
سرديات الحرب

سعيد يقطين
عاشت البشرية حربا ضد فيروس كورونا، وبعده برزت ثلاث حروب ما تزال متواصلة إلى الآن، في أوكرانيا والسودان وفلسطين. أما عن الحروب غير المباشرة، داخليا وخارجيا، بين الأمم والشعوب، فهي لا تعد ولا تحصى. فهل قدر الإنسان ألا يعيش إلا محاربا يحمل سيفه قديما، أو يمتلك مسيرات وصواريخ ورؤوسا نووية، ليكون له حظ في ممارسة الحياة؟ ماذا فعلت المدنية الغربية، والتنوير، والحرية الديمقراطية بالإنسان؟ هل حققت له الرفاه والسعادة؟ هل تجاوزت ما أسمي الاستبداد الشرقي؟ أم أنها فقط تستعيد تاريخ الحروب الهمجية، وعلى رأسها الحروب الصليبية، وتسعى لفرض وجودها على البشرية باسم الأنوار ضد الظلام، وهي لا تنشر سوى الموت؟
دفعني طوفان الأقصى ومتابعتي لتداعياته، التي تقدم صورة جديدة عن الإنسان المعاصر، أن رأيت الحرب موضوعا يتطلب منا بحثا جديا حول علاقته بالسلام. وكان هذا السؤال مؤرقا: هل لا يمكن لأحدهما أن يكون دون الآخر؟ ومتى طال أمد غياب أحدهما، هل من الضروري أن يتقدم بعضهما ليملأ الجو حربا أو سلاما. تبين لي أن هذه العلاقة التبادلية، بين الحرب والسلام، تعم كل جوانب الحياة، فلا شيء يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. وفي ذلك تجسيد واضح للزمن المتبدل أبداً، و»دوام الحال من المحال».
وما يجعل من الحرب موضوعا للسرديات يكمن في كون العلوم الإنسانية والاجتماعية تتناوله من زاوية التاريخ، أو الاقتصاد، أو أثره في الحياة بصفة عامة. لكن الدراسات الأدبية تعاملت مع الحرب من خلال ما تقدمه النصوص الإبداعية والفنية، ولم يتشكل، حسب علمي، اختصاص يعنى بالحرب، ويتعامل معها من مختلف الجوانب التي تتصل بها، في الزمان أو المكان، وسواء من خلال النصوص الأدبية، أو الأخبار التي تدور حولها إبان وقوعها، أو ما يتولد منها من أفكار، ومعتقدات جديدة، وما شابه ذلك. قد نجد دراسات تهتم بالحرب، راصدة بعض جوانبها، لكنها دراسات جزئية لا تقدم لنا صورة شاملة عن علاقة «الحربي» بـ»السردي»، تمثيلا لعلاقة الإنسان بالإنسان، ليس فقط من خلال ممارسته للحرب، ولكن أيضا عبر تعبيراته المتعددة عنها.
الحرب حدث يشترك في فعله طرفان يعمل كل منهما على تحريك ما يتولد عنه من أحداث، لتكون نتائجها لصالحه، مستعينا في ذلك بعدة مقومات تؤهله، أو لا، لتحقيق المراد. لذلك فهذا الحدث الحربي حدث مشترك يقوم على أساس فعل واحد تقوم به شخصيتان متناقضتان، وكل منهما يريد ان يوجهه الوجهة التي يريد. ومن هنا يمكننا الحديث عن «تنازع الاشتراك» في فرض سلطة ما من طرف على آخر عبر سلب الحياة (القتل) أو الحرية (الاستعباد). ولما كان الطرفان معا تمثيلا لمجموعة اجتماعية لها مصالحها يسعى كل طرف إلى إنجاز وقائع الحرب لفائدته، وضد خصمه. لا يمكن لحدث الحرب الذي يفرض نفسه على كل الاختصاصات إلا أن يثير المشتغل بالسرد أيضا، ليس فقط لأن كل مكونات هذا الحدث ذات طبيعة سردية (فعل، فاعل، زمان، مكان)، أو من حيث بنياتها الخطابية (زمن، رؤية، صوت) ووظائفها، ولكن أيضا، لأنه يجسد سلوك الإنسان وأقواله ورؤيته للعالم، وأخلاقياته ومختلف سلوكاته ونوازعه وأهوائه. لذلك فإن مقاربة السرديات للحرب لن تختلف عن تحليل أي عمل سردي يضطلع به الإنسان بصفة عامة. لكن اشتراك عاملين في إنجاز هذا الحدث يضعنا أمام قصة واحدة ومزدوجة تقوم على التناقض والتضاد، لأن كل طرف ينجز قصته الخاصة في مقابل قصة الآخر. ولعل هذا البعد يقدم صورا مختلفة للتحقق السردي الذي تتصارع فيه مسارات وبرامج سردية متناقضة، وكل منها مستقل عن الآخر، وأخيرا أفعالا سردية متباينة. ولما كانت الحرب من الأفعال الإنسانية التي لا تختلف عن كل ما يقوم به الإنسان، فإن الاشتغال عليها كما يمكن أن يكون موضوعا أو ثيمة من خلال تناولها في الأعمال الأدبية (شعرا أو سردا)، وسواء كانت واقعية أو خيالية، يمكن أن يتركز على فترة زمنية محددة (الحروب الصليبية مثلا في روايات الفروسية والسير الشعبية العربية)، أو من خلال رصد تطور الحرب في التاريخ، وصولا إلى واقعنا المعاصر. ولما كانت الحروب القديمة مختلفة عن الحديثة فإن البحث والاستكشاف، يمكن أن يساعدنا على فهم الإنسان في تطوره في الزمان والمكان.
إن تعقد العالم المعاصر وترابطه يجعل من سرديات الحرب اختصاصا فرعيا من اختصاصات السرديات العامة، ينطلق من إجراءاتها، ويعمل على تدقيق النظر في متحولات ومتغيرات الحرب، وهي تتغير وتتحول في مجرى الزمن عاكسة بذلك رؤية خاصة للإنسان في علاقته بـ»أخيه/ عدوه» الإنسان. ولما كانت الحرب ظاهرة بشرية فإنها تمثيل لصور متعددة من صور التنازع والصراع بين الأفراد والجماعات، والاختلاف بينها. إن الكثير من الفعاليات البشرية، التي تبدو لنا من خلال: المنافسات المختلفة، والمباريات المتعددة، والمسابقات المتباينة المستويات وغيرها، وفي كل مظاهر الحياة (التوظيف، الانتخابات، كرة القدم، الأزياء، الجوائز) ليست سوى شكل من أشكال الحروب الجديدة التي يمارسها الإنسان، وقد تعددت جوانبها، فلم تبق في حدود «ممارسة القتل المادي»، ولكنها صارت اقتصادية، وإعلامية، ورقمية. كما أن منها ما هو ظاهر وكائن، وكامن وممكن. ويمكن للبحث السردي أن يتوسع في مقاربة ما لا تهتم به الاختصاصات الأخرى في علاقتها بالحرب.
كاتب مغربي