مقالات

غزة تُسقِط أسطورة “شعب الله المختار”: من انكشاف الخرافة إلى انطلاق التحرر العالمي

غزة تُسقِط أسطورة “شعب الله المختار”: من انكشاف الخرافة إلى انطلاق التحرر العالمي

 

عوض عبد الفتاح

انكشاف الصهيونية ليس انتصارًا أخلاقيًا للفلسطينيين وحدهم، بل خطوة في مسيرة تحرير البشرية من نظام فكري وسياسي طالما شرّع الجريمة باسم الله والتاريخ. وهكذا تتقاطع فلسطين، كما غزة اليوم، مع كل معركة ضد الظلم، لتغدو بوابةً لتحرير العالم…

تتعرّض مقولة “شعب الله المختار” اليوم لأقوى تحدٍّ منذ الحرب العالمية الثانية، ليس من داخل الفكر العربي أو الإنساني التقدمي، بل من داخل الغرب ذاته، ومن شخصيات كانت حتى الأمس القريب تُعدّ حُرّاسًا للعقيدة الصهيونية. هذا التحول الفكري لا يقتصر على الجانب الديني أو الأخلاقي، بل يمتد إلى عمق السياسة الغربية، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث تتداعى الأسس الأيديولوجية التي قامت عليها الصهيونية وحلفاؤها في التيار الإنجيلي الأميركي.

في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، فجّر الإعلامي الأميركي المحافظ، تاكر كارلسون، قنبلة فكرية حين قال في إحدى إطلالاته “إن الله لا يختار شعبًا يقتل الأطفال والأبرياء”. لم يكن موقفه صحوةً إيمانية فحسب، بل إدراكًا سياسيًا لمدى تآكل مبدأ “أميركا أولًا” أمام هيمنة المصالح الإسرائيلية. فالرجل، الذي كان أحد أبرز المدافعين عن إسرائيل ونظامها الاستعماري، والمناهضين للمهاجرين والمسلمين، بدأ يكتشف أن التحالف مع مشروع ديني عنصري وعدواني يضرّ بمصالح أميركا نفسها، ويشوّه قيمها المُعلنة عن الحرية والمساواة. ومنذ تفجير هذه القنبلة، يتعرض توكر لحملة تشويه شرسة وتهديدات من اللوبي الصهيوني في اليمين الأميركي المتطرف، لكن ذلك لم يردعه عن مواصلة نقده العلني لسياسات إسرائيل ودونالد ترامب.

يستدعي موقف كارلسون إلى الأذهان رفض الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا، قبل أربعة قرون، للمقولة ذاتها، ولموقفه الأكثر عمقًا وجرأة. فقد اعتبر سبينوزا أن البشر جميعًا متساوون أمام الله والطبيعة، وأن “الاختيار الإلهي” إن وُجد، لا يعني تفوقًا عرقيًا أو امتيازًا دنيويًا، بل مسؤولية أخلاقية وروحية تجاه الآخرين. دفع ثمن جرأته غاليًا، حين كفّره المجمّع اليهودي في أمستردام، وحُرم من جماعته، وتعرض لمحاولة اغتيال، لكنه مهّد بذلك لولادة العقل الفلسفي الحديث في أوروبا، قبل أن يموت بالسلّ في الرابعة والأربعين من عمره. وقد وصفه الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل لاحقًا بقوله: “من لم يقرأ سبينوزا لا يمكن أن يكون فيلسوفًا”.

اليوم، يتجدد هذا التمرّد على الخرافة الصهيونية، لا عبر الفلاسفة وحدهم، بل من خلال صمود الشعب الفلسطيني نفسه، الذي كشف زيف الأسطورة الأخلاقية التي طالما برّرت جرائم إسرائيل. فالمجازر التي تُرتكب في غزة، والدمار الذي يطال المدن والمخيمات، لم يعد بالإمكان تبريره أو تغطيته بشعارات “الحق التاريخي” أو “التحالف الديني”. لقد تهاوت أمام أعين العالم كل المقولات التي منحت إسرائيل حصانة أخلاقية وسياسية لعقود طويلة.

إن هذا التحول في الوعي العالمي هو ثمرة مزدوجة؛ من جهة، هو نتيجة لصمود الفلسطينيين الأسطوري، الذين حوّلوا آلامهم إلى مقاومة؛ ومن جهة أخرى، هو نتاج التوحش الصهيوني الذي بلغ حدًّا لم يعد الغرب قادرًا على تبريره. فكلما ازدادت وحشية الاحتلال، ازدادت عزلة إسرائيل، واهتزّت مكانتها الأخلاقية حتى بين حلفائها.

لقد احتاج العالم إلى عامين من الحرب الهمجية على غزة حتى تبدأ الخرافات الصهيونية بالانهيار واحدة تلو الأخرى. واليوم، بينما تتساقط أسطورة “الاختيار الإلهي”، وتنكشف أكذوبة “الضحية الأبدية”، تبرز غزة بوصفها منارةً أخلاقيةً للعالم، ورمزًا لتحرر الوعي الإنساني من الخرافة والاستبداد. إنها لا تحرّر فلسطين فقط، بل تفتح أعين الشعوب على الطبيعة الإباديّة للصهيونية، وزيف النظام العالمي القائم على الهيمنة والتوحّش والعنصرية، وتوقظ الضمير الإنساني من سباته الطويل.

إنّ ما يحدث ليس مجرد جدل فكري أو مراجعة دينية، بل تحوّل حضاري عميق يطال بنية النظام العالمي ذاته. فحين تسقط الخرافة التي شرّعت الاستعمار والإبادة، تبدأ منظومة السيطرة الغربية بالتعرّي من قدسيتها الزائفة. وهذا التحول، الذي يتجلّى في وعي الشعوب وتمرد الأصوات الحرة داخل الغرب، يفتح أفقًا جديدًا للنضال الفلسطيني، إذ يُعيد قضيته إلى موقعها الطبيعي: قضية تحرر إنساني شامل ضد كل أشكال الاستعمار والعنصرية والهيمنة.

إن انكشاف الصهيونية ليس انتصارًا أخلاقيًا للفلسطينيين وحدهم، بل خطوة في مسيرة تحرير البشرية من نظام فكري وسياسي طالما شرّع الجريمة باسم الله والتاريخ. وهكذا تتقاطع فلسطين، كما غزة اليوم، مع كل معركة ضد الظلم، لتغدو بوابةً لتحرير العالم من عبودية القوة والخرافة معًا.

كل ذلك يضع الفلسطينيين ونخبهم أمام مسؤولية عظمى، تتمثل في الاضطلاع بالمراجعة الذاتية العميقة، وإعادة بلورة مشروعهم الوطني على أنقاض الانقسام، وبمضامين وطنية وإنسانية كونية تحرّرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب