ثقافة وفنون

فيلم «لا أرض أخرى»… الوثائقي بوصفه حدثاً مستمراً

فيلم «لا أرض أخرى»… الوثائقي بوصفه حدثاً مستمراً

سليم البيك

لا قيمة أعلى لفيلم وثائقي من استمراريةٍ للحالة الموثَّقة إثر خروج الفيلم، ومن راهنيةٍ دائمة لموضوع الفيلم، ومستجدّة لسنوات لاحقة لحدث الفيلم. هذا أبرز ما يميز الوثائقي «لا أرض أخرى» (No Other Land)، ولعل ذلك آتٍ من الخلفية الناشطيّة لصنّاع الفيلم: باسل عدرا ويوفال أبرهام، وحمدان بلال وراشيل تسور.

أمام الكاميرا نرى باسل ويوفال، صديقين يمضيان الوقت في تتبع عمليات الهدم والاعتداء والتهجير، التي يقوم بها كل من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في قرية مسافر يطا، قرب مدينة الخليل. العمليات الاستعمارية هذه سابقة للفيلم ولاحقة له. هذه الاستمرارية واضحة إما من خلال لقطات أرشيفية (كاميرا منزلية تحديداً) أو أخرى حدثيّة (كاميرا موبايل تحديداً)، الأولى تسبق الفيلم والأخيرة تلحقه، ما يعطي معنى محلياً لمسافر يطا، يكون مثالاً عينيّاً وبيّناً على «استمرارية النكبة».
هذه الاستمرارية استطاعت أن تكون من خلال «لا أرض أخرى»، تقنيةً سينمائية. فالسياق الأرشيفي الذي تخلّلَ مَشاهد الفيلم، أوصلنا، من بعد متن الفيلم وموضوعه وهو العمليات الاستعمارية خلال التصوير، المزامنة له، أوصلنا إلى نهاية الفيلم من الناحية السردية، لتَظهر إشارة بأن اللقطات التالية صوّرها باسل ما بعد الانتهاء من العمل على الفيلم، وهي صور أمكن لها أن تكون سابقة لتصوير الفيلم أو مزامنة، أي أمكن لها أن تكون أرشيفية أو حدثيّة راهنة، لتمدّ الفيلم، غير المنتهي، إلى ما بعد لقطته الأخيرة، إلى استمرارية تجعل من المأساة الفلسطينية في سياقها هنا، مسافر يطا، مستمرةً منذ ما قبل الفيلم وزمانه (أرشيفاً) إلى ما بعده (حدثاً). فلا نقطة استهلال ولا ختام للفيلم. هو حالة مستمرة، نبدأ بالمشاهدة كأننا في منتصفه، ننتهي من المشاهدة كأننا ما زلنا في منتصف آخر له. يمكن أن ننتهي من الفيلم فنفتح قناة أخبار لنجد «عاجلاً» من مسافر يطا (أو غيرها بطبيعة الحال) يؤكد تلك الاستمرارية للفيلم.


هذا كله في حلقة مفرغة تتكرّر فيها المَشاهد ذاتها، كأنّ الزمن لا يتقدّم، تماماً كما قال واحد من أهالي القرية في الفيلم، إن الجيش يهدم بيته وهو يبنيه من جديد، هم يهدمون وهو يبني، إنه يمضي حياته كلّها في بناء بيوت بعد تهدّم أخرى.
يتساءل باسل ويوفال في الفيلم حول كيفية إيصال ما يحدث في قرية الأول، إلى العالم، وإيجاد طريقة غير رفع الفيديوهات على وسائل التواصل، ومراقبة عدد المشاهدات. كأن الفيلم كله، أخيراً، كان لهذه الغاية، بأن اشهدوا ما تفعله إسرائيل، وبالتصوير في واقعية قصوى، كأنها مادة خام، من دون التفذلك فنياً وإظهار مهارات اللعب في برامج غرافيكية، تقتل عفوية الوثائقي ومصداقيته. هي عقلية الناشط الحقوقي والمهموم بإيصال القصة، مضمونها من دون شكليات فنّية، لا باللعب فيها شكلاً ولا التلاعب بها موضوعاً، هي العفوية المطلوبة في الوثائقيات. ولعل هذه العفوية وما تحمله من مصداقية تجاه موضوع الفيلم وناسه ومكانه، والانتماء إليها كلها، منحت الفيلم مساحات استحقها، منحته قبل أيام جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي، في لحظة تاريخية، سياسية وسينمائية، للفلسطينيين.
في الفيلم كلام وصور لا يخبو صدقها، فاستحق مكانةً استثنائية، منذ جائزة الفيلم الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، رغم موضوعه ومعالجته، حتى جائزة الأوسكار أخيراً، مروراً بترشيحات وجوائز لم يسبقه إليها، على الأرجح، وثائقي آخر لفلسطيني أو بموضوع فلسطيني، ومشاركاتٍ مهرجاناتية شاسعة، آخرها هذه الأيام في مهرجان السينما الفلسطينية في مدينة تولوز جنوبي فرنسا.
تحوّلَ الخبر الفلسطيني إلى عالميٍّ أوّلَ أو باهتماماتٍ أولى، بشكل غير مسبوق، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، مرفقاً بوحشية الإسرائيليين، دولةً وجيشاً ومستوطنين، في قطاع غزة وكذلك الضفة الغربية وفيها مسافر يطا، إضافة إلى المهزلة الألمانية التي اتهمت المهرجان والفيلم شاملاً مخرجَه الإسرائيلي، بمعاداة السامية، وتبرير وزيرة الثقافية آنذاك بتصفيقها إثر الإعلان عن الجائزة بأنه، التصفيق، كان للإسرائيلي مستثنياً المخرجَ الفلسطيني، وغيرها مما كان عاملاً موضوعياً لا أقول ساعد الفيلم على الانتشار، بل كشفَ الحاجة لدى العالم والمشاهدين، لتعريض أنفسهم مباشرة إلى فيلم نَقل كأنه بثٌّ حي، عيّنةً من المآسي الفلسطينية التي أظهرت، أكثر، لمن لم يرَ بعينيه بعد، أن الحرب الإبادية في قطاع غزة اليوم هي حالة ضمن غيرها، من سياسة الإبادة، تهجيراً وقتلاً وتدميراً، سابقة لزمان تلك الحرب وخارجة عن مكانها، أنها متعلّقة بالوطن الفلسطيني بمعزل عن اسم المدينة والقرية والمخيم، وبالدولة الإسرائيلية بمعزل عن أي اسم فيها. وأنها، دائماً، مستمرة. هو حال النكبة، مكاناً وزماناً.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب