ثقافة وفنون

هل كانت إسلامياتُ «طه حسين» عودةَ الابن الضّال؟

هل كانت إسلامياتُ «طه حسين» عودةَ الابن الضّال؟

بروين حبيب

شهدت سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية تحوّل كبار الأدباء في مصر إلى الكتابة في الإسلاميات، فنشر طه حسين الجزء الأول من كتابه «على هامش السيرة» سنة 1933، وبعدها بسنتين نشر محمد حسين هيكل كتابه «حياة محمد»، وكان ينشره قبل ذلك على حلقات في مجلة «السياسة»، تبعه بعد سنة توفيق الحكيم، حيث ظهرت مسرحيته «محمد الرسول البشر»، ليلتحق بهذه الظاهرة عباس محمود العقاد بكتابه الأول في الإسلاميات «عبقرية محمد» سنة 1940 الذي أتبعه بتسعة كتب أخرى اكتملت بها سلسلة العبقريات. ورغم أنّ كل واحد من هؤلاء الأربعة الكبار كان داعية لمذهب فكري قبل تحوّلهم للكتابة في الإسلاميات، فهيكل كان متقوقعا في فرعونيته، والعقاد كان معجبا بالمثالية الألمانية، في حين كان توفيق الحكيم حبيس برجه العاجي منشغلا بمسرحه الذهني، إلا أن طه حسين كان الأكثر إثارة للاستغراب وهو القادم إلى الكتابة في السيرة النبوية للتوّ بعد خلاصه من معركة شرسة وصلت إلى حدّ جرّه إلى المحاكم، بل تكفيره في قضية كتابه «في الشعر الجاهلي»، واضطرته إلى إصدار بيان يرضي أصحاب التفتيش في النيّات جاء فيه «أنا أؤكد لعزتكم أنّي لم أرد إهانة الدّين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك، وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر». وقد أوصله هجوم حراس العقيدة المتشددين إلى التفكير في الانتحار بعد تكفيره، كما ذكرت ذلك زوجته في كتابها عنه.
ولفهم هذا التحول في فكر طه حسين الذي نتجت عنه سلسلة كتب إسلامية لا كتاب واحد: فقد اكتمل «على هامش السيرة» في ثلاثة أجزاء سنة 1938، وبعدها نشر «الفتنة الكبرى» في جزأين صدر ثانيهما سنة 1953، وبينهما نشر «الوعد الحق» سنة 1949، وبعدها بعشر سنوات، صدر كتابه «مرآة الإسلام»، ليكون كتابه «الشيخان» سنة 1960 خاتمة إسلامياته.

لفهم هذا التحول علينا تتبع مسيرة طه حسين منذ بداياته، دون أن نقع في تفسيرات سطحية من مريديه التنويريين، أو مناوئيه الإسلاميين، وقد كتب محمد عمارة كتابا كاملا عن الموضوع بعنوان «طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام»، منحازا لخلفيته الأيديولوجية ومنطلقا من فكرة أن طه حسين بدأ إسلاميا وانتهى إسلاميا، تتبع فيه كتابات عميد الأدب العربي الأولى قبل سفره إلى فرنسا، حيث كان الشيخ طه حسين متناقضا مع نفسه في تلك المرحلة، ففي الوقت الذي كان يكتب فيه مقالات في جريدة «الجريدة»، التي كان يشرف عليها أحمد لطفي السيد، داعيا إلى الوطنية المصرية بمعزل عن بعدها العربي الإسلامي، كان الوجه الآخر لطه حسين يكتب في مجلة «الهداية»، التي أنشأها الشيخ عبدالعزيز جاويش، مقالات إسلامية فيها أفكار يصعب الآن أن نصدق أنها صدرت عن الكاتب الذي قاد مسيرة التنوير في ما بعد، وتزوج فرنسية، فقد كان طه حسين يرى آنذاك أن زواج المسلم من الكتابية الأوروبية حرام ممقوت، ويذهب في مقال آخر إلى «أننا ملزمون بنشر الإسلام ومحو الشرك»، وحتى لما ذهب إلى فرنسا بقيت رواسب من خلفيته الدينية تتسرب إلى كتاباته، ففي رسالته للدكتوراه «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون» التي قدمها سنة 1918 كان يرى أن التشريع يجب أن يكون إسلاميا فكتب: «إن الإسلام يتناول كل الحياة البشرية روحية ومادية، ومنه يجب أن تؤخذ القوانين»، وهذا الرأي الذي كان يقول به قبل سبع سنوات أي قبل سفره إلى فرنسا، حين قال إن القرآن «كتاب عبادة وقانون، وحكمة وتشريع». ولكن طه حسين الجديد بعد رجوعه من السوربون كان معجبا بالفكر اليوناني، متبنيا مذهب الشك الديكارتي، وهذا ما طبقه في كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي نتجت عنه معركة فكرية أسالت حبرا كثيرا، والأمر اللافت أن كتابا آخر أحدث ضجة مماثلة كان لطه حسين يد فيه أيضا، فقد صرّح بلسانه أنّ له أيضا دورا في كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، كما ذكر سكرتيره محمد الدسوقي في كتابه «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره»، حين نقل عن العميد قوله « قرأت أصول كتاب الشيخ علي قبل طبعه ثلاث مرات وعدّلت فيه كثيرا».

يتتبع محمد عمارة بانتقائية واضحة مسيرة طه حسين الفكرية التي انطلقت شرارتها الرسمية سنة 1933 مع «على هامش السيرة» وهي السنة نفسها التي شن فيها طه حسين معركة كبرى ضد «زلزال التنصير»، حسب توصيف عمارة، وهذه المعركة تتضح معالمها من عناوين المقالات الست التي كتبها مثل «عدوان» و»فتنة» و»حزم» وتجنٍّ»، ناهيك من لغتها الهجومية القوية كهذه الفقرة «إننا في بلد إسلامي يجب أن يعز فيه الإسلام ولا يذل.. يجب على الحكومة أن تبيّن للناس أنها حكومة إسلامية حقا، لحماية الإسلام وكف المبشرين عن أن يعتدوا على الدين»، ولكن ما تغاضى عنه عمارة، أن طه حسين بعد خمس سنوات من هذا الرجوع إلى (حومة الإسلام) نشر سنة 1938 أخطر كتبه في نظر الإسلاميين على الإطلاق «مستقبل الثقافة في مصر» بما تضمن من أفكار كادت تقود إلى معركة مشابهة لمعركة في الشعر الجاهلي» ومنها أن مصر جزء من الحضارة الأوروبية، أكثر مما هي جزء من الحضارة الشرقية، ودعا إلى تبنّي النموذج الأوروبي. والمثير في الموضوع أن الجزء الثالث من «على هامش السيرة» صدر في السنة نفسها.

تنوعت تفسيرات ظاهرة تحول الكتاب الكبار إلى الإسلاميات، وعلى رأسهم طه حسين، فمحمد عمارة ـ الإسلامي النزعة- يرجع ذلك إلى نضجهم الفكري و»ظهور عورات النموذج الحضاري الغربي»، أو ما سماه زلزال التنصير. في حين يرى لويس عوض أحد رؤوس التنويريين في مصر في محاضرة بعنوان «التطور الثقافي في مصر منذ عام 1952» ألقاها بالإنكليزية سنة 1972 واستدعت ردودا كثيرة، يرى فيها أن «طه حسين والعقاد حاولا أن يُدخِلا إلى الموروثات الإسلامية شيئا من المعقولية ونوعا من المنحى العلمي» فإسلامياتهم هي رد عقلاني على الإسلام السياسي، الذي اشتدّ عوده في تلك الفترة، ومع هذا كان للويس عوض رأي سلبي في إسلاميات طه حسين، فـ»طه حسين باعتباره مفكرا يضطلع بدور في الأدب المصري، انتهى سنة 1938، وكان قمة نتاجه كتاب «مستقبل الثقافة في مصر». ولم يكن هذا الرأي مستغربا من التنويريين، كما لم يُستغرب من قبلُ رأي الإسلاميين في كتابات طه حسين التنويرية.
ويلفتنا رأي للمستشرق الأمريكي تشارلز دي سميث، حيث يشكك في صحة نوايا طه حسين، فيرى أنه كتب على هامش السيرة لـ«الاستهلاك الشعبي» بدلاً من النخبة، ولكن ما هو رأي المعني الأول بهذه القضية؟ بثّ طه حسين جوابه عن هذه القضية في كتاب «من الشاطئ الآخر» الذي جُمعت فيه مقالاته التي كتبها بالفرنسية وترجمت إلى العربية، فقد رأى أن أنصار الحداثة، ويقصد نفسه والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم، بعد أن انتصروا على «التعصب وعلى العقائدية الجامدة والطغيان السياسي الإكليروسي واستطاعوا أن ينتزعوا حقهم في حرية التعبير وكتابة ما يشاؤون أعادوا النظر في تاريخ الإسلام القديم، ولكن بحرية فنشأت بين سنتي 1933 و1946 حركة أدبية كاملة ذات طابع ديني».

وما بين راضٍ بـ(عودة الابن الضال) مثل محمد عمارة الذي كان يعدّ المرات التي يصلّي ويسلم فيها طه حسين على رسول الله في كل كتاب، فحسب ملاحظته كلما كتب طه كتابا جديدا عن الإسلام كانت الصلاة والسلام تكثر، فقد ذكرها في «مرآة الإسلام» 80 مرة وفي كتابه «الشيخان» 160 مرة . وبين حانق على توجهه الإسلامي مثل لويس عوض، الذي رأى أن المفكر طه حسين بعد كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» بلغ مرحلة الجمود الحقيقي الذي ألفه بعد ذلك في سلسلة من التراجم الإسلامية.
ما بين هذين الرأيين المتعارضين يبقى طه حسين الذي كان يقول «إن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسيَّة، ولا قواما لتكوين الدول، إن السياسة شيء والدين شيء آخر» هو نفسه الذي كتب بعد عشرين سنة في «مرآة الإسلام» بأن الإسلام قد أقام أمة سياسية، وأقام دولة قانونها القرآن الكريم والسنة النبوية. وهو في حالتيه الأديب المفكر الذي ألقى حجرا في بركة الجمود الفكري، وترك دوائر الجدل تنداح دون أن يلتفت إلى مُحِبٍّ غالٍ ولا مُبْغِضٍ قالٍ.

شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب