مقالات

المخاض السوري والصراعات على الإقليم

المخاض السوري والصراعات على الإقليم

عبد الباسط سيدا

لا يستطيع أحد أن ينكر أن التطورات السريعة التي حدثت في لبنان، ومن ثم في سوريا، كانت نتيجة من نتائج ما جرى في غزة بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حماس بالتعاون مع منظمة الجهاد الإسلامي بصورة أساسية. وقد قيل الكثير حول توقيت تلك العملية، والجهة التي اتخذت القرار، والهدف منها بصورة عامة.
وفي المقابل، لا يمكن للمرء أن يتجاهل بأن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة قد استغلت تلك العملية، فأعلنت حربا مدمرة على قطاع غزة بأكمله، دفع ثمنها المدنيون الغزيون بالدرجة الأولى، هذا إلى جانب اغتيال معظم قيادات حماس من الصف الأول والثاني، سواء في داخل القطاع أم في الضاحية الجنوبية من بيروت أو في دمشق، وحتى في طهران نفسها. وكانت تلك الحرب، بناء على ما تم الإعلان عنه وتطبيقه إسرائيلياً، انتقاما جماعياً لقتل وخطف العشرات من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين ومن حملة الجنسيات الأخرى، هذا إلى جانب الحسابات الداخلية الإسرائيلية ذات العلاقة بالانتخابات، والمحافظة على تماسك الحكومة، ورغبة نتنياهو في إرجاء مسألة محاكمته، وربما محاسبته في حال إدانته بقضايا الفساد المتهم بها.
ولكن حديث نتنياهو المتكرر حول الشرق الأوسط الجديد، ولاحقاً إعلان ترامب رغبته في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى دول الجوار لتحويل القطاع إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، ربما كانا يوحيان بوجود أفكار أو مخططات جديدة لدى الجانبين الإسرائيلي والأمريكي بشأن إعادة النظر في المعادلات الإقليمية، وتغيير قواعد اللعبة مع إيران بعد أن تمكّنت هذه الأخيرة من الوصول إلى مرحلة التحكّم بالوضعين العسكري والسياسي في ثلاث من دول المنطقة الحيوية.
وبالموازاة مع حرب غزة؛ انتقلت إسرائيل في لبنان إلى مرحلة متقدمة في عملياتها ضد حزب الله تمثلت في عملية البيجر وأجهزة الاتصالات الخاصة بحزب الله، وهي العملية التي أدت إلى مقتل وتعطيل الآلاف من قيادت حزب الله. ثم كانت عملية ملاحقة قيادات وكوادر حزب الله الفاعلة، وتمت عمليات القتل والاغتيال بقنابل متطورة، وأسلحة نوعية، وكان من الواضح أن كل ذلك كان يوجه بناء على معلومات وجهود استخباراتية دقيقة. أما الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل لمتابعة عملياتها في لبنان فلم يكن خافيا على أحد.
بعد لبنان جاء الدور على «الدكتور» في سوريا الذي كان يعيش في وضع لا يُحسد عليه، فهو يعرف أن القرار الإسرائيلي بشأن مستقبله هو الحاسم، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن قادرا على فك ارتباطه مع النظام الإيراني الذي تمكن من خلال قواته وأذرعه من التغلغل إلى مفاصل الدولة السورية المدنية ومنها والعسكرية والأمنية.
والنظام الإيراني من ناحيته أدرك أن إسرائيل جادة في قرارها بشأن اخراجه من سوريا، ويبدو أنه قرأ الموقف الروسي أيضا، وفهم أنه لم يعد متحمساً لبقاء سلطة آل الأسد؛ وذلك قد يكون مبنياً على توافقات مع الجانب الأمريكي حول الترتيبات المستقبلية التي ستكون بشأن وقف الحرب في أوكرانيا.
وضمن كل هذه الأجواء والمتغيرات المأتي على ذكرها، وعلى الأرجح بموجب توافقات غير معلنة، تحركت قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها نحو حلب، ثم تابعت طريقها إلى دمشق، بمبادرة ذاتية منها، وذلك وفق تحليلات المقربين منها؛ أو نتيجة توافقات دولية مع تركيا بناء على تحليلات المختصين المتابعين لأوضاع الإقليم وتشابكاتها الدولية (نترك حقيقة هذا الموضوع للمستقبل). ولكن المهم والأهم هو سقوط سلطة آل الأسد، وهروب بشار والمقربين منه، وتلاشي الجيش الذي استخدمه في حربه على السوريين المناهضين لحكمه المستبد الفاسد. بالإضافة إلى هذه الحصيلة كان خروج القوات الإيرانية مع الأذرع التابعة لها من سوريا، وذلك وفق التصريحات الرسمية.
وكان الاعتقاد السائد هو أن الضربات الإسرائيلة للأذرع الإيرانية ستستمر لتشمل فصائل الحشد الشعبي في العراق التابعة للنظام الإيراني، خاصة بعد إعلانها بانها ستتدخّل لصالح سلطة بشار، ولكن يبدو أن جهود الحكومة العراقية الدبلوماسية، وقيامها بنقل الرسائل إلى الجماعات الإيرانية، وهي الرسائل التي فهم أن مضمونها كان يتمحور حول جدية الأمور؛ وأن الضربات التي ستوجه إليها ستكون قاصمة إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء، هذا إلى جانب معرفة تلك الجماعات بوجود تذمر بين شيعة العراق، لا سيما بين النخب والشباب، بعد عقدين من الفساد الأسطوري الذي تميزت به الطغمة المهمينة على الجماعات ذاتها.
ولكن، ورغم كل التحولات غير المسبوقة التي جرت حتى الآن، تبدو أوضاع المنطقة هشة، وهي قابلة للانفجار هنا وهناك. ولعل هذا يجد تفسيره في الإصرار الإيراني على استعادة زمام المبادرة، والمراهنة على حواضن مشروعها التوسعي؛ ولهذا يسعى النظام المعني بكل الوسائل لجمع أوراقه الضاغطة التي فقدها على حين غرة ليستخدمها على مائدة المفاوضات مع الجانب الغربي والأمريكي تحديدا، هذا رغم معرفته بأن المفاوضات مع الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون على غاية الصعوبة في أجواء التفاهم شبه التام بين كل من ترامب ونتنياهو.
ففي غزة ما زالت حركة حماس على تحالفها السابق مع النظام الإيراني، وهو التحالف الذي يستخدمه الأخير كورقة تفاوضية لصالحه مع القوى الغربية، وربما حتى مع إسرائيل بصورة غير مباشرة. وما يحصل في لبنان منذ انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون، واختيار رئيس الوزراء نواف سلام، من تشنجات وتهديدات مبطنة وأعمال شغب متنقلة من جانب عناصر «حزب الله» و«حركة أمل»، وقطع طريق المطار أكثر من مرة، إنما يأتي ضمن سياق رفض الجانب الإيراني الاعتراف بالخسارة، وإصراره على الدفع بمناصريه للتحرك في سبيل تهديد السلم الأهلي على الصعيد المجتمعي، والإساءة إلى سمعة الدولة اللبنانية من خلال اضعاف مؤسستي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء. وهذا الوضع لن يكون بعيدا عن الانفجار ما لم تأخذ القوى اللبنانية، ومن ضمنها القوى الشيعية الوطنية التي كانت من أولى ضحايا حزب الله، مواقف حاسمة ترفض ما يحصل، وتدعم الدولة اللبنانية بكل امكانياتها، وتصر على ضرورة ضبط السلاح وجعله حكراً على الدولة دون غيرها.
أما في سوريا فهناك مخاطر حقيقية تهدد الوضع الجديد، وهذا ما يستشفه المرء من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، والتحركات واللقاءات المريبة التي تتسرب أخبارها من حين إلى آخر إلى الإعلام. بل هناك تصريحات للقوى التي كانت تحسب نفسها على المعارضة التي رفضت استبداد وفساد سلطة آل الأسد، وهي تصريحات تتقاطع حول عدم القبول بما جرى، وهي تستغل بعض الأخطاء والتصريحات غير الموفقة هناك وهناك، إلى جانب بعض الانتهاكات التي لا ينبغي أن تكون. فضلاً عن اللغة غير الواضحة بشأن كيفية التعامل مع التنوع السوري أو إدارته، هذا التنوع الذي يتمظهر في صيغ مجتمعية وسياسية وفكرية لا بد أن يتم الاعتراف بها، وبحقها في التعبير عن نفسها ضمن إطار القانون.
ومن هنا تتجلى أهمية، بل وضرورة إشراك السوريين من خارج إطار هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها في الحكومة والإدارات المختلفة، لتصبح الإدارة الجديدة معبرة عن حالة وطنية سورية عامة، يرى فيها السوريون أنفسهم، وعلى أتم الاستعداد للدفاع عنها بقوة إذا ما تعرضت لأي مخاطر من جانب النظام الإيراني وأذرعه الخارجية والداخلية، لا سيما من جهة فلول سلطة آل الأسد.
الثورة في سوريا نجحت، وذلك بفضل تضحيات السوريين وصبرهم وتحملهم منذ نحو 14 عاماً، بل منذ عقود تمتد إلى بدايات سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الحكم في سوريا عبر انقلاب عسكري. ولم يكن لهيئة تحرير الشام، ولا لغيرها إنجاز ما تم من نصر مبين لولا تعاطف ودعم غالبية السوريين لما قد حصل، ولولا الضريبة الباهظة التي دفعها السوريون من أجل الحرية والكرامة والعدالة.
ومن واجب سائر السوريين الذين يريدون كل الخير لشعبهم ووطنهم، المحافظة على ما تم وتطويره بفاعلية بناءة؛ فهناك الكثير من الثورات التي أخقفت بعد نجاحها حصيلة الخلافات البينية بين أجنحتها، أو بين ما أفرزته من قيادات والشعب الذي احتضنها، أو بفعل جهود قوى الثورة المضادة من المحليين والإقليميين، وحتى على المستوى الدولي.
التحديات التي تواجهها المنطقة، وسوريا على وجه التخصيص كبيرة وجدية، والضمان الأمثل لتجاوز المخاطر هو الاستقواء بالشعب أولاً، وذلك عبر الاستماع إلى ملاحظاته النقدية البناءة الحريصة على الوطن وأهله.
*كاتب وأكاديمي سوري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب