رئيسيمقالات

هل البعث حركة تاريخية بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

هل البعث حركة تاريخية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
كيف يمكننا أن نصف بدقة علمية هذه الحركة بأنها تاريخية وأخرى بوصفها حركة عابرة غير تاريخية ؟
ليس لأن البعث حركة قومية، والقومية حقيقة خالدة …
وليس لأنه تأسس في ظروف الثلاثينات والأربعينات الملتهبة … وكان تأسيساً مباركاً ..
وليس لأنه جاء بمبادئ الوحدة …
وليس لأن مرحلة التأسيس ضمت عرباً من الديانات ومن كل الطوائف، ومن كل الأقطار …
لماذا إذن يمكننا أن نطلق على البعث بأنه حركة تاريخية .. فالأمر ليس عاطفياً ولا بأي مقدار .. ولا تعصباً ولا بقدر أنملة .. فقد تجاوزنا مرحلة التعصب منذ زمن بعيد …!
البعث جمع كل هذه الخصائص بوحدة مادية جدلية مدهشة، ولم يكن هذا لأن المؤسسين الأوائل كانوا قد تثقفوا جيداً في الثلاثينات والأربعينات .. نعم كان هذا عاملاً ولكن من بين عوامل شتى .. فالبعث في الحقيقة كان توليفة بين جميع العوامل والعناصر، وبتوازن دقيق لكي لا يطغي عنصر على آخر.
ــ حزب الاستقلال في العراق كان حركة قومية، حاول البعض أن ينعشوه لكنه توارى ثم تلاشى … لأنه لم يتمكن من بلورة ما تريده الجماهير العربية.
ــ حركة القوميين العرب كانت حركة قومية، ولكن الحركة انتهت بغياب القادة ولأن الحركة كان هدفها الأول الثأر بتحرير فلسطين، ثم أصبحت حركة ناصرية، وبعدها ماركسية، ثم ضاعت ألوانها الأصلية والثانوية، بقي عدد من المخلصين لتأريخهم، ولكن الحركة تلاشت.
في الثلاثينات والأربعينات .. كانت الأمة بالكاد تتنفس وقد خرجت من قعر بحر الظلمات لتواجه أعاصير ما بعد الحرب العالمية الأولى .. وما أن حلت الأربعينات والحرب الثانية .. حتى كانت الأمة تعج بالقواعد العسكرية، وباستثمارات وشركات وبنوك الدول الاستعمارية، ولغة المستعمرين تسود صالونات وأسواق المدن العربية، والمدارس الأجنبية تتسيد الموقف التعليمي، المجتمعات والحركة الاقتصادية كانت بيد القوى الأجنبية واحتكاراتها، فهذه القوى كانت قد وطدت العزم أن تتقاسم الأمة قطعاً وأجزاء وتضع لها مسميات … وخيل لهم أن مقامهم سيطول، بل وفكروا حتى بحركة الاستيطان، فجاؤا بمستوطنين في الجزائر وتونس، ونشبت في كل مكان مجتمعات تحاكي دول المستعمر في أكثر من بؤرة .. وكان الموقف لا يدعو للتفاؤل ..
ومن قلب هذه الازمات السياسية والاقتصادية أنطلقت حركة البعث العربي إيمانا بحق الامة في النهوض، وأن تقدم دورها الاستحقاقي في المسيرة وإيماناً بالأمة بيومها وغدها، ومصيرها، و أدركوا بعبقرية مدهشة، أن كل هذا الإحباط والعراقيل والموانع، ما هي إلا محاولات إيقاف النهوض، ونيل ما تستحق. فأسسوا حزبهم أين ..؟ لا لم يؤسسوه في ناد اجتماعي، ولا في فندق فخم، ولا في صالونات الأثرياء، البعثيون الأوائل أسسوا حزبهم في مقهى شعبي بدمشق في 7 / نيسان / 1947، فسرى شعاع سرى من دمشق إلى بيروت وبغداد وإلى الأردن وفلسطين وصنعاء.. وتونس وليبيا ثم أنتشر …!
في هذا الظرف التاريخي الخطير، البعث كان جواباً على التحديات الخطيرة .. كان الرد المتفاءل على التشاؤم الأسود في أسوء مفاصله ولهذا كان الموعد تاريخياً ..
الاحتكارات الاستعمارية العملاقة كانت قد عشعشت وامتدت وتجذرت عميقا، وبدا للبعض أن هذا واقعاً مادياً لا محالة، ومن الأجدر الاعتراف به، في تلك الظلمة الحالكة، قال البعث : شركة نفط العراق (IPC) والتابلاين، وقناة السويس، وأرامكو، والريجي، تعمل بأيدي عربية على أرض عربية، فهي للعرب، ستعود لنا لأنها ملكنا .. الحبانية والشعيبة وشرقي السويس، وطبرق، وويلس وعدن، قواعد عربية، لابد أن تتحرر من أيدي المستعمر، ومن يقرأ أدبيات البعث في الأربعينات والخمسينات، يجد ليس وعيا مبكراً فحسب، بل وقدرة نضالية عالية جداً تداعب المستحيل، ولكنها لم تكن رؤية خيالية، بل كانت إرادة ثورية، ولذلك فهي تاريخية.
الوحدة، شعار البعث الأول، حلمنا العربي بلا انقطاع، وضعها البعث أولى أهدافه في عهد التجزئة والتقسيم، واليوم صارت شعارات الأمة بأسرها، والبعث وضع الاشتراكية في أهدافه، وكان هذا فتحاً نظرياً، وسياسياً، الأهداف الثلاثة الوحدة والحرية والاشتراكية ترتبط جدلياً ببعضها لتمثل الرؤية العلمية والثورية معاً الطامحة بلا شطط، والمؤمنة بواقعية، نريد اليوم والغد والمستقبل هكذا كان خطاب البعث الأول.
إذن البعث كان حركة قومية بأمتياز .. نعم ولكنه لم يغفل الجانب المجتمعي الواقعي فأختار الاشتراكية بوعي مرهف حاد،.. والحرية كانت الرؤية لمجتمع الغد .. بأبعادها. ولهذا البعث حركة تاريخية ولهذا هي عصية على كل من يتآمر عليها ..
البعث ليس ميشيل عفلق، ولا منيف الرزاز ولا نورالدين الاتاسي، ولا صدام حسين ولا حافظ الأسد ولا عزت الدوري، فهذه الأسماء مهما أرتقت وعلت فهي أسماء أفراد، والأفراد زائلون، والبعث باق، الأفراد قد يخطأون، ولكن الوحدة والحرية والاشتراكية حق وهي أهداف برسم النضال للتحقيق وليست للثرثرة في المقاهي.
اليوم بعد ثلاثة وسبعون عاماً .. هذه الشعارات أصبحت ملك الأمة العربية، تدخل في البرنامج السياسي لكل حركة تريد أن تخاطب الشعب، يغير اللغة قليلاً يقدم ويؤخر شيئاً، فكر البعث قد أصبح ملك الجماهير ..المكتسبات صارت لهم، ثرواتهم قواعدهم بلادهم، عادت لهم فخلال الكفاح من أجل الاستقلال وما تلاه (نحو 75 عاماً) تغيرت الخارطة السياسية والفكرية بشكل شبه جذري، كان البعث إحدى الأدوات الرئيسية التي حققت هذا المنجز، البعث دخل كل بيت بأسماء وعناوين مختلفة.
في غضون ذلك ماذا قدم البعث في معاركه …؟ مئات ألوف من الشهداء (في معركة العراق لوحده 160 ألف شهيد من 2003 / 2020) وكان البعث أول حركة شعبية منظمة مارست الكفاح المسلح، فقاتلت قياداته وأعضاؤه في فلسطين، أستلم الحكم في قطرين، ولم يزاح إلا بمؤامرات وتدخلات خارجية، وتعفف البعث عن استلام الحكم في ثلاثة أو أربعة أقطار عربية، ويقال في البعث اليوم ما قاله المتنبي:
أنام ملئ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق من جراها ويختصم
هل أخطأ البعث، نعم بالتأكيد أخطأ كثيراً، ولكنه عمل وأنجز أكثر … ولكن البعث لم يلمس المحرمات. هل كان بين صفوف الحزب خونة ..؟ الاعتراف بوجود خونة (الخائن عند البعث من يتعاون مع العدو الخارجي) لا يعيب البعث، فالحزب كان وما يزال اليوم مستهدفاً من أعتى القوى العالمية، ولا يضير الاعتراف أن الحزب أخترق هنا وهناك، فكل الأحزاب الثورية معرضة للخرق الاستخباري، ولكن عدد الخونة في تاريخ الحزب لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ..! وقد حدث وأن غادر البعثي (لهذا السبب أو ذاك) الحزب، وربما عوقب بالتجميد أو الفصل، غالباً ما يعود البعثي للبيت، فالحزب بيته، ولا بيت له سواه، وهناك من البعثيين من غادر وأسس كياناً سياسياً، حاول أن يجعله نسخة من الحزب (وفق هواه، لا وفق الضرورة التاريخية)، ولكنه ظل يحلق في فضاء البعث لا يستطيع الابتعاد عنه، وظل أسمه (بصرف النظر عن مفردات غير مهمة) وتاريخه ملتحم بالحزب حتى آخر يوم من حياته.
هل هناك تطورات فكرية في الحزب ..؟ بالطبع .. فالبعث حزب سياسي وليس رسالة سماوية، ولكن الوحدة والحرية والاشتراكية هي مرتكزات مترابطة جدلياً وأساسية، فالخروج من أي من هذه المبادئ، خروج من البعث، فالوحدة إيمان نهائي بوحدة الأمة، وكذلك الحرية بمفاهيمها العريضة، والاشتراكية بمعناها العريض، إنهاء ظلم واضطهاد الإنسان للإنسان، ورفض للاستغلال الطبقي، والاحتكار، والتوزيع العادل للخيرات المادية بين البشر. هذا هو المبدأ الأساسي. والاشتراكية مذهب أنساني / اقتصادي في جله، والاقتصاد موقف قابل للتغيير والتطور، لذلك فالبعث يحقق الاشتراكية بطريقة خلاقة، يلغي فيها عنصر الاحتكار الاستبداد والاضطهاد، واستغلال الإنسان للإنسان، ويضع العمال والفلاحين وعموم الكادحين باعتبارهم المنتجين، في مرتبة متقدمة في المجتمع.
وبتقديري أن البعث حيث حكم، قدم منجزات اشتراكية وطرح خطوطاً نظرية تقدمية، وربما هناك من يزايد على البعث نظرياً …. ولا مشكلة في ذلك، فالبعث لا يتنافس على الورق مع جهة أو طرف. سأهمس في أذن البعض: لم يشهد العراق في تاريخه تجربة عملا جبهوياً، دون أن يكون البعث طرفاً فاعلا فيها ..!
وشخصية البعثي شخصية صادقة صريحة، لا تناور على المبادئ، إخلاصه للحزب هو من قوة وعظمة المبادئ التي يؤمن بها البعثي. ومن هنا وهذه متلازمة كما الشجاع يكون كريماً بالحتم، فإن البعثي الصادق الصريح المخلص، شجاع بالحتم، ووفي بالحتم، لأنه ينهض بمسؤوليات جسيمة لا يقبلها إلا الشجعان، لذلك لن تجد بعثياً حقيقياً فاسداً ويقبل بالارتشاء.
البعث يقترب من عامه الثمانين …

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب