ورطة تونس مع المهاجرين غير النظاميين

ورطة تونس مع المهاجرين غير النظاميين
محمد كريشان
مشهد يلخّص تماما ورطة تونس في هذه القضية: باخرة الحرس الوطني تدخل ميناء مدينة صفاقس وقد امتلأت بالمهاجرين الأفارقة غير النظاميين الذين أحبط هذا الحرس محاولتهم الوصول إلى الشواطئ الأوروبية ليعيدهم هائمين على وجوههم إلى المدينة وضواحيها.
الورطة هي أن تونس، لا هي استطاعت أن توقف تدفق هؤلاء المهاجرين إلى أراضيها من الجزائر وليبيا وغير قادرة على عتاب أي منهما، ولا هي تركتهم يغادرون أراضيها بحرا إلى أوروبا وهو الهدف الذي جاؤوا إلى تونس من أجله، ولا هي وفّرت لهم الحد الأدنى من مقوّمات العيش الكريم على أراضيها، بل وزج في السجون ببعض من حاول مساعدتهم والإحاطة بهم من نشطاء وجمعيات المجتمع المدني.
الورطة أن تونس الرسمية لا تملك أي تصور لمعالجة هذه الأوضاع منذ أن ارتضت لنفسها أن تكون عمليا حارسة للحدود الأوروبية بمقابل هزيل، ومهين أيضا، بعد مذكرة التفاهم الموقعة عام 2023 بين الرئيس قيس سعيّد والاتحاد الأوروبي والتي لم يطلع الرأي العام التونسي على كل تفاصيلها.
الأسوأ من كل ما سبق، أن قضية هؤلاء المهاجرين تحوّلت إلى قضية رأي عام حارقة بعد أن ارتفعت حالة التذمّر من وجودهم بين الأهالي في مدن مثل صفاقس وضواحيها، وحتى في حقول زيتونها، وما سببوه من إشكالات أمنية مختلفة حتى وصلت الأمور إلى اشتباكات مع الأهالي مع تصاعد موجة كراهية بغيضة ضدهم تجلّت بالخصوص في مواقع التواصل الاجتماعي.
وضع لم تملك أمامه «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» سوى أن تطالب في بيان لها قبل أربعة أيام بوقف جميع أشكال «العنف والميز» ضد المهاجرین في تونس، معتبرة أن «التعامل مع هذه الظاهرة لا يمكن أن يكون عبر مقاربات أمنية قمعية وخطاب تحريضي عنصري، بل من خلال سياسات شاملة تحترم القوانين التونسية والمعاهدات الدولية، وتحمي الذات البشرية وحقوق الإنسان، وتضمن التوازن والسلم الاجتماعي».
الورطة أن تونس الرسمية لا تملك أي تصور لمعالجة هذه الأوضاع منذ أن ارتضت لنفسها أن تكون عمليا حارسة للحدود الأوروبية بمقابل هزيل
الرابطة حمّلت السلطات التونسية المسؤولية الكاملة عمّا اعتبرتها «خيارات فاشلة في التعاطي مع ملف الهجرة، ما ساهم في تفاقم الأزمة وانعكاساتها على كل من المهاجرين والمجتمع التونسي» مدينة بشدة ما اعتبرتها «عنصرية مؤسساتية وخطابًا تحريضيًا صادرًا عن بعض النواب، يتنافى مع مبادئ الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان».
هؤلاء النواب الذين يشير إليهم البيان منهم من دعى من يتضامن مع المهاجرين إلى فتح أبواب بيته لاستقبالهم، ومنهم من قال إن عناصر من «بوكو حرام» تسللوا إلى تونس بين هؤلاء، ومنهم من أدان من تضامن معهم مطالبا بمحاسبتهم. أما رئيس مجلس النواب إبراهيم بودربالة فقال إن «تونس تتعامل مع هذه المسألة وفق المواثيق الدولية والقانون الإنساني واحترام الذات البشرية» مع أن لا شيء يدعم أي جزئية من كلامه.
وعوض الانصراف إلى معالجة مشاكل هؤلاء المهاجرين، الذين لا توجد أرقام رسمية حول أعدادهم التقديرية، ضمن خطة وطنية واضحة، التزمت السلطات الصمت وبدت عاجزة عن إدارة هذه الأزمة، فلا هي هدّأت من روع مواطنيها ولا هي وجدت حلولا لتكدس المهاجرين دون أن توفر لهم قوت يومهم أو الحد الأدنى من المرافق، وفق ما أظهرته عديد الفيديوهات وشهادات المهاجرين.
في المقابل، نجد بعض الأصوات الجريئة التي ارتفعت محذّرة من هذه الأجواء المتشنجة، فالجامعية رجاء بن سلامة كتبت أنه «يجب أن نكفّ عن اتهام هؤلاء المساكين الذين ألقت بهم الحروب والتغيرات المناخية وغياب الحوكمة ببلادنا ﻷنّها بوابة لأوروبا. دخولهم الى تونس هي مسؤولية دولتنا ودول الجوار، وبقاؤهم بتونس وهم يريدون العبور، وعدم تنظيم بقائهم، ومنعهم من العمل وسجن الفاعلين الاجتماعيين الذين أرادوا تقديم يد المساعدة لهم هو مسؤولية دولتنا». أما الكاتب التونسي حاتم النفطي فذكّر الجميع أن هذا السعار ضد المهاجرين إنما هو ديدن أقصى اليمين في أوروبا الذي يدينه التونسيون عندما يتعلق الأمر بأبنائهم المهاجرين غير النظاميين هناك، فيما كتب وليد ماجري مدير موقع «الكتيبة» أن التونسيين الذين هاجروا بشكل غير قانوني إلى أوروبا «لم يطردوا الى غابات الزيتون في عزّ البرد وهجير الصيف، ولم تنظّم لهم ملاحقات شعبية لقتلهم ولم يمنع عنهم الطعام والعلاج والخدمات الاجتماعية. والحكومة الايطالية لم تقف مكتوفة اليدين وظلّت تسعى بكل الطرق لإيجاد حلول ديبلوماسية واقتصادية لإنهاء الأزمة وحماية أرضها دون أن تسقط في التحريض ضدّ الوافدين غير النظاميين».
لا توجد أرقام رسمية عن أعداد من حالت السلطات التونسية دون وصولهم إلى الشواطئ الأوروبية لكن وزير الداخلية الإيطالي صرح العام الماضي أن هذا العدد بلغ 61 ألفا ما أثار وقتها انتقادات واسعة بين الحقوقيين الذين اعتبروا أن ذلك ما كان ليتم لولا الدعم اللوجستي للسلطات التونسية من زوارق مطاردة ومعدات رصد وغير ذلك.
ووفق دراسة حول وضعية المهاجرين أنجزها العام الماضي «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» الناشط في مجال الهجرة، فإن أغلب المهاجرين الأفارقة الذين يرغبون في العبور إلى السواحل الأوروبية قد وصلوا إلى تونس من 23 بلدا أفريقيا سيرا على الأقدام من السودان وغينيا بيساو وسيراليون وساحل العاج.
كاتب وإعلامي تونسي