
الصمت كفعل مقاومة وتأمل في قصص «نافذة للصمت»

موسى إبراهيم أبو رياش
«نافذة للصمت» مجموعة قصصية للمغربي هشام أزكيض، صدرت عام 2024 عن دائرة الثقافة في الشارقة، وتتضمن اثنتين وعشرين قصة قصيرة وقصيرة جدا، تناولت موضوعات كثيرة، منها: الأم، الهجرة، السجن، الحب، الفقر، الذكريات، الأمراض النفسية، الخيانة، الطلاق، وغيرها. وبرز فيها «الصمت» كموقف وجودي عميق متعدد الدلالات والأبعاد، حيث يتحول الصمت من حالة سلبية تُحيل إلى العزلة والانسحاب، إلى فعل مقاومة يعبر عن تمرد داخلي وتحدٍ لما هو مفروض. تنفتح قصص المجموعة على أبعاد إنسانية معقدة، يرتبط فيها الصمت بالقدرة على تأمل العالم وفهمه على نحو أعمق، ويبرز كوسيلة لخلق مساحة للتعبير الصادق عن الألم، والمصالحة مع الذات، ونافذة للبوح، وأداة لمواجهة القهر الاجتماعي والسياسي، ومقاومة ناعمة للواقع القاسي.
في تقديمه للمجموعة يقول عمر عبد العزيز حول العنوان: «بهذا العنوان الحامل لمعناه نقف على الصمت بوصفه قيمةً عُليا في دروب النكّبات والمتاعب التي يحملها مَنْ يتصالح مع أسباب الوجود وتقلبات الأيام، وترنَّحات المعاني تحت صليل السيوف الدهرية المقبلة من أعماق المتاهة».
الصمت كبنية سردية
يستخدم الصمت في قصص المجموعة ليشمل بنية السرد نفسها، حيث يُبرز مهارة في استخدام اللغة للتعبير عن اللامرئي والمكبوت. تتحدث القصص عن شخصيات صامتة، وتُستخدم لغة أدبية مكثفة موحية لتجسيد الصمت في السرد نفسه، تجعل من الصمت لغة بذاتها، تُثري النص وتمنحه بعدا جماليا خاصا. وهناك تركيز على التفاصيل الدقيقة، والأجواء المعتمة التي تجعل القارئ يشعر بالوزن الثقيل للصمت في حياة الشخصيات. تشتغل قصص المجموعة على الصمت كفعل سردي، من خلال تصوير شخصيات تقف في مواجهة عالمها الخارجي بعزلة مقصودة. في قصة «نافذة للصمت»، يواجه منصور الشحاتيت القهر داخل زنزانته، بعنفوان هادئ. الصمت هنا ليس استسلاما، بل هو فعل إرادي يشبه الصراخ المكبوت، يمنح السجين القدرة على إعادة تعريف نفسه في مواجهة نظام قمعي يُحاول سحق كرامته. مُظهِرا كيف يمكن للصمت أن يكون أقوى من الصوت في مقاومة الظلم.
الصمت هنا لا يُقدم كفقدان للكلام، وإنّما وسيلة لإعادة بناء الذات وتحقيق الانتصار المعنوي على الظروف القاهرة، وأداة مقاومة، تنطوي على القدرة لاستعادة السيطرة على الذات في مواجهة الانهيار. غالبا ما تُظهر الشخصيات هذا الصمت المقاوم حين تعجز اللغة عن وصف ما يختلج في داخلها أو تفقد الكلمات قدرتها على التأثير في الواقع.
البُعد الإنساني للصمت
الصمت في قصص «نافذة للصمت» موقف فردي ابتداءً، لكنه يتجلّى أيضا في كيفية تعبير الشخصيات عن علاقاتها مع الآخرين. ويُصور الكاتب الصمت كوسيلة لفهم الذات وللنجاة من ضوضاء العالم، والتعبير عن جروحها العميقة بطرق غير مباشرة، ليصبح أداة لمقاومة الانكسار.
في قصة «ذاكرة غيمة صيفية»، يظهر الصمت كفسحة للتأمل في مآسي الحياة والتصالح مع الوجود، حيث تعيش شخصيات هذه القصة عزلة داخلية عميقة، يتيح لها الصمت مجالا للتفكير في ما فات وما سيأتي.
تبدو البطلة العجوز في هذه القصة، وهي تجلس وحيدة على شرفة منزلها، غارقة في صمت يحمل كل ثقل الحياة التي مرت بها. يعكس الصمت محاولتها لإيجاد معنى وسط الغياب العاطفي والاجتماعي الذي تعانيه. يلتقط الكاتب هذه اللحظات بمهارة؛ يصوّر الصمت كنافذة تفتح على أحزان الذات وذكرياتها، لكنه في الوقت نفسه يعبر عن قوة داخلية تعين الشخصيات على مواصلة حياتها، رغم كل شيء.
يُظهر الصمت في قصة «رسالة اعتذار» محاولة الشخصية الرئيسية التصالح مع خيبة الحب الذي مات في داخله. بدلا من مواجهة الحب بالكلمات، يختار أن يصمت، ليترك الحزن يتحلل في داخله، دون أي مقاومة خارجية. يُوظف الصمت كأداة لفهم الآخر في قصة «الحب تحت المطر»، إذ تصمت الشخصيات في اللحظات التي يعجز فيها الكلام عن التعبير عن مشاعرها الحقيقية. يُترجم الصمت هنا حالة من التواصل غير المباشر، عندما تُقال الأشياء دون أن تُنطق.
في قصة «لُقمة الفقراء»، يظهر الصمت كملاذ للفقراء الذين يواجهون قسوة الحياة اليومية، إذ يوصف الحب على أنّه «لقمة الفقراء»، الذين يستخدمون الصمت كوسيلة للاحتفاظ بكرامتهم في وجه واقع يُقصيهم.
الصمت رمز للقوة والضعف
تتنوع دلالات الصمت في المجموعة بين كونه موقفا نابعا من الضعف والعجز، أو فعلا إراديا يعكس قوة داخلية. في قصة «ربما كان هذا الموت»، يتخذ الصمت شكلا مأساويا، فالشخصيات تعيش حالة من الانتظار الحتمي للموت، ويصبح الصمت تمهيدا لغياب أكبر. لكن في قصص مثل «نافذة للصمت»، يبدو الصمت أكثر قوة، كأنّه صرخة مكتومة تحمل شحنة هائلة من التحدي. هذا التناقض يعكس مهارة الكاتب في توظيف الصمت بمرونة، ليعبر عن مشاعر وأفكار متناقضة لدى شخصياته. في قصة «الهاتف الأخير» يتجلّى الصمت كحالة شعورية مكثفة تعكس الانتظار والخذلان والانفصال العاطفي، فهو يثقل اللحظات، ويمدّ الدقائق وكأنّ الزمن نفسه يتواطأ مع الألم. يبدأ كترقبٍ يملأه الأمل، لكنه سرعان ما يتحول إلى خيبة حين يخون الهاتف توقّعاتها ويصمت قبل أن تصل إليه، ليصبح الصمت رمزا للفقد واللاجدوى. ومع إدراكها عبثية الانتظار، تقرر مواجهة الصمت بصمتٍ أعظم، فتطفئ الأضواء وتغلق الأبواب، قاطعةً بذلك آخر خيوط الوصل، ويصبح الصمت فعل مقاومة ونقطة تحوّل من التعلق إلى التحرر. وفي النهاية، حين تستلقي على سريرها، يكون الصمت بمثابة إعلان لانتصارها على الذكرى، وولادة جديدة لها بعيدا عن وهم الانتظار.
التحدي السياسي والاجتماعي
يرتبط الصمت في هذه المجموعة بتحدي الظروف السياسية والاجتماعية. في قصة «نافذة للصمت»، التي تصور منصور، المعتقل السياسي الذي سرقت منه سبعة عشر عاما من حياته أمضاها في زنزانة انفرادية، يصبح الصمت مرآة لانكسار الداخل، ولكنه في الوقت ذاته وسيلة للبقاء. تظهر القصة كيف يتحول الصمت إلى فعل قوة واستمرار، عندما تُفشل الشخصية محاولات المحققين لتفكيك معنوياتها.
أما قصة «ربما كان هذا الموت»، فتصوّر لحظات الحرب بتجربة حسية مفعمة بالصمت، حيث تتحول شخصياتها إلى التأمل في عبثية العنف. الموت هنا ليس في الطلقات التي تُزهق الأرواح فقط، وإنّما في الصمت الذي يسكن أرواح الأحياء ويجعلهم شهودا على انهيار القيم الإنسانية.
وبعد؛ في قصص «نافذة للصمت»، يعيد هشام أزكيض تعريف الصمت بوصفه موقفا إنسانيا، يجمع بين المقاومة والتأمل، القوة والضعف، الاحتجاج والرضا، الألم والمصالحة. فالصمت ليس غيابا للكلام، ولكنه تعبير صادق عن عمق المشاعر وما تعجز الكلمات عن نقله.
تُظهر المجموعة كيف يمكن للصمت أن يكون نافذة يطل منها الإنسان على ذاته والعالم، ليواجه، ويفهم، ويتغير. ومن خلال شخصياته، يجعل أزكيض من الصمت بطلا حقيقيا، أداةً للتعبير والمقاومة، ومساحة لإعادة بناء الذات وسط قسوة الواقع، ما يمنح القارئ فرصة للغوص في عوالمها الداخلية والتأمل في معانيها العميقة.
بقي أن نقول إنّ هذه المجموعة تبشر بصوت إبداعي جديد في فن القصة القصيرة، وهو يمتلك زمام القص بمهارة ولغة جميلة موحية ذات مستويات دلالية وتأويلية متعددة، وهذا ما أشار إليه عمر عبد العزيز: «يحاول المؤلف في تجربته الأولى للنشر، ملامسةَ العناصر الأساسية في فن القصة القصيرة، من خلال الاختزال، والتزهُّد في المحسنات البديعية، والتداعي الناعم مع النص، وتصريف الكتابة وفق واقعية لا تخطئها العين الرائية والأُذن السامعة».
كاتب أردني