مقالات

تشييع تاريخي لنصرالله: المقاومة مستمرة

تشييع تاريخي لنصرالله: المقاومة مستمرة

عصام نعمان

رغم معوقات الطبيعة بأمطارها وثلوجها وصقيعها، وتهديدات الأعداء من صهاينة وأمريكيين وطائفيين، احتشد مئات الآلاف لتشييع سيّد شهداء الأمة القائد السيد حسن نصرالله ورفيق جهاده، وخليفته لأيام أربعة المجاهد السيد هاشم صفي الدين، مؤكدين جازمين بأصوات جماهير الحشد التاريخي التزامَهم الثابت بقيم وأهداف ومطامح وقسَم سيد شهداء الأمة، وروح محور مقاومتها الشعبية الناشطة في لبنان وفلسطين والعراق واليمن، وتلك المتحفزة الكامنة في شعوب سائر بلاد العرب. من حق جماهير المشيّعين والمؤمنين بقيم وأهداف ومطامح سيد شهداء الأمة، أن يتفكّروا ويتمعّنوا ويلهجوا بمعاني هذا الحشد التاريخي ودلالاته وما يرمز إليه حاضراً ومستقبلاً.. لعلني وغيري الكثير لا نبالغ إذا قلنا إن ثمة معاني ودلالات له كثيرة:
أولها، إيمان الناس الطيبين في عالم العرب والمسلمين وكثر من أمثالهم في دنيا الله الواسعة، لاسيما في عالم الجنوب، بصدق سيد شهداء الأمة وثباته في التزام الصدق قولاً وفعلاً طيلة سيرته ومسيرته الجهادية المترعة بالآلام والآمال والتضحيات والانتصارات. فقد كان هو ذاته في كل مفترق وموقف ومشهد، بكل الصدق والثبات بلا تزويق ولا تنميق. كلمته التزام وفعله حق وتحقيق ووعده تعهّد بالمزيد.
ثانيها، التزام راسخ بكل ما في تراث الإنسانية والأديان والثقافات من قيم وأخلاق ومُثُل، وانفتاح واسع على كل ما في الحاضر من وقائع وحقائق وعوائق وتجارب وإخفاقات وإنجازات ساطعة وواعدة، واستشراف متبصّر بما في كوامن الطبيعة والإنسان والاجتماع البشري من احتمالات وتحوّلات وإرهاصات، وفي مجالات العلم والعمل والابتكار من إبداعات وإنجازات.

الهدف الأول والأعلى للجهاد الإنساني والوطني في زماننا هو تحرير فلسطين بما هي موئل المقدسات الإسلامية والمسيحية، وموطن شعب عربي أصيل استباحته ودنّسته تنظيمات صهيونية اقتلاعية إحلالية

ثالثها، انطلاق حرّ من الواقع والبيئة الى المجتمع الأوسع والإنسانية الأرحب، فلا انحباس في دين وملّة وطائفة وعرق وعصبية، بل انفتاح على الكل بما يخدم مصالح الكل، من دون تجاوزٍ او إخلالٍ بالقيم العليا، مهما كانت المعوّقات والتحديات والمصاعب، لذلك كله كان سيد الشهداء مسلماً قرآنياً بقدْر ما كان تجسيداً حيّاً لأصفى وأسمى ما في سائر الأديان من قيم ومُثُل ومقدسات.
رابعها، اعتقاد راسخ بأن الهدف الأول والأعلى للجهاد الإنساني والوطني في زماننا هو تحرير فلسطين بما هي موئل المقدسات الإسلامية والمسيحية، وموطن شعب عربي أصيل استباحته ودنّسته تنظيمات صهيونية اقتلاعية إحلالية وافدة من غرب أوروبي وأمريكي وظّفها لخدمة مصالحه وأغراضه الاستعمارية المقرونة بدعاوى وذرائع ومزاعم توراتية ملفقة، حول وطن قومي ليهودٍ كان هو تحديداً مَن اضطهدهم وفتك بهم في عقر داره، وما فتأ يحاول التعويض عن فعلته الجرمية بفرضهم بالقوة والنار على أقطار وأمصار شعوبٍ متجذرة منذ آلاف السنين بين الفرات والنيل والخليج والمحيط.
خامسها، توق الى بناء عالم جديد على أسس الحرية والعدالة والكرامة وحكم القانون وحضارة العلم والعمل والإبداع والأخلاق والسلام.
مع اغتيال القائد الشهيد بأيدٍ إسرائيلية وبقنابل أعماق ثقيلة أمريكية، تعرّض حزب المقاومة لنكسةٍ سارعت قيادته البديلة لتجاوزها والتعافي منها بسرعة قياسية، اضطرت معها لظروفٍ محلية قاسية وتحديات خارجية ماثلة إلى مجاراة حكومةٍ لتصريف الأعمال في لبنان، بالموافقة على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار أواخرَ شهر نوفمبر 2024.
رغم ان المقاومة تمكّنت بصلابة أسطورية من منع العدو الصهيوني المعتدي بفرقٍ ثلاث (نحو أربعين ألف جندي) من التقدّم الى قرى لبنانية أمامية على حافة الحدود مع فلسطين المحتلة، فقد انبرى أعداء المقاومة في لبنان بمساندة ٍفاقعة، سياسية ولوجستية، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الادعاء ليل نهار وبكل الألسنة واللهجات بأن «إسرائيل» هزمت المقاومة، وأن الأوان قد آن لرفع «سيطرة» حزب الله عن البلاد بدءاً بالحؤول دون تمثيله مباشرةً، أو مداورةً في حكومةٍ كُلف نواف سلام بتأليفها. رافقت الحملة السياسية والإعلامية الفاجرة حملة عسكرية ضارية شنّها سلاح الجو الإسرائيلي على قرى جنوب لبنان، وعلى مثيلاتها في امتداد سهل البقاع شرقيّ البلاد وأحياء ضاحية بيروت الجنوبية مخلّفاً مئات آلاف المنازل والمرافق المدمّرة والمعطّلة. إلى ذلك، ظنّ كثير من الأعداء والخصوم أن قيادة حزب الله لن تتمكّن، وسط هذه الظروف القاسية، من الوفاء بوعدٍ قطعته للجماهير المحزونة بتنظيم احتفال تشييع يليق بسيد شهداء الأمة. لكن الحزب المقاوم، مدفوعاً بوفاء يلامس حدَّ تقديس قائده المغدور، وبتصميمٍ فولاذي على فضح تخرّصات الأعداء الخارجيين والمحليين، أصرّ ونجح في تنظيم حفل تشييع مهيب بمشاركةٍ مليونية من محبين وأنصار أوفياء محزونين من بلاد العرب وشتى أنحاء العالم على نحوٍ لم تشهده دنيا العرب إلاّ في مصر خلال يوم تشييع قائدها التاريخي جمال عبد الناصر. أليس هذا ما عاشه بالحواس الخمس كذلك مئات آلاف المشيّعين في بيروت العاصمة يوم أمس الأحد؟
يمكن، ربما، توصيف تلك الساعات التاريخية من لحظة بدء مراسم التشييع حتى انتهائها بهذه الكلمات الهادرة بلوعة المفارقة والمكابدة وعزيمة المصابرة والمثابرة معاً: بحر من الجماهير المحبّة المحتشدة والمشيّعة والمتابعة بأسى مسار الجنازة المهيبة أكدت حبها العميق لسيد شهداء الأمة والتزامها المتين بقَسَمه المدوّي بأن المقاومة ستبقى مستمرة صلبة صاعدة وفاعلة حتى النصر.
كاتب لبناني
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب