مجموعة من مزدوجي الجنسية بفرنسا: أسماؤنا ليست سلعًا تُباع في سوق الاحتقار وانتماؤنا المزدوج ليس خطرًا بل فرصة

مجموعة من مزدوجي الجنسية بفرنسا: أسماؤنا ليست سلعًا تُباع في سوق الاحتقار وانتماؤنا المزدوج ليس خطرًا بل فرصة
باريس- في مقال رأي مشترك بصحيفة لوموند الفرنسية، استنكرت مجموعة من حاملي الجنسية المزدوجة، بمن فيهم عميد مسجد باريس الكبير شمس الدين حفيظ، المكانة الممنوحة لهم في النقاش العام بفرنسا.
جاء في المقال: «نحن، مزدوجي الجنسية، الذين نشأنا بين لغات متعددة، وتواريخ متعددة، وآفاق متعددة، نشعر بحدة خاصة بعنف هذا العصر الذي، بدلاً من أن يسعى لفهمنا، يحاول إجبارنا على الاختيار. وكأن الاختيار يعني التخلّي عن جزء من أنفسنا. وكأن وجودنا، الذي تشكّل بفعل الحوار بين هوياتنا، يجب أن يخضع لأمر بالشك، لمطلب الولاء الحصري، وللتشكيك المستمر في ارتباطنا بفرنسا. فعندما كان أمين معلوف يجيب أولئك الذين سألوه عما إذا كان أكثر فرنسية أو لبنانية، كان يقول إنه “كِلاهما!” كان يعبّر عن حقيقة عميقة، هي حقيقتنا نحن».
نحن لا نتكون من أنصاف أو أجزاء يمكن طرحها أو جمعها. نحن كيان كامل
ويضيف الموقعون على المقال: «نحن لا نتكوّن من أنصاف أو أجزاء يمكن طرحها أو جمعها. نحن كيان كامل، غير قابل للتجزئة عن هذا الإرث المتعدد الذي يُغني نظرتنا إلى العالم. لن نقبل أن نُختزل إلى أجزاء قابلة للفصل لدول متنافسة، ولا أن نُدفع إلى هامش الجمهورية بحجة أننا نجسّد تنوعها. ومع ذلك، اليوم، ترتفع أصوات تسعى إلى جعل الهوية حصنًا، وسدًّا في وجه أولئك الذين، مثلنا، يرفضون التخلي عن بُعدهم المتعدد. هذه الأصوات ليست فقط من أقصى اليمين؛ بل تتسلّل بخبث إلى الخطاب العام، وتُطَبِّع فكرة أن بعض الفرنسيين يجب أن يثبتوا انتماءهم باستمرار، بينما يُعتبر آخرون المالكين الطبيعيين له، أو الأوصياء عليه. المناخ الحالي في فرنسا يُؤجّج هذا الشك. الجدل الدائر حول الهجرة، والعلمانية، والهوية الوطنية لا يتوقف عن تذكيرنا بأن وجودنا مزعج، وأن أسماءنا، ووجوهنا، وتقاليدنا تُعتبر تشقّقات في وحدة البلاد».
وتابعت مجموعةُ حاملي الجنسية المزدوجة القول: «لم يعد الأمر يقتصر على خطاب جان ماري لوبان، الذي كان يقول إنه يفضّل بناته على بنات إخوته، وبنات إخوته على بنات عمومته.. وهكذا حتى استبعاد الآخر. لقد أصبح الآن فكرًا يتسلّل إلى أروقة السلطة، وأعمدة الصحف، وشاشات التلفزيون، وعلى ألسنة من يدّعون تجسيد الروح الجمهورية، بينما يبثّون، في الوقت ذاته، سمّ الشك تجاهنا.. ومع ذلك، تُثبت الأحداث الأخيرة سخافة هذا الارتياب.. فما يحدث مع مزدوجي الجنسية الجزائريين- الفرنسيين، العالقين في نار الأزمة الحالية، يُظهر إلى أي مدى نحن في قلب هذا التوتر بين الدول. عندما يندلع نزاع أو تطرأ أزمة، نحن لسنا مجرد متفرجين، بل نشعر بارتداداتها في أعماقنا. عائلاتنا المتفرقة، ولاءاتنا المتعددة، مساراتنا المتشابكة تجعلنا شهودًا مباشرين على انقسامات العالم. ورغم ذلك، بدلًا من الاعتراف بقدرتنا الفريدة على بناء الجسور بين الشعوب، يُشتبه بنا، ويُطلب منا الاختيار، وإثبات ولاء لا ينبغي أبدًا أن يكون موضع شك».
وشدد الموقعون على المقال على القول: «انتماؤنا المزدوج ليس خطرًا، بل هو فرصة. يمنحنا قدرة نادرة على فك شفرة الفروق الدقيقة بين اللغات والثقافات، ونزع فتيل التوتر حيث يقيم آخرون الجدران. فحيث يرى البعض تذبذبًا، نحمل نحن في داخلنا مطلب الحوار وإمكانية المشترك. فهل يجب علينا، لكي نكون فرنسيين بحق، أن ننكر أصولنا، أن نمحو ارتباطاتنا، أن نتخلى عن لغات أجدادنا؟ هل علينا أن نخضع لوطنية الإقصاء، لأخوة ذات معايير مزدوجة، حيث نكون دائمًا الضيوف الأخيرين؟ لا. لأن هويتنا ليست عبئًا، بل ثراء. لأن فرنسا التي نحبها والتي ننتمي إليها لم تكن يومًا كيانًا متجانسًا، بل بلدًا صاغته اللقاءات، والاختلاطات، والحوار».
لقد تعلمنا العيش بين ضفتين، بين ذاكرتين، ونرفض أن نرى في ذلك لعنة
وأوضحت مجموعة حاملي الجنسية المزدوجة القول: «نحمل في داخلنا وعيًا حادًا بتوترات العالم. لأن لدينا غالبًا روابط دم وتاريخ مع دول تعاني الحروب، لا يمكننا أن ننظر إلى أوكرانيا أو فلسطين أو أي أرض معذبة أخرى دون أن نشعر بعمق صدى هذه المآسي. نحن أول من يشعر بثقل هذه النزاعات، لأنها تخترقنا، وتطرح علينا الأسئلة وتؤلمنا. ورغم ذلك، يريد البعض أن يجعلنا مشتبهًا بهم، وأن يتهمنا بازدواجية الولاء، وأن يطلب منا التبرير عند كل حدث يهزّ بلاد أصولنا. وكأننا، على الرغم من أننا تعلمنا الجمع بين ولاءات متعددة، غير قادرين على أن نكون بناة سلام، وجسورًا بين العوالم».
وتابع الموقعون على المقال: «وجودنا بحد ذاته يزعج، ويطرح التساؤلات، ويُربك رواية وطنية تودّ أن تتخيل نفسها متجانسة. لكن هذا الانتماء، بعيدًا عن كونه عيبًا، هو قوة. لقد تعلمنا العيش بين ضفتين، بين ذاكرتين، ونرفض أن نرى في ذلك لعنة. الأمر غير الشرعي ليس وجودنا، بل النظرة التي تسعى إلى حصرنا في مرتبة ثانوية. أمام تصاعد التوترات، نرفض التخلي عن أملنا. نحن نعلم أن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على الانغلاق، ولا على الخوف من الآخر، ولا على الرغبة في تقليص فرنسا إلى وجه واحد. نحن، مزدوجي الجنسية، أبناء الرياح المتعاكسة، نرفض أن نكون رمادًا تُنفَخ فيه أحقاد الآخرين، لا غنيمة، ولا رهينة، ولا ذريعة لضعفهم. أسماؤنا ليست سلعًا تُباع في سوق الاحتقار. لن يسجننا أحد خلف جدران هوية مبتورة. نحن، مزدوجي الجنسية، نجيب على كل من يصرّ على سؤالنا “من أنتم؟”.. أننا أبناء الرياح المسافرة، زرعنا في أركان هذه الأرض المسماة فرنسا، حيث حفرت جذورنا في الذاكرة، وحيث تحلم أزهارنا بفجر الغد. نحن غبار القوافل، صرخة الأجداد، ونحن أيضًا بريق العلم ثلاثي الألوان، وبناة مستقبل لن يُنتزع منا. نحن أنفسنا. وسنبقى كذلك».
“القدس العربي”: