ثقافة وفنون

نهر… بحر… بحيرة… سماء

نهر… بحر… بحيرة… سماء

ثائر دوري

حدق الصغير شرقاً فملأت حدقتيه زرقة السماء الصافية، فصرخ:
بابا.. بابا إنه البحر
وأشار نحو السماء، ابتسم الأب وصحح له :
بابا هذه السماء وليست البحر.
كانت سيارة النقل تمرق كسهمٍ بين بيارات البرتقال الواقعة في السهل الممتد شمال اللاذقية،على طريق القصر الجمهوري، بينما الصغير الواقف بين ساقي والده يبحث بعينيه عن شيء ما، وعند النهر نظر إلى المياه المنسابة على مهل. صرخ من جديد:
بابا.. بابا.. إنه البحر.
وأشار نحو النهر، ابتسم الأب وصحح له من جديد
بابا هذا نهر ليس البحر.
بانت الخيبة على وجه الصغير. لكن ليس لوقت طويل، فقد عادت عيناه تبحثان عن البحر. قال والده إنه حدّث ابنه عن البحر كثيراً. يعمل الأب في مؤسسة سد الفرات. وقد جاء لزيارة أهله في برج إسلام. المسافة بعيدة بين الرقة وبرج إسلام، وتكلفة النقل كبيرة لذلك فزياراته لأهله في برج إسلام قليلة.
– الحياة صعبة وأحلم بيوم أعود به للسكن قرب أهلي. قرب البحر…
قبل شاليهات الدراسات ظهر البحر، فأشار الصغير إلى الغرب وقال:
بابا هذه هي البحيرة.
ضحك الأب وصحح له:
بابا هذا هو البحر الذي حدثتك عنه.
والتفت الأب نحوي شارحاً أن ابنه يعرف جيداً بحيرة سد الفرات، ثم تابع شارحاً لطفله أن البحر أكبر من البحيرة.
البحيرة عند ماما هناك.
كانت زوجته من الرقة لذلك فضلت البقاء عند أمها ولم ترافقهم.
حجبت شاليهات الدراسات البحر لأقل من دقيقة. فعادت عينا الطفل تبحث عنه. ظهرت زرقة البحر من جديد. فصرخ الطفل:
بابا بابا إنها السماء.
وأشار نحو البحر. صحح الأب من جديد:
بابا إنه البحر.
اختفى البحر من جديد خلف الأشجار الكثيفة المزروعة على جانبي الطريق وخلفها دخان معمل الإسمنت المتهالك، ثم ظهر لآخر مرة قبل أن تنعطف السيارة شرقاً إلى برج إسلام.. أخطأ الصغير من جديد:
بابا إنها البحرة.
وأشار نحو البحر.. صحح أبوه من جديد:
بابا هو البحر
صار البحر خلفنا. سأل الصغير أباه
بابا هل السماء أكبر أم البحر؟
أجاب الأب إن السماء هي أكبر شيء في الدنيا. عاد الصغير للسؤال
هل السماء أكبر من البحيرة؟
أكد الأب ذلك، وليُشغل الطفل بأمر آخر بعيداً عن البحر والنهر والبحيرة والسماء . أشار نحو أشجار الزيتون الكهلة، التي تتسلق المرتفعات على جانبي الطريق، سأل ابنه:
ما هذه الأشجار؟
أجاب الصغير فوراً:
هذه أشجار «زيتن». ألا تعرفها؟!
ولفظ «زيتن» بتركمانية سليمة أو بعربية مكسورة. تابعت السيارة تسلق المرتفع الذي يقع عليه برج اسلام. حدّق الصغير بزرقة السماء من جديد، وصاح:
بابا إنه البحر.
ضحك الأب، وصحح:
بابا إنها السماء وليست البحر.
ظهر كرم زيتون بأشجار زيتون كهلة. أشار الصغير نحوها دون أن يخطأ
بابا بابا . إنها أشجار «زيتن».
كانت سرعة السيارة تخمد تدريجياً وهي تتسلق المرتفع الذي تقع عليه القرية. وعادت عينا الطفل تبحثان عن شيء ما، سماء، بحر، بحيرة، نهر.. ثم أشار إلى أحد بيوت القرية التي مررنا قربها، قال:
بابا، هذا بيت جدو
ضحك الأب، وصحح له:
بابا هذا ليس بيت جدو، بيت جدو قرب الساحة.

اللاذقية 1998
*برج إسلام قرية تركمانية شمال اللاذقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب