مقالات

الفصائل العسكرية في جنوب سورية: التكوينات، الولاءات، والتحديات الأمنية

الفصائل العسكرية في جنوب سورية: التكوينات، الولاءات، والتحديات الأمنية

مهيب الرفاعي

ازدهر النشاط العسكري ونشاط تشكيل الفصائل العسكرية في الجنوب لأسباب مرتبطة بالقرب من مصادر التمويل والدعم اللوجستي العابر للحدود عبر الحدود مع الأردن والجولان السوري المحتل…

في المشهد المعقد لجنوب سورية، لعبت الجماعات الإسلامية أدوارًا محورية في عمل المعارضة العسكرية ضد نظام الأسد، وأثرت بشكل كبير على الديناميكيات السياسية والعسكرية في المنطقة، وكذلك على علاقاتها الإقليمية؛ مع الدول المجاورة والدول الضامنة للمرحلة المقبلة في سورية ما بعد الأسد. وعلى اختلاف مشاربها وتنوع مصادر تمويلها، كانت العقيدة القتالية لهذه الفصائل تركز على القتال ضد ثلاث مجموعات أساسية: الأولى تمثل قوات الجيش الرسمية، والتي كانت موزعة على عدة فرق وألوية وأهمها الفرقة الأولى في الكسوة بريف دمشق، والفرقة الثالثة في القطيفة بريف دمشق الشمالي والفرقة الرابعة في المعضمية وجبال الصبورة في ريف دمشق الغربي، والفرقة السابعة مشاة في بلدة زاكية في ريف دمشق الجنوبي. شكلت هذه الفرق جميعها نقاط انطلاق العمليات العسكرية في الجنوب السوري، ويتبع لها بطبيعة الحال ألوية مدرعات ومشاة وسرايا دفاع جوي؛ وأهمها اللواء 121 واللواء 90 واللواء 58؛ وتعرضت مقراتها في عدة مرات إلى قصف مضاد من المعارضة السورية حينها. والثانية هي المليشيات الإيرانية التي تجمعت في الجزء الجنوبي من سورية لأسباب لوجستية ولقربها على خط الإمداد من العراق ولقربها من الحدود مع إسرائيل. تمركزت هذه المليشيات في 40 نقطة في الجنوب السوري، بدءًا من ريف درعا الغربي وصولًا إلى قرى الحدود الأردنية في مزيريب واليادودة، وضمت هذه النقاط عناصر من حزب الله والحرس الثوري الإيراني وألوية زينبيون وفاطميون ولواء صعدة اليمني العامل في أجزاء من ريف درعا الشمالي (منكت الحطب وموتبين وغباغب) وصولًا إلى ريف دمشق الجنوبي الشرقي. أما المجموعة الثالثة هي مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهو قتال دعمته الأردن ومجموعة دول من خلال غرفة عمليات “موك” Military Operations Command ، التي قدمت الدعم اللوجستي والتمويل والتدريب في معسكرات داخل الأردن، وترتيب قادة الفصائل المسلحة لقتال داعش وذراعه المتمثل بلواء “خالد بن الوليد” العامل في منطقة حوض اليرموك. كان قتال داعش نقطة فارقة في تاريخ العلاقات بين الفصائل المسلحة جنوب سورية، حيث شهدت انشقاقات كثيرة وتغييرات في التحالفات واستقطاب قادة عرب وأجانب لقيادة العمليات في المنطقة والتخلي عن القادة التقليديين هناك.

انتشار الفصائل والعمل العسكري

تشكلت أغلب الفصائل في جنوب سورية بدافع أيديولوجي قائم على مناصرة أهل السنة والجماعة، والذين تعرضوا لاضطهاد من قبل النظام السوري والميليشيات الشيعية في عموم المنطقة. بالفعل كانت المليشيات الشيعية تتحرك بسهولة في المناطق الجنوبية، وتنفذ عمليات مشتركة بالتعاون مع الفرقة الرابعة والفرقة السابعة. ومع ذلك، تبدلت ولاءات هذه المجموعات أكثر من مرة وتصارعت فيما بينها، وانتقلت إلى مرحلة “اقتتال داخلي” وانقلبت بعض الفصائل على بعضها الآخر سواء في المدة بين عامي 2013-2014 (أي بعد افتتاح غرفة موك)، أو قتال داعش عام ،2018 أو في مرحلة الانفصال والانتقال إلى برنامج المصالحة الوطنية عام 2018-2019. يعود هذا التبدل إلى تغيير مصادر التمويل، والمناخ العام المتجه نحو الاعتدال وليس التطرف، وذلك للحفاظ على البيئة المجتمعية الحاضنة للفصائل، والتنافس مع الفصائل المسلحة الأخرى والتوجه نحو تحالفات تخدم هذا التنافس؛ بما يحافظ على القدرة التشغيلية لهذه الفصائل واستدامة الحاجة إليها. محليًا، يُنظر إلى هذه الفصائل على أنها شعبية غير سياسية تستخدم كأدوات بيد مجموعة ممولين لتحقيق أهداف تكتيكية صغيرة ومتوسطة التأثير، وتشمل السيطرة على معبر، أو قطع طريق دولي، أو قتال ميليشيات وفصائل أخرى لا ترغب بالانضواء تحت المجموعات الكبرى ضمن تحالفات محلية، أو قطع الطريق أمام انتشار فصائل ومليشيات تقاتل إلى جانب النظام. ويمكن ان نستند في هذا التحليل إلى قرار غرفة موك في الأردن بقطع التمويل عن 16 فصيلاً في درعا والقنيطرة بغرض الضغط عليها للانضمام تحت لواء شباب السنة للتمهيد لإعلان انتقال هذه الجماعة إلى مسار المصالحة الوطنية بالتنسيق مع قاعدة حميميم الروسية في سورية. شكل قطع التمويل قلقًا وجوديًا لهذه الفصائل، لا سيما وأنها ملتزمة بدفع رواتب العناصر بقيمة 250 دولاراً شهريًا لما مجموعه 5000 عنصر.

الجنوب عمومًا يحتمل تعددية الفصائل، بحكم انفتاحه على الحدود وسهولة اختراقه والوصول إليه من عدة دول، لكن ما لا يقبله الجنوب السوري هو المركزية والاستئثار في القرار العسكري وقرار شن المعارك وإنهائها. بدأ تجمع ألوية الفرقان عمله في القنيطرة عام 2012 عبر مهاجمة مجموعة حواجز تابعة لجيش نظام الأسد والاستيلاء على أسلحتها والذخائر في مستودعاتها، ومن ثم توسع عمله، وأصبح قوة ضاربة في القنيطرة وريف درعا الغربي وريف دمشق الجنوبي الغربي ، وخاض في المدة بين عامي 2013 و 2016 عدة معارك كان أهمها “هي لله” بالاشتراك مع 12 فصيلاً آخرًا أبرزهم جبهة ثوار سورية، وأنصار الإسلام ولواء السبطين؛ للسيطرة على مثلث الموت جنوب سورية؛ ومعركة “وبشر الصابرين” عام 2015 للسيطرة على مناطق التلول الحمر وبلدة حضر ذات الأغلبية الدرزية وبلدات جباتا الخشب و طرنجة المطلتين عليها؛ ومعركة “والفجر وليال عشر” في القنيطرة وريف درعا الغربي؛ وسيطر نتيجة هذه المعارك على عدة تلال استراتيجية أبرزها تل الحارة وتل المال وصولاً إلى دير العدس في ريف درعا الشمالي الغربي. إلا أن رغبة اللواء التوسعية واجتماعات قادته في الأردن مع غرفة موك وتبنيهم مبادئ الغرفة، خلق حالة من الصراع مع الفصائل الأخرى، ولا سيما “لواء السبطين” الذي انتقل إلى التحالف مع لواء شباب السنة وكتيبة خالد بن الوليد؛ الذين تم تصنيفهما لاحقاً على أنهما من تنظيم “داعش” وقاتلهما لواء الفرقان لاحقًا.

تأسس لواء نسور الريف الغربي في 22 أغسطس 2013 بمنطقة الكسوة في ريف دمشق، وتمركزت وحداته في كناكر في ريف دمشق الغربي وانتشرت عملياته في القنيطرة وريف درعا الشمالي الغربي؛ من أبرزها معركة فجر التوحيد، ومعركة وأد الفتنة، ومعركة “ادخلوا عليهم الباب” والتي تحصل فيها على مجموعة غنائم عززت من قدرته العسكرية وحضوره بين الفصائل الأخرى في المنطقة. ضم اللواء إلى صفوفه كتيبة عباد الرحمن، وكتيبة درع الإسلام، وكتيبة المهام الخاصة، وكتيبة الأحرار. ومنذ تأسيسه اندمج مع فرقة قوات النخبة، ثم لاحقًا مع فرقة فجر التوحيد بتاريخ 12 مارس 2014. كما ذُكر اسم اللواء في أثناء تأسيس جبهة ثوار جنوب سورية في 1 مايو 2014، إلا أنه نفى تبعيته لهذه الجبهة التي هاجمها لاحقًا، وكانت سببًا في السعي للقضاء على هذا الفصيل وتقليص نفوذه، لا سيما بعد زجه في خلافات مع ألوية الفرقان وتبادل الاتهامات حول التمويل والنفوذ والاستئثار بنتائج المعارك والغنائم وعدم الدعوة للتشكيلات الكبرى. انشق عن “الريف الغربي” مجموعة عناصر وانضموا إلى ألوية الفرقان على اعتبار أنه الأكبر عددًا وتمويلاً، وأنهم يعودون إلى نفس المنطقة الجغرافية. وعلى الرغم من هذه المناوشات والتفاهمات بحكم العمل العسكري، إلا أن الريف الغربي أصدر في 5 يونيو 2014، أكد اللواء أنه لم ينضم إلى ألوية الفرقان، مشددًا على استمراره في العمل مع فرقة فجر التوحيد، وذلك بعد انضمام مجموعة سابقة من صفوفه إلى ألوية الفرقان.

التكتيك العسكري والخطط الاستراتيجية

على عكس المنطقة المتوسطة ومناطق البادية والساحل السوري، ازدهر النشاط العسكري ونشاط تشكيل الفصائل العسكرية في الجنوب لأسباب مرتبطة بالقرب من مصادر التمويل والدعم اللوجستي العابر للحدود عبر الحدود مع الأردن والجولان السوري المحتل وتقديم المساعدات الطبية والمالية وإدخال الجرحى إلى مستشفيات زيف في صفد ورمبام في حيفا ومستشفيات ميدانية على الحدود مع القنيطرة؛ والاستفادة من الغطاء الجغرافي المتمثل بوجود تلال وهضاب وأودية تسهل عليه التمركز والاحتماء وتنفيذ عمليات ثم الانسحاب، والاستفادة من الانتشار الأفقي للمدن وتسهيل التنقل في حال حدوث حرب مدن (Urban War). يفرض اختلاف الإيديولوجيا والأهداف القتالية في جنوب سورية تنوعًا في التكتيكات التي كانت تعتمدها في القتال وكانت تجنح دائماً إلى اللامركزية في القتال والإدارة، إلا أنها تقع في فخ التسلط من الفصائل الأكبر والتجمعات العسكرية المدعومة من غرف خارجية. أبرز التكتيكات كانت حرب العصابات والتكتيكات المباغتة: استفادت الجماعات المعارضة من تضاريس درعا والقنيطرة الوعرة لتنفيذ كمائن وغارات على قوافل جيش النظام، ولا سيما المتحركة بين ريف دمشق والقنيطرة على أوتوستراد السلام، بالإضافة إلى اعتماد الفصائل على هجمات مفاجئة بأسلوب “ضرب ثم اختفاء” حيث تنفذ وحدات صغيرة ضربات سريعة ضد قوافل أو نقاط استراتيجية، ثم تنسحب بسرعة لتجنب الردود المضادة. أما في المدن، فقد استخدمت القوات تحصين المباني والأحياء الحيوية، واستغلت تعقيد البنية العمرانية لخلق مواقع دفاعية صعبة الاختراق. إلى جانب ذلك، لجأت المعارضة إلى استخدام أسلحة غير تقليدية مثل الأجهزة التفجيرية والمسيرات لتعطيل تحركات قوات الحكومة وخطوط إمدادها. كما تمكنت بعض الفصائل من الحصول على صواريخ متطورة مضادة للدبابات وأنظمة مضادة للطائرات المحمولة لاستهداف المركبات والدبابات الحكومية. حصل تجمع ألوية الفرقان على صواريخ بالإضافة إلى حصول فصائل محددة على وصواريخ نوعية أميركية من غرفة موك من طراز “تاو Tow”، وهي صواريخ تُطلق بواسطة قاذف أنبوبي يحمل على الكتف أو يثبت على عربات ، ويستخدم خاصية التتبع البصري، ويتم توجيهه سلكياً، قبل أن يتطور فيما بعد ليصبح التوجيه لاسلكياً وهو ما استخدمته ألوية الفرقان في معركة والفجر وليال عشر، حققت فيها إصابات نوعية لعربات جيش النظام التابعة للوار 90 واللواء 121.

الهياكل التنظيمية والإدارية

على الصعيد التنظيمي، اعتمدت الفصائل على هيكل ظاهره قيادة لامركزية تسمح لكل وحدة أو فصيل باتخاذ قراراتها بسرعة بناءً على الظروف المحلية، واستفادت هذه الفصائل بذلك من دعم السكان المحليين من خلال المعلومات والمخابرات والتعاون في المعارك. تشكل المجلس العسكري الأعلى عام 2012، وحرص على التنسيق بين الفصائل العاملة في البلاد، إلا أن مسائل التخوين والالتفاف حول قرارات المجلس ورغبة الفصائل بالاستئثار بالغنائم ومناطق السيطرة، أضعفت عمل المجلس، وأربكته إلى أن تم حله عام 2014. ورغم كل المحاولات الرامية إلى تشكيل مجالس عسكرية محلية، مثل مجلس قيادة “الجبهة الجنوبية” في المدة بين 2013 و2015، والتي ضمت 45 فصيلًا في الجنوب _سابقًا كانت 49 قبل أن تنشق عنها فصائل انضمت إلى داعش؛ إلا أنها باءت بالفشل نتيجة عدم الالتزام بالمخطط العسكري للاقتحامات والمعارك. كانت “جبهة الجنوب” أملا كبيرًا لجمع شمال الفصائل، إلا أن دخول جبهة النصرة إلى الواجهة، وخول عناصر من جيش الإسلام من الغوطة الشرقية باتجاه الجنوب السوري، وتسهيل تغلغل داعش من قبل النظام السوري، حال دون إتمام عملها المنظم إلى حد بعيد والذي يعتمد مبدأ عسكرية واضحة بالاستفادة من خبرات الضباط المنشقين وتوظيف دراستهم الأكاديمية في اختراق صفوف النظام.

واجهت ألوية الفرقان ومجموعة فصائل أخرى في الجنوب السوري بداية نشأتها تحدياً متزايداً في الحفاظ على نفوذها أمام تمدد قوى أخرى تسعى إلى فرض سيطرتها على المنطقة، لا سيما جيش الإسلام وجيش الفتح وغيرهم، وهم مصنفون على أنهم فصائل متطرفة ، كان لواء الفرقان قد عمل معهم لفترة في بداياته لأسباب لوجستية وأمنية. وكان الاحتمال أمام الفصائل في الجنوب انه إذا لم تتمكن من تعزيز موقعها عسكرياً وسياسياً، فقد تجد نفسها في موقف ضعيف أمام الجماعات الأكثر تنظيماً وتمويلاً، مما قد يؤثر على دورها في أي تسوية مستقبلية لسورية؛ وهذا ما حصل بالفعل بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024. حاولت هذه الفصائل تجاوز العقبات من خلال إعادة هيكلة صفوفها، وتعزيز التنسيق فيما بينها، إلى جانب بناء جناح سياسي يمثل رؤيتها لمستقبل الجنوب السوري. كما تسعى إلى توسيع تواصلها مع المجالس المحلية والمجتمع المدني لضمان امتدادها الشعبي، مما قد يمكنها من استيعاب بعض العناصر التي انضمت إلى الجماعات الأخرى بدوافع غير أيديولوجية، مثل الحاجة الاقتصادية أو البحث عن الأمان في ظل فوضى الفصائل والولاءات.

تتشابه الفصائل في الجنوب السوري بالهيكل التنظيمي والإداري لتتكون من قائد عام ونائبين: عسكري ومفاوض؛ وهيئة أركان تضم أقدم العناصر المنضمين إلى الفصيل أو التجمع، ويكون القائد العام رئيساً لها، وهي التي تشرف على التخطيط العسكري ودراسة جدوى المعارك والهجمات ومسائل التدريب العسكري؛ ومكتب تسليح مسؤول عن إدارة وتنظيم عمليات التزويد بالسلاح وتنسيقها بحسب المعارك وتأمين طرق نقلها، بالإضافة إلى تأمين التواصل مع الداعمين بشأن الإمدادات، وصيانة المعدات الحربية؛ وسرية النقل المسؤولة عن نقل العتاد والمقاتلين وتوصيل السلاح إلى العناصر؛ وسرية الهندسة وتفكيك الألغام؛ والمكتب الإعلامي المسؤول عن تغطية المعارك وأخبارها، وإدارة الخطاب والبيانات الرسمية، وتنسيق الخطاب الإعلامي مع الحلفاء المحليين والإقليميين وغدارة منصات التواصل الاجتماعي. اللافت في الهيكل الإداري هو وجود ما يسمى “سرية الحدود” وهي حصرية ببعض الفصائل التي كان لها تواصل مع إسرائيل أو الأردن؛ وخاصة في ريف القنيطرة على الحدود مع الجولان المحتل. وكانت مهمتها الأساسية تتمثل في حراسة الحدود ومنع التسلل، بالإضافة إلى الاشتباك مع قوات النظام السوري وحلفائه، فضلًا عن التنسيق مع فصائل أخرى في الجنوب، ومنع وصول المليشيات الشيعية إلى المنطقة. تُختزل علاقتها مع إسرائيل، لتشمل دعمًا لوجستيًا وطبيًا، حيث تم علاج الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية، فضلاً عن تقارير عن اتصالات استخباراتية حول تحركات إيران وحزب الله. رغم هذا، لم تقدم إسرائيل دعمًا عسكريًا كبيرًا، بل ركزت على تنفيذ ضربات جوية ضد أهداف إيرانية في المنطقة، إلا أن المثير للاهتمام والبحث هو أن تل أبيب كانت تقف أمام هذه الفصائل في حال أرادوا تنفيذ عمليات عسكرية ضد دروز المنطقة المجاورة للحدود، لا سيما في بلدات حضر وحرفا.

عام 2018 وما بعد، من الركود إلى الحراك

جاء برنامج المصالحة الوطنية الذي طرحته روسيا بدءًا من عام 2018 وارتأت الفصائل تسليم أسلحتها و “العودة لحضن الوطن” وأعادت موسكو تدوير هذه الفصائل لصالحها مع تجهيز قوات الفيلق الخامس. يمكن دراسة برنامج المصالحة الوطنية من زاويتين: الأولى أنه شكل طوق نجاة للعناصر الصغار الذين لا يصلهم تمويل كافٍ لإدارة شؤونهم المعيشية لا سيما وأن معظمهم مُعيلون لأهلهم المطلوبين أمنيا للنظام وليس لديهم أشغال، وبالتالي خيار المصالحة مفيد لهم كونهم يستفيدون من مهلة حرية الحركة في ترتيب أوراقهم والبحث عن خيارات نجاة أفضل بعد لجوء معظم القادة الكبار إلى الأردن ولبنان وتركيا؛ والزاوية الثانية أن برنامج المصالحة كان التفافًا على النهج العسكري لفصائل المعارضة المسلحة المعتدلة في الجنوب والمطلوب هو تقويض سلاحهم ودفعهم إلى المغادرة نحو الشمال السوري حيث توجد فصائل أكثر تطرفًا، وإخلاء الجنوب لصالح قوات الفيلق الخامس واللواء الثامن .

في المدة بين 2018 و2024، دخلت فصائل الجنوب في حالة ركود عسكري، وتحولت إلى لجان محلية همها التناحر على النفوذ واستلام الحدود وتأمين قوافل التهريب والبحث عن الآثار والدفائن؛ وأفرغت من مضمونها الثوري والعسكري لصالح مخابرات نظام الأسد والشرطة العسكرية الروسية. ولم يذكر أن هناك عملية عسكرية ضد النظام السوري أو أي من القطع العسكرية التابعة له في الجنوب؛ وتعدى فوق ذلك الأمر ليصل إلى هجمات بين الأفراد والعائلات التي تحتكم على السلاح والنفوذ، لتخليص الثأر وبسط النفوذ. رغم أن داعش عادت إلى الواجهة حينها، إلا أن العمل ضدها لم يستمر طويلًا. انضمت هذه الفصائل إلى اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس الذي طورته روسيا وأشرفت على تدريبه وتمويله وانتشر في القنيطرة ودرعا وريف دمشق الغربي، وكانت مهمته مراقبة هدوء الوضع عمومًا أو احتمال الخروج إلى القتال في جبهة شمال سورية حينها.

بقيت الحال كذلك حتى تاريخ 27 نوفمبر 2024، وموعد بدء عملية “ردع العدوان” التي قادتها إدارة العمليات العسكرية بدءًا من شمال سورية، دون أي تحرك فعلي من قبل فصائل الجنوب بزعم أنه لم يتم إخبارهم بالعملية وأهدافها ولم يتم التنسيق معهم في هذه المعركة. وتأخرت فصائل الجنوب في التحرك مع القوات القادمة من الشمال، إلا أنها استغلت فرصة انسحاب قوات الأسد من ثكناتها واعتمدت الفصائل على الاتصال مع الأهالي في ذلك، وتقدمت باتجاه دمشق دون أي معارك تذكر. اللافت في الانتباه أن الغرفة أصدرت بيانًا متأخراً بتاريخ 6 ديسمبر بعد أن رجحت الكفة لصالح إدارة العمليات العسكرية، إلا أن البيان جاء مشدداً على ضمان أمن الحدود وحفظ حق الجوار ومنع التهريب وهي ذات المبادئ التي ضمنت بقاء فصائل الجنوب طوال هذه المدة. هذه الفصائل هي ذاتها التي كانت تعمل ضمن اللواء الثامن التابع لروسيا، بالتالي لم تكن جادّة بما يكفي للانخراط في عملية ردع العدوان. وبعد وصولهم إلى القنيطرة ومشارف دمشق، شكلوا مجددًا غرفة فتح دمشق، ليكون تحرير دمشق مرتبطًا بهذه الغرفة، وكانوا قد وصلوا

بعد سقوط النظام، وطلب قيادة الإدارة العسكرية الاجتماع مع جميع الفصائل السورية، رفضت هذه القوات الاجتماع، ورفضت حل أنفسها والانضمام إلى جيش وزارة الدفاع السوري الجديدة. بدأت بالعمل على المحور الجنوبي للتواصل بين الفصائل وحشد الولاءات ، لا سيما بعد عودة مجموعة قادة من الأردن بعد غياب ما لا يقل عن 8 سنوات ع العمل العسكري في سورية، وبدأوا بتشكيل مجلس عسكري مصغر للجنوب السوري يضم قوات من القنيطرة ودرعا والسويداء وريف دمشق الغربي. مستغلين بذلك تمرد الدروز ورفضهم دخول قوات الإدارة العسكرية إلى السويداء لتشكيل قوة الجنوب.

يسهل هذا التمرد وعدم الاندماج مع الجيش السوري طرح إسرائيل لمشروع إنشاء منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، أو استقطاب مجموعة فصائل على غرار جيش لحد في لبنان يكون مواليًا لإسرائيل وتحت حمايتها وبدعمها، ويمكنها بذلك تسيير وضع ” دولة ضمن دولة”. نزع السلاح في المنطقة الواقعة جنوب دمشق سيعيق سلطة الحكومة السورية، مما قد يؤدي إلى إضعاف الوجود الرسمي للدولة. وهذا قد يتيح تشكيل ميليشيات محلية مدعومة من إسرائيل تسعى إلى فرض واقع مغاير لما تحتمله سورية م بعد الأسد. كما تهدف استراتيجية إسرائيل إلى تشجيع هذه الفصائل على عدم الاندماج مع الدولة السورية الجديدة، ما يؤدي إلى تفتيت البلاد، حتى وإن كان ذلك بحكم الأمر الواقع. تاريخياً، فسّرت إسرائيل الدعوات إلى السلام على أنها علامة ضعف وفرصة لمواصلة تحقيق طموحاتها التوسعية بشكل عدواني. الإشارة الصريحة في خطاب نتنياهو إلى الطائفة الدرزية تعكس عقيدة إسرائيل بشأن “تحالف الأقليات”، التي تسعى إلى بناء تحالفات مع المجموعات الأولوية في المنطقة ضد الأغلبية السنية. وتعمل هذه السياسة القائمة على مبدأ “فرّق تسد” على تأجيج الكراهية والشكوك والطائفية، مستغلةً الأقليات كأداة لاستفزاز ردود فعل ربما تكون عنيفة من الأغلبية، وبالتالي تشتيت الرأي العام عن وضع خطة لمستقبل سورية الجديدة.

يبقى الفعل الأساسي هو التواصل مع الداعمين للضغط على هذه الفصائل وتغيير أيديولوجيتها تجاه سورية الجديدة، التي يرون فيها “كعكة” يريدون أن يستأثروا بحصة منها، وهي الجنوب السوري كونهم يتحكمون بالجغرافيا السياسية والعسكرية والطبيعية؛ وبالتالي فهم يشكلون تكتلات واضحة اليوم بعد تشكيل المجلس العسكري في السويداء، والذي يتواصل مع قوات أحمد العودة لتنسيق الدعم. ولا يمكن أن نتجاهل أن أي تصعيد من هذه الفصائل، وحتى انضمامهم لتحالفات خارجية جديدة أو معادية لدور الإدارة الجديدة في البلاد، لن يكون محمودًا في ظل التجاذبات الإقليمية الأكبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب