![](https://sawtoroba.com/wp-content/uploads/2025/02/رحيل.jpg)
رحيل الاحتلال… وبقاء الندوب!
![](https://www.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2019/02/personal-photo-New-1-150x150.jpg)
مريم مشتاوي
لم يكن أحد في «الطيبة الجنوبية» يعتقد أن لحظة العودة إلى البيوت ستكون بهذه المرارة، التي تفوق التصور. كان الجميع يتخيل مشاهد العودة كما ترويها لك القصص البطولية: عودة الأهالي إلى بيوتهم وسط الزغاريد، أطفال يركضون في الشوارع يلوحون بالأعلام، رجال يرفعون قبضاتهم في الهواء في لحظة فرح تنسي سكان البلدة بعض القهر الذي خيم عليهم طيلة الأشهر الماضية. لكن الحقيقة لم تكن بهذا البهاء.
ما وجده أهل الطيبة لم يكن سوى الدمار وجبل من النفايات، وبقايا قذرة من جنودٍ عاشوا بين جدران لم تكن لهم، أكلوا وشربوا، تباهوا بقوتهم، ثم رحلوا، مخلفين وراءهم فوضى بشعة، وكأن الطيبة كانت مجرد محطة استراحة على طريق طويل من الاحتلال.
أكياس بلاستيكية، زجاجات مشروبات غازية، علب سجائر ممزقة، وأغرب ما في الأمر: بقايا شاورما «فيغان». كان الاكتشاف صادمًا تقريبًا مثل الاحتلال نفسه. هؤلاء القتلة، الذين لم يترددوا في إطلاق الرصاص على أي شيء يتحرك، كانوا في ما يبدو، قلقين بشأن مستويات الكولسترول لديهم! وكأن آلة الحرب التي ينتمون إليها تحتاج إلى وقود عضوي للحفاظ على لياقتهم أثناء عمليات القصف. لم يكن أحد يعرف أن الغزاة يمكن أن يكونوا نباتيين، أو على الأقل، أن لديهم ما يكفي من الرفاهية ليطلبوا طعامًا صحيًا وسط الدماء والدمار. «يا لهم من وحوش حسّاسين»!
شاعر البواريد: حين يحاول الجلاد أن يكون شاعراً
لكن النفايات لم تكن الشيء الوحيد الذي تركوه خلفهم. كانت هناك أيضاً بصماتهم القبيحة على الجدران، بقايا كتاباتهم التي حاولت، عبثًا، أن تضفي طابعاً إنسانياً على وجودهم الهمجي.
على أحد الجدران، بخط يد مرتبك، ترك أحد الجنود رسالة غريبة: «أحيانًا أفتقدك، أحبك للحظة أو اثنتين، وأشتاق للقهوة معك» .
وقف الناس أمام العبارة مشدوهين. للحظة، لم يعرفوا كيف يردّون. لم يكن أحد يظن أن هؤلاء الغزاة الذين قضوا أيامهم يطلقون الرصاص، يدمّرون المنازل، ويزرعون الرعب، يمكن أن يكتبوا كلماتٍ عن الحب!
«هل يعقل أن هؤلاء الكارهين يحبّون ولو لدقيقتين»؟ يتساءل رجل مسن وهو يفرك ذقنه المتجعدة. «ربما كتبها وهو يحتسي قهوته الصباحية بعد أن أحرق بيت جيراني» !
لا بد أن يطلق الأهالي عليه لقب «شاعر البواردي» ، فهو ليس شاعراً حقيقياً، بل قاتل يتخيل نفسه حساساً. كلماته ليست سوى محاولة فاشلة لتلميع وجه آلة القتل التي ينتمي إليها. لعلها مجرد مزحة، أو ربما لحظة ضعف عابرة وسط دوامة العنف. لكنها تبقى مثيرة للسخرية أكثر من أي شيء آخر.
«في جنة الطفولة التي كانت مزدهرة» … والمحتل الضيف!
وفي شارع آخر، على جدار آخر، وجدت عبارة أكثر استفزازًا، اقتباس من أغنية شلومو أرتسي: «في جنة الطفولة التي كانت مزدهرة، كنت جزءًا من المشهد، اليوم أنا الضيف» .
الضيف؟ من؟ المحتل الذي اغتصب الأرض والذاكرة وقتل آلاف الأطفال في غزة ولبنان؟ أي ضيف هذا الذي يأتي بالدبابات، ويغرس الألغام، ثم يرحل متذمرًا كما لو كان مجرد زائر لم يُحسن المضيف استقباله؟ «عجيبٌ أمر هؤلاء»! هكذا تهمس امرأة وهي تتثاءب وتمسح الغبار عن باب منزلها المتصدع. «يدمرون كل شيء، ثم يتساءلون أين ذهبت الطفولة المزدهرة» !
لقد كان الاقتباس مستفزًا لدرجة أن أحد الشباب أخذ يضحك بهستيرية وهو يقرأه. «أقسم أنني أتصور الجندي الذي كتبه يدمع وهو يكتب!» قال وهو يصفّق بيديه ساخرًا.
ولكن الطيبة وحدها هي التي تعيد ترتيب فوضى الاحتلال… بينما كان الجميع يقرأون العبارات ويتأملون الخراب، كانت الطيبة تعود للحياة ببطء. رجال ونساء وأطفال خرجوا إلى الشوارع يزيلون آثار الاحتلال بأيديهم. بدأوا يجمعون القمامة، يزيلون الكتابات عن الجدران، وينظفون كل زاوية وكأنهم يطهرون البلدة من وجودٍ لم يكن مرحباً به قط.
لكن ماذا عن الذكريات؟ ماذا عن اللحظات التي تخللت هذا الهجوم الأخير الذي دمر الجنوب اللبناني؟ كيف يمكن تنظيف الذكريات، أو محو الشعور بالغضب؟ كيف يمكن نسيان وجوه أولئك الأبرياء الذين قتلوا بدم بارد؟ كيف ننسى صرخات بيروت ودموع الضاحية وحرقة بعلبك وغيرها من المناطق اللبنانية؟
بعد عشر سنوات، وربما أقل، سنجلس تحت شجرة زيتون مخلّعة الأغصان، نحتسي الشاي، ونضحك ملء أفواهنا!» قال رجل وهو يلوّح بكيس القمامة وكأنه راية نصر. «سنتذكر بفخر كيف ورثنا عن الوحوش دروسًا في الأكل الصحي والنزعات الشعرية المفاجئة! يا لها من ذكريات ثمينة!»
لقد رحل الاحتلال، لكن أثره بقي محفوراً في الجدران، في الشوارع، في وجوه العائدين. لم تكن الطيبة كما كانت، لكنها أيضًا لم تهزم. ربما ترك المحتلون وراءهم» شاورما فيغان» ، وكلمات حب كاذبة، وذكريات استعمارية فاشلة، لكن في النهاية، ما بقي هو الناس، الأرض، والرغبة العميقة في الحياة، رغم كل شيء. كانت الطيبة تجمع نفايات الاحتلال، لكنها كانت تجمع أيضًا شتات روحها، تلم شظاياها، وتستعد لصفحة جديدة من قصتها. فالتاريخ يعلمنا شيئًا واحدًا: الاحتلال دائماً يرحل، لكن الشعوب تبقى.
كاتبة لبنانيّة