بوتين وحروبه: كل الحق على نابليون!

بوتين وحروبه: كل الحق على نابليون!
مالك التريكي
على هامش تطورات المسألة الأوكرانية وبداية بروز موقف أوروبي قوي وموحد في مجال الدفاع والأمن الجماعي، جرت محاورة، أو بالأحرى ملاسنة، تاريخية بين رئيسين اشتهر كلاهما بغرامه بتاريخ بلاده وحرصه على تعهد الذاكرة القومية بالرعاية والإحياء. والبادي أن القاسم الوحيد بين الرجلين هو هذا الولع بالتاريخ. ذلك أن أحدهما رئيس دولة ديمقراطية ليبرالية، فضلا عن أنه نموذج الحاكم المثقف والطالب المتفوق (المعروف بأن الفيلسوف الراحل بول ريكور استنجبه واتخذه باحثا مساعدا) والخريج اللامع من أرقى المدارس والكليات النخبوية في بلاده. أما الثاني فهو طاغية ظلوم غشوم، ورغم أنه درس الحقوق فإنه كان في المرحلة الثانوية تلميذا رديئا لا يمل الخصام والعراك، أما قدوته في الحياة منذ كان يافعا فهم عملاء المخابرات! ولهذا ذهب، وكان لمّا يزلْ في السادسة عشرة، إلى الكي. جي. بي. عارضا خدماته، لعل وعسى…
قال ماكرون إن روسيا قد حولت النزاع الأوكراني إلى حرب عالمية، وإنها «خطر على أوروبا، حيث لا تني تنتهك حدودنا لاغتيال معارضيها، وتتدخل في الانتخابات في رومانيا ومولدوفا، وتشن هجمات رقمية على مستشفياتنا وتسعى للتلاعب بالرأي العام في بلداننا بالأباطيل التي تشيعها على شبكات التواصل». وفي مناسبة تالية أكد مجددا أن «روسيا تمثل، من منظور الديمومة، خطرا وجوديا» على أوروبا. وبالطبع اجتهد المتحدثون باسم الكرملين ووزارة الخارجية في الدفاع، ولكنهم قالوا كلاما سخيفا لا يليق، حتى بمقاييس البهتان السوفييتي الموروث. على أن الرد المثير والجدير بالانتباه قد أتى على لسان بوتين ذاته. قال: «منذ أن غزانا نابليون لا يزال ثمة من يتحرّق بنفاد صبر… أولئك أقوام لا يزالون يرومون الرجوع إلى زمن نابليون، ناسين لِمَن كانت العاقبة». وهو يحيل بذلك إلى حملة نابليون التي بلغت موسكو ولكنها انتهت عام 1812 بالهزيمة والاندحار. وأضاف بوتين شارحا أن «كل أخطاء أعدائنا وخصومنا بدأت بالطريقة ذاتها: الاستهانة البالغة بالطبع الروسي» وهو يقصد بذلك معدن الروس وما يتصفون به من عزم وجلد وثبات.
عن وقف إطلاق النار الذي تزعم روسيا أنها راغبة في التوصل إليه، أكد ماكرون: أن بوتين يمكن أن ينكث بعهده (..) وأنا على ذلك من الشاهدين
وقال ماكرون: «أعرف الرئيس بوتين جيدا، وإذا رد الفعل هكذا فذلك لأنه يعلم أني نطقت بالحق. فمن يستطيع أن يصدق أن روسيا الحالية ستتوقف عند أوكرانيا؟». وعن وقف إطلاق النار الذي تزعم روسيا أنها راغبة في التوصل إليه، أكد ماكرون أن بوتين «يمكن أن ينكث بعهده (..) وأنا على ذلك من الشاهدين، بما أني كنت مع المستشارة أنغيلا مركيل الضامنين لاتفاقيات مينسك التي تعمّد بوتين نقضها».
أما عن التشبيه بنابليون، فقد قال ماكرون إن بوتين «وقع في خلط تاريخي، وإني لأستغرب هذا منه (أي أنه كان يتوقع أن معرفة بوتين بالتاريخ تحصنه من الوقوع في مثل هذا الخلط). ذلك أن نابليون كان يشن الغزوات، أما القوة الإمبريالية الوحيدة التي أراها اليوم في أوروبا فاسمها روسيا». ثم استخلص النتيجة قائلا إن بوتين «إمبريالي تحريفي للتاريخ وهويات الشعوب» قبل أن يسدد الطعنة الأخيرة: وهي أن الإحالة إلى نابليون دليل على أن بوتين «مغتاظ لأننا كشفنا ملعوبه».
والواقع أن بوتين قارئ جاد لتاريخ بلاده، ولكن من منظور إيديولوجي ضيق تغذيه سردية المظلومية الروسية. ذلك أنه متأثر بآراء الفيلسوف الروسي المغمور إيفان إيليين (حيث بذل عام 2005 كل ما يلزم لاستعادة رفاته من منفاه الغربي). وقد كان إيليين فيلسوفا هيغليّا مناهضا لعقيدة اللاعنف التي يقول بها تولستوي. وهو يرفض الاختيار بين التوتاليتارية وبين «الديمقراطية الشكلية» السائدة في أوروبا الغربية. بل كان يحلم بإنشاء «دكتاتورية ديمقراطية» (!) روسية لا تقوم على «الحساب» (أي لا تعبأ بالأكثرية العددية المؤسسة للشرعية الانتخابية) وإنما تقوم على «ديمقراطية الجودة والمسؤولية وخدمة الصالح العام». وقد تنبأ إيليين بسقوط الشيوعية السوفييتية، متوقعا أن تعقبها حقبة من الفوضى والعنف والمحاولات الانفصالية المدعومة خارجيا، ثم يأتي الإنقاذ لما تَحِلّ «الدكتاتورية الوطنية» المتجاوزة لشكليات الانتخابات تحت إمرة «مرشد يسعى في خدمة الوطن بدل السعي في مصلحته، ويكافح بدل الاكتفاء بتسجيل الحضور، ويضرب العدو بدل التفوه بأجوف الكلام». أما عن أوكرانيا فالرأي عند إيليين، وبالتالي عند بوتين، هو أن لا خيار لها إلا بين أن تكون جزءا من روسيا أو من بولندا.
فهل ثمة، بعد كل هذا، من هو اليوم أقرب من بوتين ذاته نسبا إمبرياليا بنابليون وشطحاته وغزواته وممارساته العنيفة للحكم وللعلاقة بالجوار؟!
كاتب من تونس