ثقافة وفنون

زيارة إلى بيت العقاد… صدمة الإهمال وضياع الذاكرة

زيارة إلى بيت العقاد… صدمة الإهمال وضياع الذاكرة

إبراهيم مشارة

كانت زيارة بيت عبس محمود العقاد أثناء وجودي في مصر لحضور فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين، هدفا من أهداف هذه الرحلة، فالعقاد الذي نشأت على حب أسلوبه وعمق تفكيره، والتهام كتبه ودواوينه الشعرية وكل ما كتب عنه جدير بيته بهذه الزيارة.
كنت من قبل قد قرأت كتابه «في بيتي» حيث تحدث عن هذا البيت في كتاب كامل، عن صالونه وغرفه ومكتبته وعن السلالم قال بشأنها (وبيتي هذا هو بيتي هذا، لم أغيره ولم يغيرني، ولم يطرأ عليه وجه غريب إلا ريثما يغيب، والسلالم التي صعدتها مثنى مثنى وواحدة واحدة قد تغير عليها شيء قليل في أيام قليلة، صعدتها بعكاز، بعد تلك العثرة التي أقعدتني في الإسكندرية قرابة شهرين، ثم ها هو ذا في ركنه أنظر إليه كلما هبطت السلالم، أو صعدت عليها ليجنبني مرآه مزالق العثرات).
وتحدث العقاد في هذا الكتاب عن النور الذي يهيم به، وعن شعاع الشمس الذي يتفقد خلال رحلته اليومية، جميع ردهات البيت وغرفه، فالعقاد شاعر النور وكاتب الوضوح والدقة والصرامة، كما أنه رجل الموقف والصراحة، لا يحابي ولا يداجي ولا يخاف، شديد الاعتزاز بنفسه، معتز بانتمائه العربي الإسلامي، منفتح على الثقافة العالمية والإنسانية، وعلى الرغم من أنه اكتفى في تعليمه النظامي بالمرحلة الابتدائية، إلا أنه بعصاميته وحبه للمعرفة وتفانيه في تحصيلها، أصبح من كبار المثقفين والكتاب في العالم العربي، وقد أغنى المكتبة بذخائر في الفكر والنقد وتاريخ العظماء ودواوين شعرية عديدة، تكشف عن أصالة شعرية ووجدان رهيف، على الرغم من صرامة المنطق وعمق التحليل ودقة العبارة ورصانتها في سائر كتبه.


اقتطعت تذكرة وركبت المترو باتجاه عدلي منصور، ونزلت في محطة «الأهرام «لأسير باتجاه ميدان روكسي في مصر الجديدة، ثم سرت في شارع إبراهيم اللقاني وانعطفت يمينا باتجاه شارع محمد شفيق غربال «السلطان سليم سابقا» لينثال على خاطري سيل من الذكريات وتيار من المشاعر المتدفقة، تذكرت طوفان الكتاب والشعراء والفلاسفة ورجال الدين وطلاب الجامعة والفنانين الذين مشوا قبلي في هذا الشارع وهم يخفون زرافات ووحدانا، إلى ندوة العقاد الأسبوعية في بيته وفي صالون البيت تحديدا يوم الجمعة، وقد خص هذا الصالون تلميذ العقاد أنيس منصور بكتاب ضخم بعنوان «في صالون العقاد كانت لنا أيام»، وهو الصالون الذي ألفت حوله الكتب والمقالات وغدا حديث الخاص والعام، بل كان زوار مصر من المثقفين يحرصون في زيارتهم إلى القاهرة على حضور ندوة العقاد والمباهاة بذلك حين أوبتهم إلى بلدانهم، فالعقاد يوم الجمعة هو المتكلم وغيره المستمع، لتنتهي الندوة قبل صلاة الجمعة بقليل، يتطرق العقاد في ندوته إلى الشعر والأدب والفلسفة والدين وتاريخ العظماء والعلم وحتى النّكات الطريفة، فالعقاد على الرغم من صرامته خفيف الروح يحب النكتة ويرويها بمهارة، وفي هذا الصالون يرفع العقاد أقدار كتاب وشعراء وفلاسفة وفنانين، ويحط من أقدار بعضهم الآخر وكأنها بورصة لتقييم الكتاب والفلاسفة والشعراء، يسفل البعض ويعلو البعض ولا يجرؤ أحد على الاعتراض على العقاد عملاق الأدب والفكر.

ومن غرائب الصدف أن البناية تحمل الرقم 13، وكان العقاد يكره التشاؤم، وإذا كان الناس يتشاءمون من الرقم 13 فالعقاد يحتفي بهذا الرقم ويتحدى التشاؤم ، ويتخذ كذلك تمثال بومة زينة على مكتبه، والبوم مضرب المثل في التشاؤم. كنت أنظر في كل اتجاه، بل أنظر حتى في أرضية الرصيف، وأنا جذلان بالمسير على الرصيف نفسه والنظر إلى البنايات نفسها، التي كان العقاد يراها أثناء نزهته الصباحية أو ذهابه إلى المكتبات أو حضور اجتماعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ومجمع الخالدين، وصلت إلى البناية التي تحمل الرقم 13، ولكن الرقم يكاد ينمحي، وتعجبت من عدم وجود لوحة تشير إلى أنه في هذا البيت سكن العقاد منذ الثلاثينيات حتى وفاته عام 1964 مستأجرا لشقتين في الطابق الأول واحدة له والأخرى لابن شقيقه عامر العقاد الذي توفي عام 1985 وله ابنة عبير كانت تتولى زيارة الشقتين وتتعهدهما حين أوبتها من السعودية حيث تقيم هناك. لقد صدمت لوضع البناية، وكأن الإهمال مقصود، وقارنت بيت العقاد ببيوت دخلتها ورأيت كيف غدت متاحف، لها من يشرف عليها ويصونها ويراقب محتوياتها، كذلك الحال مع بيت طه حسين «فيلا رامتان» في الجيزة، وبيت أحمد شوقي على الكورنيش «كرمة ابن هانئ» . لم أصدق أن يكون وضع البناية هكذا، وعهدنا بمصر تحتفي بأعلامها من الكتاب والشعراء، صحيح للعقاد متحف في أسوان مسقط رأسه، حيث تحول بيت العقاد هناك إلى متحف يضم أغراضه وصوره وبعض كتبه، وهذا جيد، ولكنه عاش في مصر الجديدة سنين عديدة وفيها مات، فمن الواجب الحفاظ على البناية وتعهد البيت، لأنه معلم من معالم الثقافة الوطنية المصرية والعربية والإسلامية.

استفسرت من شباب كانوا يعرضون ملابس للبيع على الرصيف، إلى جوار البناية فأكدوا لي أن الطابق الثاني فوق شقة العقاد مهجور، وأن شرفته انهارت على شرفة بيت العقاد وأن السكان في باقي الشقق لا يرغبون في زيارة أحد لهذه البناية أو البحث والسؤال، وأن هناك من يرغب في انهيار البناية ليتم بناء عمارة جديدة أو مول تجاري، ولذا تسعى أطراف مجهولة في خرابه وتتعجل انهياره لينهار بأقصى سرعة، بل إن مالك البناية مجهول لا يعرفه أحد، وقلت في نفسي حينها أهكذا يهون العقاد على الناس وترجح كفة المال على كفة الثقافة؟ والعقاد مفخرة مصر بل مفخرة الأمة العربية والإسلامية؟ دفعت الباب الخارجي المهترئ وفوجئت بالظلام والغبار لأصعد السلالم القديمة التي صعدها العقاد إلى شقته في الدور الأول ووقفت وجها لوجه أمام الشقة الفارغة وبابها موصد لا يوحي أبدا بأنه بيت العقاد، فلا لوحة تدل عليه وكأنهم يتعمدون إخفاءه عن الزوار، ومقابل شقة العقاد شقة ابن أخيه عامر العقاد وبابها موصد كذلك، ولا أحد يسكنها، ولكن ثبتت لوحة على الجدار كتب عليها «الأديب عامر العقاد»، وقفت طويلا بين الشقتين تنفست التاريخ الثقافي في القرن العشرين، ونظرت من خصاص الباب إلى الكراسي والأرائك، حيث صالون العقاد وانثال على خاطري تيار من الأسماء: من الشعراء والكتاب والفنانين رواد الندوة: الصديق طاهر الجبلاوي، حواريّ العقاد أنيس منصور، الشاعر عبد الرحمن صدقي، الفنان صلاح طاهر، الفيلسوف زكي نجيب محمود، محمد خليفة التونسي، نعمات أحمد فؤاد، صوفي عبد الله، الفنانة مديحة يسري، الخادم عم أحمد الذي كان يوزع فناجين القهوة وكؤوس الليمون على رواد الصالون.

صعدت إلى الطابق الأعلى لأسأل أحدا عن أهل البيت وعن هذا السكون والهجران، طرقت الباب على ساكن في شقة تقع في الدور الثاني، ولكنه كان غير مرحب، ممتعضا من زيارتي وفهمت أنهم لا يرحبون بزوار ولا منقبين، فالبناية سببت الصداع والنزاع، والأدهى والأمر وضعها المزري الذي سيؤدي بها طال الزمن أم قصر إلى الانهيار. خرجت من البناية إلى الرصيف لأعود إلى سؤال الشباب عن زيارة أهل العقاد فأخبروني أن عبير العقاد المقيمة في السعودية تأتي في الصيف وتزو كذلك أسوان وفي باقي أيام السنة، البيت مهجور.
لقد بذلت عبير العقاد جهودا في مخاطبة وزارة الثقافة قصد الحفاظ على البناية التي يقع بها بيت العقاد، فالبناية تحتاج إلى تنكيس أي إزالة الجزء العلوي أو الأجزاء المتضررة منه، لتخف الحمولة وترمم البناية ويفتح البيت ثانية أمام الزوار ومحبي العقاد، ولم لا في التفكير في إحياء سنة الصالون؟ ذهبت صرخات عبير العقاد أدراج الرياح، حتى هب أحد الأثرياء في السعودية من محبي العقاد لنجدة البيت باقتراح ترميمه، لكن وزير الثقافة في ذلك الإبان جابر عصفور رفض، بحجة أن العقاد شخصية مصرية فمصر أحق به وهي الجديرة بترميم بيته والحفاظ عليه، ولكن جابر عصفور ذهب ولم يفعل شيئا، ولا شك أنه اصطدم بجهات مجهولة تصر على انهيار المبنى ليتم تحويله إلى عمارة فارهة، أو مول تجاري كبير يدر الملايين.
بقدر ما شعرت بالغبطة لزيارة هذا المعلم الثقافي، الزيارة التي كانت أشبه برحلة مريد إلى شيخه الحاضر أبدا، بقدر ما اعتراني حزن ممض وأسى عميق وشجن كاسح لهذا المصير الذي آل إليه بيت عملاق الأدب والفكر، أيهون العقاد على وزارة الثقافة في مصر ويُتناسى مصير بيته؟ هل تناست الجهات المسؤولة هذا التعمد والإهمال المقصود وخضعت لرغبات الأطراف المجهولة التي تسعى في خراب البناي،ة وسقوطها لتربح هي ويخسر المصريون والعرب والمسلمون محجة للعلم والفكر والأدب؟ إن لم تستدرك وزارة الثقافة الأمر قبل فوات الأوان وتضع حدا لتلاعبات تلك الأطراف المجهولة، التي ترغب في تغليب الربح المادي على القيم والرموز والمادة على الفكر والاستهلاك على التاريخ والمثل العليا فإن معلما كبيرا في طريقه إلى الزوال. أثناء عودتي بعد الزوال إلى شارع عدلي في وسط القاهرة تذكرت في الطريق حديث العقاد للتلفزيون قبل وفاته بأشهر قليلة عام 1964 عن بيته هذا الذي استأجره في أواخر الثلاثينيات، حيث لم تكن جواره بناية أخرى واليوم – يضيف العقاد- لا يكاد يسلم المرء من صراخ الباعة وأبواق السيارات وضجيج المارة. وقلت في نفسي إن التطور والنمو سنة الحياة ولكن إهمال بيوت الأعلام يعني التفريط في حق الأجيال الناشئة وتدمير الذاكرة الوطنية وإتلاف المعالم الثقافية التي هي ملك للأمة بأسرها ولا تقاس بربح مادي أو بمنطق التسوق والريع.
لعل هذه الكلمات لن تكون صرخة في واد وتأتي بالفرج القريب لبيت العقاد وهو الذي أوصى مشيعيه يوما:
إذا شيعوني يــــــوم تقضى منيتي
وقالوا أراح الله ذاك المعذبـــــــا
فلا تحملوني صامتين إلى الثرى
فإني أخاف اللحد أن يتهيبــــــــا
وغنوا فإن الموت كـــــــأس شهية
وما زال يحلو أن يغنى ويشربــــــا
ولا تذكروني بالبكاء وإنمــــــــــــا
أعيدوا على سمعي القصيد فأطربا.
والعقاد اليوم لا يطلب غير حفظ بيته وتعهد أشيائه أسوة بمجايليه من أعلام الأدب والفكر في مصر.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب