
سردار عبد الله… عن تواريخ لنا وبشر نسيناهم في الهند

حسن داوود
يبدأ سردار عبد الله كتابه بمقدمة لما دعاه لاقتفاء «أثر مولانا خالد النقشبندي، الذي يحمل بين الأسماء الكثيرة التي أعطيت له اسم «ذو الجناحين». كما يقرّ الكاتب في مقدمته بصعوبة اقتفاء تلك الرحلة، التي قام بها مولانا ذو الجناحين إلى الهند ليقيم فيها سنة كاملة. أما الصعوبة فيعبّر عنها ذاك التساؤل: «إن كانت آثار قدمين على شارعنا الذي نعرفه عن ظهر قلب سراباً، فكيف يمكن أن يكون الأمر مع اقتفاء آثار خطوات طائر؟»، كيف يمكن إذذاك تتبع تلك المسالك التي اخترقها ذلك الطائر السحري الفائق القدرة والذي لا يلوذ بالمخابئ»، متخطّيا كل حدود الطيران، ليغدو نقطة يصعب تمييزها، أو نجمة بعيدة سرعان ما تختفي ع ن مجال النظر».
أراد الكاتب أن يقوم بهذه الرحلة إذن، غير مزوّد بخريطة طريق ولا أسماء محدّدة للأمكنة. الممكن الوحيد المتاحة سهولته هو الركوب بالطائرة من السليمانية إلى بغداد، ثم الإقلاع من مطار هذه الأخيرة إلى نيودلهي. لن يلبث سردار عبد الله أن يحطّنا في تلك المدينة الهندية الشاسعة، حيث الكثير مما ينبغي استهجانه ووصفه. وربما كان في ظنّه أن البلدان ما تزال قارات منفصلة نادرا ما عرف ساكنوها ماذا يوجد في سواها. الكثير مما نقرأه عن الرحلة جرى نقل صوره عبر الشاشات الصغيرة وفيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي. لكننا هنا نرى ما نقرأ عنه بعيني رجل آخر يندهش، أو يفاجأ، أو يستشيط غضبا فيما هو ينفعل إزاء مشاهد الفقر غير القابلة للتصديق.
سردار عبد الله يقوم بزيارة الهند مستعيرا فضول السابقين، حيث سيستعاد لنا وصف أدوات النقل خصوصا، المختلط قديمها بجديدها. ذاك أن الميترو المخترق باطن المدينة (نيو دلهي) لم ينه زمن العربات التي يجرها رجال نحيلون في نقلهم الركاب الأقل فقرا منهم. كل ما استخدم للنقل في تاريخ الهند، بما في ذلك الجمال والكلاب والفيلة إلخ.. بقي مستخدما على مرّ الأيام، وصولا إلى أيامنا الأخيرة هذه. ثم هناك أماكن السكن المرتجل تركيبها، تلك التي تجاورها ابنية رخامية شاهقة الارتفاع. ثم هناك، في ما خصّ أحياء الفقر، يقرّب الكاتب لنا تداول الزمن على الجدران كاشفة من الخارح عما كان، وما زال ربما، في دواخل البيوت. جلّ الكتاب يدور حول سعي الكاتب إلى أن يجعلنا، معه وبرفقته، أن نرى ما استطاع بلوغه من الهند.
وهو سيتيح لنا الخروج من نيودلهي، إلى مناطق يشار عليه بالذهاب إليها بحثا عن خانقاه الشاه عبد الدهلويّ حيث أقام ذو الجناحين خالد النقشبندي طوال سنة. هنا سنتعرف على قدوم أهل ذاك المكان من بلاد مختلفة وأزمنة مختلفة، كما سنتعرف بكثيرين يتكلمون لغات عدة بينها العربية والفارسية. بذلك يُرجعنا الكتاب إلى ما نتخيّله عن حواضر عربية وإسلامية اختلطت فيها أقوام العصور العربية السابقة. وكذلك يعرفنا على من هم أقرب زمنا، ما زالوا يحملون معتقدهم الديني، وكذلك معتقدهم الصوفي الأقرب زمناً.
ممتع ومرهق التجوال، بل الدوران بنا في «جيهان آباد»، حيث مقصد الشيخ. كان في سعيه للوصول إلى مقام الشيخ خالد النقشبندي، الذي كان أقيم لتخليد إقامته في ذلك الجزء من المدينة. أحسب أننا، فيما نقرأ الكتاب، كنا مأخوذين بالبشر الذين أبقوا قرابة ما معنا، وهم أولئك الذين ساعدوا الكاتب على بلوغ مرامه البحثي. وهؤلاء كثيرون يصعب تعداد أسمائهم، أو يصعب تذكّرها، هي وكل من التقاهم الكاتب في رحلته. في كل مكان حلّ به، أو انطلق منه، كنا نتعرف على أسماء، ومزيد من الأسماء. في مقدمة الكتاب وخاتمته هناك أسماء أخرى لمتصوّفة وقادة تاريخيين وزعماء ودعاة إصلاح. ويمكن تقسيم ذلك أو تبويبه حيث مقدمة الكتاب، التي احتوت على أسماء المتصوّفة التي تميّزت لغتها بما يليق بالتعريف بأعلام الصوفية، ومتن الكتاب الخاص بالرحلة إلى الهند.
أما القسم الأخير من الكتاب فيدور حول الصراعات التي خاضها الكرد مع السلطات التي من بينها دول الغرب وروسيا، وأيضا مع السلطنة العثمانية والقاجاريين، حيث اتفقا كلاهما على رفض كل ما يسعى إليه الأكراد من نيل حريتهم في أرض مستقلّة. ذلك الجزء من الكتاب يمكن أن يكون ملخّصا لنضالات الكرد، وتعريفا بقادتهم خاصّا بئلك الشيخ عبيد الله النهري القائد المحارب، الذي واجه دولا كبرى محالفا الأرمن والأشوريين، حيث رأى أن مصيرهم يظل مرتبطا بمصير قومه.
كتاب سردار عبد الله يجمع بين الرحلة وتاريخ الصوفية ونضالات الكرد، وكل قسم من هذه الأقسام جرى التعبير عنه بلغة تنتمي إلى إنشاء النوع وأدبه. ليس إذن هو من صنف أدب الرحلة فحسب، كما في التعريف به على غلاف الكتاب، إلا إن كانت الرحلة تعني مرافقة القارئ إلى كل علم أو تاريخ لا يعرفهما.
« موجز الرحلتين في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحين»لسردار عبد الله صدر عن دار نوفل في 214 صفحة لسنة 2024.