إيران ـ أمريكا: دبلوماسية التوتر

إيران ـ أمريكا: دبلوماسية التوتر
د. سعيد الشهابي
الحديث عن «محادثات» بين إيران وواشنطن ليس جديدا، بل مستمر منذ أكثر من أربعة عقود، فهو لم ينقطع تماما كما لم يتواصل بالشكل الذي يحدث بين البلدان من خلال التمثيل الدبلوماسي المباشر بين الدول.
ولن تفيد لغة التهديد الأمريكية خصوصا بعد العدوان الأخير على اليمن لتحريكه. فمنذ غلق السفارة الأمريكية في طهران بعد شهور من انتصار الثورة في العام 1979 انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اللذين كانا حليفين مدى العقود السابقة. وقد سعت أمريكا للتحاور مع إيران ليس من خلال الاعتراف الكامل بالسيادة بل بالضغط تارة والابتزاز أخرى والتهديد ثالثة. وفي النهاية استقرّ البلدان على قاعدة القطيعة الدائمة بين نظاميهما، مع شيء من الغزل المتقطّع. والواضح أن سياسة كل منهما تجاه «إسرائيل» تمثل جوهر الأزمة. وبمرور الوقت أصبحت القضية مثل كرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت. فإيران تشعر بالتوتر كلما حدث تطبيع بين حكومة عربية مع تل أبيب، وأمريكا تزداد غضبا لعدم قدرتها على التأثير على مسار القضية التي تشعر بالانحياز الكامل فيها نحو «إسرائيل». وقد وجدت إيران نفسها محسوبة على المحور الصيني ـ الروسي، وتأمل أن يكون بروز ما يسمى «الجنوب الإنساني» بداية لتوسّع ذلك المحور الذي يهدف لانتهاج سياسات تحمي مصالحه من جشع النظام الرأسمالي، بعد تلاشي المحور الشرقي الاشتراكي.
قبل أيام قال الرئيس الأمريكي أنه أرسل رسالة إلى المرشد الإيراني السيد علي خامنئي يقترح فيها إجراء محادثات بشأن الملف النووي، لكنه حذّر أيضا من أن «هناك طريقتين للتعامل مع إيران.. عسكريا أو التوصل إلى اتفاق». وفي ذلك إيحاء باستمرار السياسة الأمريكية التي تتعامل مع الآخرين بالإكراه والتهديد. وقد رفضت إيران هذه اللغة. فلم ترفض مبدأ التفاوض ولكن خارج إطار لهجة الاستعلاء. فقال وزير خارجية البلاد عباس عراقجي إنه لا يستبعد إجراء محادثات مع واشنطن، لكنه قال إنها لا يمكن أن تتم إلا على «أساس المساواة» بين البلدين. وقال عراقجي في مقابلة مع صحيفة إيرانية «إذا دخلنا في مفاوضات مع فرض الطرف الآخر أقصى الضغوط، فإننا سنتفاوض من موقف ضعيف ولن نحقق شيئا». وثمة عقبات شائكة أمام أي تفاوض جاد بين الطرفين، أهمها إصرار امريكا على الاستمرار في السياسة نفسها التي كانت من أسباب الخلاف بين البلدين: التهديد باستخدام القوة لإجبار الطرف الآخر على ما يشبه الاستسلام. وقد عُرف الإيرانيون برفضهم ذلك النمط من التعامل واستعدادهم للتضحية من أجل كرامتهم.
ربما انطلقت واشنطن في تكرار منطقها على أساس الاعتقاد بأن إيران قد ضعفت كثيرا وأنها أصبحت محاصرة ولم يعد لديها مجال للمناورة السياسية، وأن حلفاءها الاستراتيجيين يعانون من الضغوط الأمريكية أيضًا.
ومن ذلك: أولا الضربات التي وجّهت للنفوذ الإيراني الإقليمي. فسوريا انتهت كقوة عسكرية بعد نزع سلاحها بشكل كامل خلال النزاع الذي أدّى لإسقاط نظام بشار الأسد. فما فعلته «إسرائيل» من تدمير كامل للإمكانات العسكرية السورية لم يحدث لأي بلد آخر إلا في حالات نادرة مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت المجموعات المسلّحة مشغولة باستهداف دمشق وحلب، كان الطيران الإسرائيلي يدمّر القدرات العسكرية السوريّة باستهداف كافة القواعد والمستودعات والبنى التحتية، حتى أصبحت سوريا منزوعة السلاح بشكل كامل، وأصبحت البلاد مفتوحة أمام الاحتلال الإسرائيلي الذي سيطر على كافة المناطق جنوبي دمشق. فقد شنَّت إسرائيل في يوم الأحد 8 ديسمبر 2024 بعد ساعات من سقوط بشار الأسد في سوريا، عملية عسكرية جوّيّة وبرّيّة. وتوغَّلت قواتها داخل المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ، بذريعة إنشاء منطقة عازلة بين الأراضي السورية وهضبة الجولان السوري المحتلة من إسرائيل بالأصل، ويساندها سلاح الجو بشن غارات على مناطق متفرقة في سوريا.
يبذل الأمريكيون جهودا مضنية لمنع أي تداول تجاري على الحدود بين العراق وإيران. فهناك تجارة حدودية محدودة بين البلدين، كما أن العراق يشتري جزءا من الطاقة الكهربائية التي يحتاجها من إيران بالعملة الصعبة
وبموازاة ذلك كان هناك استهدف إسرائيلي لحلفاء سوريا في غزة وتم تدمير القطاع بوحشية أعادت إلى الأذهان ما حدث في الحرب العالمية الثانية، وأصبح قرابة المليوني فلسطيني بلا مأوى. حدث القصف بلا رحمة أو شفقة أو إنسانية، وكذلك بدون احتجاج من الخارج وكأن شيئا لم يحدث. واكتفت الأمم المتحدة بالتهديد باتخاذ إجراءات قضائية دولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. «إسرائيل» لم تكتف بالتدمير العسكري للقطاع بل مارست الجرائم المذكورة على نطاق واسع.
في الأسبوع الماضي صدر عن الأمم المتحدة تقرير واسع يتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية وعنف جنسي في غزة. ووفقا لهذا التقرير أصبح مجلس الأمن الدولي مطالبا بموقف أو قرار لإقامة محكمة دولية خاصة تتعاطى مع تبعات ذلك الملف الذي يسعى الغربيون خصوصا أمريكا لتجاوزه. التقرير الجديد الذي أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، و«إسرائيل» يوثق مجموعة واسعة من الانتهاكات المرتكبة ضد النساء والرجال والفتيات والفتيان الفلسطينيين في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ووفقا للتقرير، فإن هذه الانتهاكات «تشكل عنصرا رئيسيا في سوء معاملة الفلسطينيين وتعد جزءا من الاحتلال غير القانوني واضطهاد الفلسطينيين كمجموعة». وقال إن إسرائيل استخدمت، بشكل متزايد، العنف الجنسي والإنجابي وأشكالا أخرى من العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد الفلسطينيين «كجزء من جهد أوسع لتقويض حقهم في تقرير المصير، وارتكبت أعمال إبادة جماعية من خلال التدمير المنهجي لمرافق الرعاية الصحية الجنسية والإنجابية». ولكن برغم هذه التقارير فليست هناك ضغوط حقيقية على كيان الاحتلال لوقف عدوانه أو إنهاء اضطهاد سكان غزة، أو فرض عقوبات على حكومة نتنياهو التي تمارس سياسات التجويع علنا، كما فعلت عندما منعت الطعام والماء عن القطاع الشهر الماضي. فكيف يمكن ردع المحتل إذا بقي العالم صامتا إزاء جرائمه؟ وأين هو الفعل العربي ـ الإسلامي الذي يدافع عن فلسطين وأهلها ويتخذ إجراءات ضد الجهات التي تهددهما؟
لا شكّ أن الضربات الإسرائيلية المتلاحقة نجم عنها تدمير البنية التحتية لحزب الله الذي كان رمزا للصمود أمام العدوان الإسرائيلي، خصوصا بعد أدائه في حرب تموز 2006. هذه المرّة كان الاستهداف شاملا. فقد تم اغتيال أمينه العام ومعه أغلب قيادات الصف الأول، بالإضافة لتدمير سلاحه. وإذا أضيف لذلك ما حدث لمنظمة حماس في غزة من استهداف وتدمير، اتضح حجم الدمار الذي لحق بما يسمى «محور المقاومة» الذي رعته إيران لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ووجّهت لإيران كذلك ضربات جوّيّة استهدفت قواعدها العسكرية ودفاعاتها الجوّيّة. وكان للتكنولوجيا المتطورة دور أساسي في ذلك كله، خصوصا تفجير أجهزة «البيجر» في لبنان. ولم يتوقف الاستهداف عند ذلك، بل توسعت دائرته لتشمل توسيع التضييق الاقتصادي على طهران. فبالإضافة للحصار الدولي المفروض على الجمهورية الإسلامية تعرّض حلفاؤها للضغوط كذلك. ويبذل الأمريكيون جهودا مضنية لمنع أي تداول تجاري على الحدود بين العراق وإيران. فهناك تجارة حدودية محدودة بين البلدين، كما أن العراق يشتري جزءا من الطاقة الكهربائية التي يحتاجها من إيران بالعملة الصعبة، لذلك يتعرض العراق لضغوط شديدة لوقف ذلك. فالأجندة الإسرائيلية أصبحت تمثل جزءا من السياسة الخارجية الأمريكية التي تسعى لتنفيذها مهما تطلب الأمر. بل ذهبت واشنطن أبعد من ذلك عندما اقترح ترامب إخلاء غزّة من أهلها الفلسطينيين وتحويلها إلى منتجع سياحي تابع لامبراطوريته التجارية. ولولا الهبّة الدولية التي رفضت ذلك جملة وتفصيلا لربما مُحي القطاع من الخريطة ومعه اسم فلسطين.
أمريكا ما تزال ترى إيران معوّقا لسياستها في المنطقة، خصوصا إصرارها على دعم قضية فلسطين ورفضها التطبيع مع «إسرائيل». لذلك لن تتوقف واشنطن عن ممارسة سياسات تهدف لإشغال إيران وإضعاف نفوذها الإقليمي. وتستهدف بشكل خاص مشروعها النووي بأساليب عديدة، في مقدمتها التحشيد الدولي ضده.
في عالم محكوم بقانون الغاب يجدر بذوي الشأن الاستفادة من أساليب الدفاع عن النفس التي تُمارس في عالم الغاب، فذلك أحد الطرق لضمان البقاء في عالم يزداد توحشا.
كاتب بحريني