ثقافة وفنون

الشعر الصوفي بين العرب والفرس: فن البوح ومقامات العشق

الشعر الصوفي بين العرب والفرس: فن البوح ومقامات العشق

صلاح بوزيان

لا مشاحة في أن التصوف الإسلامي اتصف بتنوع التجارب الروحية التي تنطلقُ من القرآن والسنة النبوية، وأنتج هذا التنوع ذخيرة روحية ذوقية ومدونة أدبية صوفية، ما زالت تحتاج إلى الدراسات الأكاديمية، واكتشفنا من خلال المصادر الصوفية موقف علماء التصوف الحازم الذي يُلزمُ مشايخ الصوفية والمريدين بالتقيد بمضامين القرآن/ السُنة، وكل تجربة روحية لا يطيرُ صاحبها بجناحي القرآن والسُنة المحمدية فهي بهتان وجنون وسخفٌ، وما يهمنا في هذا المقال هوامتداد هذا التنوع إلى الأدب الصوفي (شعرا ونثرا)، والأدب عموما هو أحوال ناطقة وألسنة مُعبرة عن تطلعات الأمة وآلامها وشواغلها وأمجادها وطموحاتها، إلا أنه عند الصوفية إشراقات فنية تضيء لنا بواطن الشعراء، وتكشف بحار التوهج الروحي، فهي أذواق وأحوال ولكل تجربة سمات وخبايا وروافد، وأنباء وأنفاس متعددة وأذواق مختلفة. وقد أتاح لنا الاحتكاك بالشعر الصوفي، أن نتبين أن روح العشق الإلهي ملتهبة في الشعر الفارسي، طيارة متنقلة وقودها نسائم الشوق لا تحط ولا تستقر، ترحال دائم، نلمسُ هذه الخصائص في قصائد جلال الدين الرومي فالعبارة جياشة تحمل شحنة الألم وفرحة الفيض مُحلقة تُؤنس الأنفس، تأخذ القارئ من دروب الهوى إلى رحاب التأمل والتطهر من أوثان الدنيا وأصفادها، يقول واصفا تعلق الناس بالأشياء التافهة الحقيرة:

إنهم عبيد للأشياء
فما هو شأن القباءات بين الملوك والعبيد
جالس العاشقين وتعلم منهم العشق
ولا تكن قرينا ولو لحظة واحدة مع من لم يكن عاشقا
وتتحقق العبودية لله وحده بالفناء في حب الله، شعر يعرج بالروح نحو الكمال، ويتشوف إلى أمطار المدد الإلهي، ومواطن الحكمة وروعة التصوير الدقيق يتمتع بها القارئ وينتفع بها السائل، إنها قصائد بريد الروح وترجمان البوح، يسرح فيها عقل القارئ تستهويه عذوبة المعدن وأصالة البناء، شعر صوفي فارسي ترحال وسفرٌ، يُحدث ثورة روحية، يتميز بهذه الحبكة الفنية والتوهج الروحي عن نظيره الشعر الصوفي العربي، بينما يبدوشعر ابن الفارض شيخ الشعراء الصوفية العرب زاخرا بأفانين البلاغة مستوقدا بالاستعارة والتشبيه، فتبدوأشكال البناء بديعة، مما يولدُ لذة النص الريانة بالتجربة الروحية، وهو شكل من أشكال البوح الصوفي. ويستعير ابن الفارض الموروث الخمري ليكشف عن سكره الذوقي، فاقتطع دلالات الخمر من موطنها الأصلي عند العرب ونقلها إلى عالمه الصوفي، فارتقت مراقي حسية بطعم صوفي، وأنتج معاني جديدة لها، وأكسبها دلالات خارقة للخيال الشعري عند العرب والفرس، يقول:
سقتني حميا الحُب راحة مقلتي وكأسي مُحيا من على الحسن جلتِ
فأوهمتُ صحبي أن شُرب شرابهم به سُر سِري بانتشائي بنظرتي
ولما انقضى صحوي تقاضيتُ وصلها ولم يغشني في بسطها قبض خشية
ويقول في الحب :
وعن مذهبي في الحُب مالي مذهب وإن ملتُ عنه فارقتُ ملتي
فالحاصل أن القصيدة الصوفية العربية منشغلة بالفن والتعبير، تسترفد الموروثات الشعرية العربية كالخمر والغزل والوقائع التاريخية وتفكها من دلالاتها، لتشكل لها دلالات أخرى من عالم التصوف، وقد امتلأت كتب الصوفية بما يفيد توظيف الإشارة وتكرر الحديث عن لغة الطائفة (الصوفية) المُشَفرَةِ، ويبدو أن الشعراء الصوفيين العرب التزموا بهذه القيود وأناخوا ركابهم في ساحة الاستعارة والجناس والتشبيه، بينما تحررت الأشعار الصوفية الفارسية من هذه القيود، واستوقفتنا كتابات فريد الدين العطار (545-627هـ/1145-1221م)، تخترق العوالم وتُجلي دفء العبارة وحرارة المعنى وتأجج الروح، واشتهر العطار بغزارة الإنتاج الأدبي، وملحمة منطق الطير، تحفة فنية وقصة شعرية خلابة تسحرُ الألباب وتجتاح الأرواح، حَوت 4500 بيت على لسان الطيور، التي اتفقت أن تتخذ طائرا مَلِكا لها، والطريف المُذهل في الحكاية أن الطيور لا تحبذ السفر إلى السيمرغ، الذي اقترحه الهدهد، ويزعم معرفته بحقيقة السيمرغ، واتبعته مُرشدا، لأنه الطائر القريب من النبي سليمان وفق قصص القرآن، وخاطبته الطيور في أمر إمامته لها…  تقول: «يا عالما بالطريق لا يمكن القدوم إلى الأعتاب دون تأدب، لقد مثلت أمام سليمان كثيرا، كما كنت تعيش في بساط الملك طويلا، وعرِفتَ رسوم الخدمة كلها، كما خبِرتَ مواطن الأمن والخطر..

إذا إنك إمامنا في الحل والعقد، فلتصعد المنبر هنا، حتى تهيئ لقومك زاد الطريق، ويلزم للطريق كل ذي قلب خال». فيبدأ في الكلام ويصف ملك الطيور وكأنه يعرفه يقول: «فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له قاف. اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منا قريب، ونحن منه جد بعيدين، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف أي لسان عن ترديد اسمه، إنه الملك المطلق المستغرق في كمال العز، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد؟». واكتملت القصة على نحو خارق، وتركت الطيور التردد، وسافرت إلى الطائر الأسطوري السيمرغ وفجأة يكتشف الهدهد جهله بحقيقة هذا المخلوق، وهي بلا شك حكاية ممتعة تتغذى بالحكمة والتأمل، مفعمة بالنفس الصوفي والتأملات وتوهج العبارة، ويبدو لنا خيال العطار محلقا لا تشده حدود ولا تأسره نداءات الحياة ولا تثنيه أحوال القوم من حوله، حُر يسلك طريق الأحرار نحو الله، طريق الطيارين. وانتشر حضور الطير برمزيته في ثقافات وآداب مختلفة، إلا أن الصوفية وظفوا رمز الطير وصنعوا منه تعابير فنية تحكي تجاربهم الروحية وتعبر عن أرواحهم الحرة الطليقة، وتنوعت التجارب وتنوعت النصوص، وسبق الشيخ الرئيس ابن سينا (370هـ/428هـ) فريد الدين العطار بكتابه «رسالة الطير» وهو أول من وظف رمز الطير متمثلا في الحمامة الورقاء إشارة إلى الروح يقول:
« هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع»
لكأن العطار تأثر بابن سينا في توظيف رمز الطير وتحفيز مريدي الكمال على الطيران والتشوف إلى العالم الأسنى، ها هو ابن سينا يخاطبُ جمهور الصوفية يحثهم على التحرر من قيود النفس وثقل الجسد والعروج إلى حضرة الحق، يقول: «طيروا ولا تتخذوا وكرا تنقلبون إليه، فإن مصيدة الطيور أوكارها، ولإن صَدكُمْ عَـوْزُ الجناح فتلصصوا تظفروا، فخير الطلائع ما قوي على الطيران». فكيف يستطيع الباحث أن يفهم معمار هذه التجارب الروحية الصوفية باستنطاق رمز الطير؟ ومما يبهجُ القارئ أن نسرد ما قاله الصوفي الجزائري أبومدين شعيب التلمساني الغوث (509-594هـ/1115-1198م) يصف الروح بالطير المربوط في قفص الجسد، وهي من أروع القصائد الصوفية يقول:
«فقل للذي ينهى عن الوجد أهله/ إذا لم تذق معنا طعم الهوى دعنا
إذا اهتزت الأرواح شوف إلى اللقا / رقصت الأشباح يا جاهل المعنى
أما تنظر الطير المقفص يا فتى / إذا ذكر الأوطان حن إلى المعنى».
وتطالعنا حكمة أبي حامد الغزالي (450هـ/ 505هـ) في رسالة سماها «الطير» يُعرف الطيور/ الصوفية، يقول: «من يرتاع لمثل هذه النكت، فليجدد العهد بطور الطيورية، وأريحية الروحاني، فكلام الطيور لا يفهمه إلا من هو من الطيور». والحاصل أن الشعراء الصوفية الفرس أشد احتراقا بنار الحب الإلهي، وأكثر اشتعالا بكمال الانقطاع إلى الله، وأقل صبرا على الكتمان من العرب، يصرحون بالقصد وينسجون تصاوير لبواطنهم، فتحث أشعارهم الخطى تتخطى الكثبان، بينما يوجز الشعراء الصوفيون العرب العبارة، فترتع العبارات كالنجائب يقول البعض، ترشد المتعقبين حينا وتفقدهم الدليل أحيانا، تقول بعض الشيء، وتترك القارئ يخوض التأويل، البحر تلوى البحر عله يبلغ الأعماق، إنهم شيدوا كلامهم بمعان ثقيلة عميقة ومراسيم وعقود، تلتزم بمواثيق الفن الشعري ولا تتمرد. ولكل شاعر صوفي من الفريقين العرب والفرس أمر يلهيه وشأن يغنيه وأحوال تعتريه. وهي أبعاد صوفية في أشعار صوفية. تكشف لنا روابط التكامل والتواصل بين رافدين صوفيين يجمعهما الإسلام والمحبة والصفاء، ما جعلها تشكيلا شعريا مميزا حَل في قلوب القراء محلا جميلا.

كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب