ثقافة وفنون

كيف قفزت إلى العالم مع ماهر جرجس

كيف قفزت إلى العالم مع ماهر جرجس

إبراهيم عبد المجيد

-1-
لم أستطع متابعة مسلسلات رمضان هذا العام في مصر، رغم توفر الوقت لي، فلا خروج من البيت إلا للضرورة، ولا قدرة مهما كانت الضرورة، على الخروج أكثر من مرة كل أسبوعين. والأهم هو إحساس ربما ينتاب البشر مع التقدم في العمر وهو الاستغناء. هي فقط اللقاءات الجميلة مع الأحباء، لكن السوشيال ميديا تتيح لنا كذبة أن ترى كل أحبابك على فيسبوك، أو تويتر أو غيرها، وتتخيل أنها حقيقة.
حاولت أن أشاهد حلقة أو اثنتين من بعض المسلسلات، ولم أفكر أن التقط عيبا من أي نوع فيها، وأتسرع في الكتابة عنه. فكرت في أن أتوقف عند الجمال بتجلياته الطبيعية في الديكور، أو حركة الممثلين، أو الحوار، أو الموسيقى التصويرية مثلا، لكن للأسف وجدت عائقا سخيفا وهو، كمية الإعلانات الهائلة في كل مسلسل، التي يبدو لك من تكرارها أيضا في الحلقة الواحدة، أن المسلسل أمر ثانوي، بينما الأمر الحقيقي هو الإعلانات. جعلتني الإعلانات التي يقارب زمنها زمن الحلقة الأصلي، أعزف عن المشاهدة.
رأيت دهشة البعض في صفحات السوشيال ميديا مما قيل في بعض المسلسلات، من ألفاظ نابية مثل يا «معفن» أو «يابن الجزمة» أو غيرها لا أحب أن أذكرها. الغائب هو أن ما يحدث بشكل عام، مع استثناءات طبعا، أن أكثر المسلسلات صارت تدور في الحواري، بين فئات خارجة عن المألوف، لا تعكس قضايا اجتماعية أو سياسية، فهناك رقابة صارمة تمنع الدخول في مناطق سياسية، وإن كان بينها تجد مسلسلا أو اثنين عن حكايات تاريخية. انتهي زمن الرقابة التي كانت توافق على مسلسلات لأسامة أنور عكاشة، أو وحيد حامد، أو محمد جلال عبد القوي، فيها قضايانا السياسية مع النظام الحاكم وتجلياته في بشاعة الرأسمالية وغير ذلك، ناهيك من الأفلام عن المعتقلات التي انتهت تماما. من المسلسلات التي أثارت ضجة كبيرة مسلسل «معاوية»، هاجمه البعض لأن تجسيد الصحابة أمر مُحرَّم، وهاجمه البعض لأن معاوية ليس بالشخصية البعيدة عن الدم هو أو أسرته، شاهدت حلقتين من المسلسل فوجدت الإيقاع بطيئا فانصرفت عنه، ولم أشغل نفسي بالبحث في التاريخ، فقد قرأت فيه ما يكفي. لم ينتبه أحد إلى أن الرقابة لن تسمح بأي مشهد يدين معاوية، فهو صحابي، وإن جاء متاخرا بعد فتح مكة، لكنني صبرت لأرى الحلقتين فأزعجتني الإعلانات.. ما معنى أن تقطع مسلسلا تاريخيا يدور في زمن الرسول وبعده، بإعلانات عن جمعيات خيرية للطعام، أو بناء المساجد، أو توصيل المياه إلى القرى، أو أغاني رغم جمال الأغاني عن رمضان، إن جمالها ينسيك المسلسل. لا يدرك من يفعلون ذلك أنك تشاهد حقبة من التاريخ، يمكن أن تأخذك الكتابة إليها وتتوحد معها. لا يدرك أحد أنهم بهذا يجعلونك تدرك ما حولك ويفسدون قدرة الفن على أخذك إليه.
من ألطف ما قراته عن نقد الإعلانات، جملة كتبتها الشابة ياسمين الحسيني مصممة الأزياء في الإسكندرية «الإعلانات كتير عن المستشفيات وما فيش مستشفى من غير إعلان إلا العباسية اللي كلنا حنروح ليها»، طبعا تقصد بمستشفى العباسية مستشفى المجانين في القاهرة، فهذا هو الإسم الشائع عنها لموقعها في ميدان العباسية. أضحكتني خفة دمها، التي ورثتها عن والدها صديق عمري في الإسكندرية، وأحد مصادر إلهامي في رواية «بيت الياسمين».

-2-
شجعتني الإعلانات على أن أخرج من البيت وأبتعد عن مشاهدة المسلسلات، أو قراءة الكثير من النقد الموجه لها، وأذهب إلى عالم أكثر اتساعا، وهو معرض للفنان التشكيلي السكندري ماهر جرجس. أخذت طريقي إلى حيث يقام المعرض في ساحة الأوبرا في قاعة» الباب» الذي يقيمه قطاع الفنون التشكيلية في القاهرة. كنت أعرف أني سأدخل من الباب إلى عالم رحب كأنما في برزخ بين السماء والأرض، لمشاهداتي السابقة لمعارض ماهر جرجس في الإسكندرية. أعرف ماهر منذ سنوات طويلة، وأعرف كثيرين من فناني الإسكندرية، رحل بعضهم مثل مصطفى عبد الوهاب وأطال الله أعمار من بقي مثل عصمت داوستاشي أو ثروت البحر، بل كانت زياراتي من قبل للمدينة لا تتم إلا باللقاء معهم، سواء في معرضهم أو في بيوتهم. كلهم أخلصوا للفن أكثر من أي شيء آخر، واستغنوا به عن العالم، والذي يجمع بين هؤلاء الفنانين الثلاثة أكثر من غيرهم هو قراءتهم للأدب والفكر والتاريخ والكتابة الفارقة فيه عند ثروت البحر وعصمت داوستاشي، اللذين حين تقرأ كتاباتهما تجدها صورا فنية بإيقاع اللغة والتنقل بين الأفكار. يختلف ماهر جرجس بأنه كثيرا ما يجعل مما يقرأه موضوعا للوحاته، وكنت سعيد الحظ أن فزت منه بمعرضين تم استلهامهما من روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية» و»عتبات البهجة».
كتبت من قبل عن عشقي للفن التشكيلي الذي ساعدني على البناء الفني لرواياتي، أو قصصي، بعيدا عن الحكي الطويل والأفكار المباشرة، وعشت أحلم أن تكون قصصي أو رواياتي في بناء اللوحة الفنية، التي تتعدد فيها الألوان في أصغر مساحة مهما طالت الرواية. عندما تقف أمام لوحات ماهر جرجس تقفز إليك الروح السريالية، لكن مع قليل من التأمل تجد اللوحة ليس حلما، ولا في تكوين الأحلام فقط. هذا إذا كان أحد يعرف تكوينها فهي متسعة للعالم. وهكذا تجد لوحات ماهر متسعة باتساع البحر المتوسط، تعطيك البهجة والأمل، أو كما قال وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية، الذي قام بافتتاح المعرض، والذي هو بدوره فنان رائع له معارضه في مصر وغيرها، فضلا عن دوره كأستاذ للفنون والتصوير في الجامعة.

إن اعمال ماهر جرجس تتميز ببصمة خاصة، تعكس البهجة اللونية الممزوجة بالتكوين الغرائبي، ذي الرموز المتحررة من قوالبها التقليدية الشكلية وحتى الوظائفية، لينصهر فوق مسطح لوحاته ما هو عضوي وما هو هندسي، في تناغم يساعد على تتبع رؤيته وأفكاره، وبالتالي إدراكها، فتكون القراءة بالعين والوجدان. لماهر جرجس أيضا معارضه في مصر وخارجها يطول الحديث عنها، وأعود إلى حفاوته بما يقرأه في الأدب. لقد جعل لهذا المعرض عنوان «دروب حانية» وفيه بعض اللوحات الصغيرة، بورتريهات لأقطاب الفن والأدب في الإسكندرية مثل، سيد درويش ولورانس داريل وكفافيس والأديب الإيطالي أونجارتي. يغامر ماهر أحيانا فيقيم لوحة فيها تناص مع فنان عظيم سابق، مثل لوحة «بنات بحري» لمحمود سعيد أو لوحة «المنشدين» لسيف وانلي في رسم يحمل نزعته الخاصة في الرؤية، وليس مهما المقارنة بينهما، لكن بمجرد الرؤية يقفز إليك تاريخ الفن والفنانين في الإسكندرية، ويتسع أمامك البحر.
ذهبت إلى المعرض وما إن دخلت حتى وجدت نفسي أتحرك بين اللوحات ذاهلا عمن حولي، وأنا أقول لنفسي أين كنت وأين أصبحت. تداعت إليّ رحلاتي في معارض الفنون العالمية، وكيف في بعضها جلست على الأرض بين لوحات غويا في متحف البرادو في مدريد، أو انهمرت دموعي ما إن رأيت لوحة «الإفطار على العشب» لكلود مونيه، وأن أزور متحف الأورسيه في باريس، وغير ذلك كثير كتبت عنه سابقا في رحلة حياتي. أجلت الجلوس مع ماهر أو وليد قانوش إلى انتهاء الجولة التي تمنيت ان أظل أعيش بينها. جلسنا نتحدث وذكرياتنا لا تنتهي. سألني وليد قائلا، يقولون لي أنك تعتذر عن أي عمل ثقافي في لجان الوزارة. قلت له هذا حقيقي منذ سنوات فهناك أجيال جديدة أولى بالعمل. أنا أعيش مع ما أكتب أو ما أرى، ما بقي لي من عمر. وفوجئت بعد العودة بماهر جرجس ينشر صورة لي معه نشير إلى إحدى اللوحات ونتحدث معلقا عليها» الحديث باليد»، هكذا رؤية الفنان ففي يدنا إشارة بمشاعرنا. أهلا بفناني الإسكندرية الذين يعيدون لي حضارة البحر المتوسط التي اتسعت للعالم.

كاتب مصري

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب