مقالات

نحو العراق در

نحو العراق در

بدر الحاج

تحدث بوعاز بيسموت، رئيس لجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي، بثقة عن كيف أن الموساد يوقظ ملك الأردن ليلاً من نومه ويعطونه الأوامر، وأن سوريا ستكون مثل الأردن منزوعة السلاح، وأنه على ثقة بأنها ستكون جسر عبور لإسرائيل إلى العراق وكردستان. بعد انتشار هذا التصريح، سارع بيسموت إلى نفي ما قاله معتبراً أن التصريح مفبرك بالكامل. وبغض النظر عن صحة التصريح أو عدم صحته، إلا أنه لا دخان بلا نار، فمشروع الاستيطان اليهودي في العراق تم بحثه من قبل المنظمة الإقليمية اليهودية Jewish Territorial Organization منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وفقاً لمصادر وكتب صهيونية ووثائق سرّية فرنسية.

يبدو أن محاولة إحياء الطموحات القديمة للمنظمة الإقليمية اليهودية بالاستيطان في بلاد ما بين النهرين، أو «آرام نهاريم» وفقاً للعبارة العبرية، قد تكون وضعت مجدداً على جدول أعمال قادة العدو بعد انهيار سوريا وتحطيمها وسيطرة الصهاينة على جنوبها. ولا يستغربن أحد إمكانية تحقيق الاستيطان في ما بين النهرين إذا استمر الوضع كما هو عليه من تشرذم ومجازر وأطماع تركية وصهيونية وجهد أميركي متواصل لدعم المشروع الاستيطاني، وقمع كل حركة لمقاومة هذا المشروع.

ألم يعتبر ترامب أن إسرائيل دولة صغيرة في الشرق الأوسط؟ إذاً لا ضير في أن تتوسع. ألم يكن حلمهم في السابق الاستيطان في فلسطين؟ وتحقق ذلك الحلم بالتنظيم الدقيق، والتمويل الغزير، ودعم الغرب اللامتناهي في مقابل تفكك وفشل على كل الأصعدة؟ واليوم ما دام أن العراق مزروع بالقواعد العسكرية التابعة لـ«الناتو»، وما دام أن التقاتل الداخلي بين الطوائف، وداخل كل واحدة منها أيضاً، متواصل في العراق والشام ولبنان، فإن الأرض مهددة بالاجتياح.

في سوريا الدامية التي تنزف منذ عقد ونيف، لا حاجة للموساد في أن يوقظ حكامها في منتصف الليل لإعطائهم الأوامر، إنهم ينفذون بكل طيبة خاطر أمنيات الصهاينة. الجهاد بالنسبة إلى حكام دمشق ليس ضد من يحتل الأرض بل ضد أهل البلاد الذين تتم تصفيتهم باسم الدين، كل من له موقف من الحكم الجديد هو «من فلول النظام» وقتله «واجب ديني». أمّا إطلاق رصاصة واحدة ضد القوات الصهيونية التي اجتاحت جنوب سوريا، فهو الكفر بعينه. يمارسون بطولاتهم على العلويين، والدروز، والمسيحيين، والإسماعيليين والمرشديين، والسنة والشيعة والأكراد، هكذا يضمنون بقاءهم في السلطة وعدم دخول الصهاينة دمشق. هذه هي المعادلة الآن.

بالعودة إلى مشروع الاستيطان في بلاد ما بين النهرين، فإنه لم يكن المشروع الوحيد على طاولة القادة الصهاينة منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر. كانوا يفتشون عن أرض للاستيطان لنقل مئات الآلاف من اليهود الذين يتعرضون للمجازر في جنوب وشرق روسيا وأوروبا. كيف لا وقد نجحت الدول الأوروبية التي يعيشون فيها في استعمار مناطق وبلدان شاسعة في شتى قارات الأرض. لذلك إن ما يحق لتلك الدول يحق لهم أيضاً. مشاريع الاستيطان كانت متعددة وفي البداية لم يكن التوجه حصراً نحو فلسطين، بل في أي قطعة أرض قادرة على استيعاب ملايين اليهود.

يذكر آرثر هيرتزبيرغ في كتابه «الفكرة الصهيونية، نيويورك، 1959»: «ليس مهماً أن تكون فلسطين هي المكان الأمثل للاستيطان، فالمكان ليس الأساس، بقدر الشعب اليهودي المبدع الذي يستطيع العيش في أي مكان ويبني مجتمعاً ثرياً على كل الأصعدة. لا نحتاج إلا إلى قطعة أرض كبيرة لإخواننا الفقراء. قطعة أرض ستبقى ملكنا ولن يستطيع أحد طردنا منها».

إذاً المهم الاستيطان في أي مكان غني الموارد وواسع، هذا كان الهدف. رغم وجود أكثر من 20 مستوطنة في فلسطين في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، فإن مشاريع استيطانية عدة جرى التفاوض بشأنها. وفي البداية كان هرتزل لا يزال متردداً في اعتبار فلسطين الخيار الوحيد للاستيطان. وفي عام 1902 بحث إمكانية الاستيطان في العريش، وفي المؤتمر الصهيوني السادس في بازل قدّم اقتراحاً إلى بريطانيا للاستيطان على هضبة غواش نغيرو في شرق أفريقيا عُرف باسم «خطة أوغندا». وفي السنتين 1905-1906 أجرى القادة الصهاينة مفاوضات مع البريطانيين للاستيطان في الأقاليم الشمالية الشرقية من أستراليا، وكذلك تفاوضوا مع الأتراك للاستيطان في ليبيا، كما طرحوا مشاريع للاستيطان في كندا، وتم التفاوض مع البرتغال للاستيطان في أنغولا.

ونوقشت مشاريع استيطان عدة في قبرص والأرجنتين والولايات المتحدة الأميركية.
يذكر هرتزل في مذكراته أنه سبق أن طرح لأول مرة فكرة الاستيطان في العراق في 28 كانون الأول عام 1899 خلال لقاء مع أوسكار شتراوس السفير الأميركي في إسطنبول. وكان رأي شتراوس أن موضوع الاستيطان في فلسطين صعب لأن هناك معارضة من الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، واقترح أن يتم الاستيطان في ما بين النهرين، إذ من وجهة نظره لا توجد منافسة أو معارضة، وهي الأرض التي قدم منها إبراهيم.

عرض هرتزل خطة الاستيطان في ما بين النهرين على السلطان عبد الحميد الثاني، وكتب في مذكراته أن السلطان كان منفتحاً على فكرة الاستيطان في السلطنة ولكنه في المقابل وضع شروطاً رفضها هرتزل كما ادّعى. ومن تلك الشروط حصول المستوطنين على الإذن من حكوماتهم بقبول الجنسية العثمانية، ما يستدعي الطاعة لقوانين السلطنة وتأدية الخدمة العسكرية، وأن لا تكون الهجرة بصفة جماعية وضخمة، وأن يستقر المستوطنون في منطقة محددة لهم (مذكرات هرتزل 19 شباط 1902، الصفحات 388-393).

في عام 1905، ازدادت المذابح ضد اليهود الروس، ما أسهم في زيادة الزخم للاستيطان في ما بين النهرين. اتصل أوتو فاربورغ عضو اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية بمهندس الري البريطاني المشهور وليم ويلكوكس وطلب منه دراسة ميدانية لإمكانية نجاح مخطط الاستيطان في ما بين النهرين، وتمت الدعوة إلى إنشاء مؤسسة «آرام نهاريم العالمية» لجمع الأموال اللازمة للمشروع. أنجزت الدراسة وعرضت على اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية.

بعد استلام جمعية «تركيا الفتاة» السلطة في إسطنبول في تموز 1908، اعتقد القادة الصهاينة أن ظروف الاستيطان في بلاد ما بين النهرين أصبحت مؤاتية، لذلك كثفوا اتصالاتهم لتنفيذ مخطط الاستيطان. والمفارقة أن قادة «تركيا الفتاة» طلبوا من ويلكوكس أيضاً إجراء دراسة مماثلة بهدف التطوير الاقتصادي لبلاد ما بين النهرين. قدّم ويلكوكس الدراسة عام 1909 وتضمنت ري الأراضي القاحلة بواسطة أقنية للري، وإنشاء خط سكة حديد يربط بغداد بالساحل السوري، واقترح توطين فلاحين مصريين أو هنود ولم يتطرق إلى توطين اليهود (تفاصيل تقرير ويلكوكس في كتابه: The Restoration of the Ancient Irrigation Works on the Tigris or Re-Creation of Chaldea, London, 1903).

الملاحظ أن مشروع الاستيطان اليهودي في ما بين النهرين حظي بتأييد قوي من أحمد رضا، رئيس البرلمان التركي، وكذلك كان موقف حاكم ليبيا العثماني رجب باشا الذي أيّد بقوة مشروع الاستيطان اليهودي في برقة. وكما جرت العادة، استعان قادة الاستيطان بالعبارات التوراتية لدعم الاستيطان في العراق، وكرّروا الحديث عمّا جاء في سفر التثنية من القول التالي: «كلمنا الرب ألهمنا… تحولوا وارحلوا واذهبوا إلى جبل الأموريين وإلى كل الأماكن المجاورة، في السهل والجبل والجنوب وجانب البحر إلى أرض الكنعانيين وإلى لبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات».

إنها الفتوى الدينية التي تبرر الاستيطان واقتلاع الشعوب تماماً كما حدث في حروب الفرنجة (الصليبيين) ضد شعبنا. في حينه وضع مشروع الاستيطان في بلاد ما بين النهرين على الرف لأن الأكثرية الساحقة من القادة الصهاينة قرروا إعطاء الأولوية للاستيطان في فلسطين. وجاء وعد بلفور لاحقاً ليعطي اندفاعة قوية للاستيطان والتهويد في فلسطين. ويبدو من تصريحات قادة العدو اليوم ومن سياسة الاحتلال المتواصل للأرض السورية باتجاه العراق، أنه قد تم نفض الغبار مجدداً عن ذلك المشروع.

إن الاستكانة والهزيمة النفسية أولاً، ورفض المقاومة لمشروع تهويد الأرض، ستدفع هذه البلاد إلى جحيم التمزق والحروب الدينية التي لا نهاية لها. والمنتصر الوحيد في هذا الوضع المأساوي هو من يحلم بابتلاع أرضنا.
* كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب