسان هايكازيان «يختبئ أزرق في جسدي.. يريد اقتحام البنك المركزي كالآخرين في شارع المصارف.. ولكنّ أرى الحمراء تتصدّى ويشتدّ القتال في دهاليز القنطاري». وفي أغنية برج المر «يختبئ أحمر في جسدي يتسلق عامودي الفقري..».
○ بعد نيل الماستر وكتابة الموسيقى والكلمات ماذا تبدّل في ميساء جلاّد؟
• ازداد استيعابي لأسى الناس. وأذكر خلال كتابة أطروحة الماستر أني اكتشفت ما يُسمى بالسبت الأسود، والتي اطلقها أب قُتل ابنه على يد الحمر، ونظراً لحجمها الكبير اتهم الحمر الزرق بأن الواقع ليس انتقاماً لأب مفجوع وحسب، بل مجزرة لوقف مشاورات كانت تجري بحثاً عن الحل، وعندها رسم جورج حاوي على الخريطة الخط الفاصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية. وكان ضرورياً أن يصار لانتزاع منطقة الفنادق من الزرق. تتالت المجازر بعد السبت الأسود من الكرنتينا، إلى الدامور والتي تزامت مع فترة حرب الفنادق. وبدأت الردود المتبادلة المبنية على مشاعر بشر يحركهم الانتقام. ولعبت القيادات دوراً في تفعيل حاجة الانتقام. قيادات استغلّت مشاعر الناس وخاصة الشباب، فقد كان أكثر المقاتلين تحت عمر الـ18 سنة.
○ العودة إلى مرحلة ماضية ومعالجتها موضوعياً وموسيقياً هل هذا سيدفع لندم لدى البعض؟ وهل سيساهم في وحدة اللبنانيين؟
• برأيي يمكن للحرب الأهلية أن تشكل تاريخاً مشتركاً بين اللبنانيين، حيث الجميع خاسر. رؤية الحرب بهذا المنظار قد تساهم بالتصالح مع الذات ومع الآخر، مع العلم أن بعضهم ما زال ينطق بالشرقية والغربية، والحمر والزرق متواجدون. وبالنظر لما يتعلّق بمناصرة القضية الفلسطينية فالانقسام حيالها ما يزال قائماً.
○ كتابات نقدية وصفت ألبوم «مرجع: حرب الفنادق» بالمفاهيمي. لماذا؟
• لأن بناءه انطلق من فكرة رسم خريطة الأحداث من خلال الموسيقى. وصلت إلى هذا المفهوم الواضح، مما أفضى إلى خطة كتبنا وفقها الموسيقى.
○ أفضى بحثك لمعلومة تقول بأن الجيش الأمريكي يدرّس حرب الفنادق لجنوده. ما هو شعورك حيال ذلك؟
• صُدمت. وفهمت بأن حرب الفنادق كانت الأولى في العالم التي تستعمل ناطحات السحاب كميدان. تعرّفت خلال البحث إلى بول جريديني وهو أمريكي من أصل لبناني يعمل في وزارة الدفاع الأمريكية. كانت له مقابلات عديدة في لبنان، وخلُص إلى وثيقة عن حرب الفنادق من بينها أن تلك المنطقة لم تُقطع عنها الكهرباء خلال المعارك، ونصح بقطعها عن المنافسين في أي حرب مدن مقبلة. من حرب الفنادق تمّ استخلاص قواعد لحروب مُدنية مقبلة.
○ إذاً ما هو كمُّ المعلومات التي سيدرِّسها الجيش الأمريكي قريباً بعد حرب الإبادة على غزّة؟
• قرأت اليوم أن أكاديميات الجيش الأمريكي بدأت تدريس تخطيط المدن. والهدف اتقان التحايل على تصميم المدينة لإشعال حرب. الحرب على غزّة معيارها الأساس التكنولوجيا، والسلاح المستخدم عن بعد، إضافة للأقمار الصناعية، وهذا ما تدرسه الجيوش حالياً ولم يكن متوفراً قبل 50 سنة في حرب الفنادق والتي كانت معركة «برية» في مرتفعات المدينة.
○ الجيش الأمريكي يدرس كيف سيتعامل مع المدينة خلال الحرب والمعماريون يصممونها على أسس إنسانية اجتماعية وثقافية واقتصادية. ما هو الفرق بينكما؟
• كبير للغاية. أحياناً البناء المفيد للمستثمر العقاري وبخاصة ناطحة السحاب، يؤذي المدينة خلال الحروب. إنه الارتفاع الذي يبحث عنه القنّاص. وتسمح الشوارع الواسعة للدبابة بالدخول، بخلاف شوارع المدينة القديمة. تحكم الهندسة المعمارية الحياة اليومية من دون دراية من الناس. نحن البشر محكومون بهندسة مدننا، وبالتأكيد ستحكم الهندسة مسار الحروب.
○ هل تُرسم المدن بتوقع حروب مقبلة؟
• كتاب هبة بوعكر «لحروب منتظرة: تخطيط حدود بيروت» يبحث في المنطقة من دوحة عرمون جنوباً، مروراً بصحراء الشويفات، وصولاً إلى حي ماضي/مار مخايل، الضاحية الجديدة لبيروت، والتي استند بناؤها لما يمكن أن يحدث في ظل حرب جديدة. إذاً يمكن للمدن الجديدة أن تُصمم بشكل يساعدها في حماية نفسها في أي حرب جديدة، أو أن تكون جزءاً من تلك الحرب. وهنا نضرب مثالاً بالمستوطنات الصهيونية التي تحتل التلال. احتلال التلال يمنح القوة، ويتيح وجهة النظر من أعلى، والوصول إلى التلة يصبح أكثر صعوبة.
○ وماذا عن استهداف المستشفيات ومحوها كما في العدوان على غزّة. هل ستصبح مقرراً دراسياً عسكرياً في الولايات المتحدة؟
• تحدّث الدكتور غسان أبو ستة عن مجازر المستشفيات في قطاع غزّة كوسيلة للقضاء على البشر. ما حصل بحق المستشفيات في قطاع غزّة أبعد من أي كلام، ويستعصي على الفهم والوصف. ليس لأي إنسان بكامل قواه العقلية أن يستوعب العدوان على القطاع الصحي في غزّة. في 17 اكتوبر ضُرب المشفى المعمداني وقتل 500 إنسان، في تلك اللحظة لم تعد غزّة حيال حرب، بل إبادة، وهي مستمرّة. باعتقادي أنّ الأجيال المقبلة ستدرس إبادة غزّة كما تُدرّس الهولوكوست. قد يتأخر اقرار هذه الإبادة في المناهج، لكنها لن تغيب عنها لو بعد 50 سنة. وآمل قبل ذلك..
○ ماذا عن قصيدة «الإرث» التي تحمل الرقم 12 في الألبوم؟ ما هو أرثنا؟
• ورثنا حروب الشوارع بين مرحلة وأخرى، وورثنا الطائفية. ورثنا واكتسبنا طريقة تعامل تفيض عنفاً مع المدينة. 80 في المئة من وسط البلد دمّرته سوليدير. بكل بساطة تقرر بعد رؤية آثار الحرب الأهلية في وسط البلد، جرفه، وتدمير المزيد، كما حصل مع بناية الريفولي والكثير غيرها. الحرب تعاملت مع المدينة بعنف، وأستكملت سوليدير هذا العنف في السلم. ورثنا زعماء الحرب الذين حاولوا محو الحرب الأهلية لأنها تُشكّل تاريخهم وتدينهم. أقول في أغنية الإرث: «ضاعت خريطتي من يدي.. وضاع الناس في أحياء الآخرين..انتهت المعركة ولكنّ الحرب لن تنتهي ما دمنا نصوّت للحمر والزرق». كانت صدمتي كبيرة عندما اكشفت أن مستشفى سان شارل كان يشغل مكان فندق الهوليدي إن، وأن بناءه دُمرَ.
○ وهل ستكتبين عن الحروب التي يخوضها الكيان الصهيوني من فوق؟
• لا شك بضرورة الابتعاد بالزمن عن الحدث لتناوله أدبياً أو فنياً. لكني كتبت أغنية اسمها «الدْوار» وأديتها مؤخراً. إنها حكاية امرأة فلسطينية اسمها حمدا جمعة من قرية عرب الزبيد، هجّرتها النكبة خوفاً بعد مجازر الصهاينة في قريتها. حمدا جمعة الضريرة وصلت إلى قرية عيترون في لبنان، أدخلها أحدهم بوسطة تنقل اللاجئين، ووصلت إلى مخيم عين الحلوة في صيدا. «أصوات من النكبة» كتاب وجدت فيه حكاية حمدا. تقول الأغنية «انظري إلى البعد وليس إلى القرب وإلاّ أصابك الدوار».
○ كيف تحققين التوازن بين الهندسة والشعر والموسيقى؟
• أحب الاستمرار في البحث الهندسي المدني، والاستمرار في كتابة الموسيقى. أمنيتي مواصلة العمل والفن فهما شغفي، وأن لا أكون مطلقاً حيال خيار بينهما.
○ أين كنت في عالم الموسيقى قبل «مرجع: حرب الفنادق»؟
• كانت لدي فرقة موسيقية اسمها «سفر». كنّا نكتب الأغنيات بالإنكليزية والعربية. أول أغنية كتبتها بالعربية هي «ونمشي» سنة 2014 وتناولت العدوان على غزّة. حينها كان الصيف جهنمياً نتيجة العدوان، وللمفارقة كنا في دعوة لحضور زفاف صديقة في السويد، وهناك أحسست أن أحداً لم يسمع بهذا العدوان. أردت الكتابة عن هذا التناقض، وعن امتيازاتنا في السفر والهجرة والتأقلم، بينما غزّة سجن في الهواء الطلق، فكانت أغنية «ونمشي».