كتب

الوثائقي «إرنست كول: مصوّر»… العنصرية بعين سوداء

الوثائقي «إرنست كول: مصوّر»… العنصرية بعين سوداء

سليم البيك

في ما يمكن أن يكون استكمالاً لفيلمه الوثائقي السابق، «لستُ زنجيَّك» (2016)، وقد استحضر فيه الكاتبَ الأمريكي جيمس بالدوين، كاشفاً من خلاله البنية الامتيازية البيضاء في الغرب والولايات المتحدة، ونضال السود لنيل حقوقهم، في ما يمكن أن يكون استكمالاً لذلك الوثائقي، أتى المخرج الهايتيّ راوول بيك، بعمله الوثائقي الجديد، «إرنست كول: مفقود موجود» (Ernest Cole: Lost and Found)، ويمكن ترجمة العنوان بصياغة فلسطينية، فنقول: الغائب الحاضر. ويمكن اعتماد العنوان الفرنسي للفيلم الفرنسي، وهو ببساطة: «إرنست كول: مصوّر».
ثنائية الحضور والغياب تتكشّف مع الوثائقي، مع تقدم ما يرويه من حياة المصور الجنوب افريقي إرنست كول (1940 – 1990)، غائباً ومغيَّباً في بلده الذي يهاجر منه هارباً، في زمن الأبارتهايد، إلى بلد شاع صيته كبلد أحلام وحريات، ليعيش مأساة فاقت تلك التي عاشها في جنوب افريقيا، ودائماً كصاحب بشرة سوداء، فيقول إنه في حين كان يخاف من الاعتقال في جنوب افريقيا، كان في الولايات المتحدة يخاف من القتل.
الفيلم الذي نال جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي الأخير، استعادَ المصوِّرَ الذي انغمس في التقاط لحظات من يوميات وحيوات المجتمعات السوداء في كل من جنوب افريقيا والولايات المتحدة، والذي عاش ما صوّره، بحياة بوهيمية تماثلَ فيها مع موضوع صوره، فتنقّل بين أكثر من بلد، منها السويد، تاركاً وراءه صوراً وأشرطة نيغاتيف، بُني الفيلم على قصة مجموعة منها. فللمصور المتنقّل، 60 ألف صورة نيغاتيف لم يقم بتحويلها إلى صور، تصفُّ إلى جانب مجموعاته الواسعة، بالأبيض والأسود. قدَّم الفيلمُ هذه الإشارة في بداياته وتقدّم من خلال القصة الشخصية لإرنست كول، وتشرده بين البلدان والبيوت، ليصل أخيراً ومن خلال مقابلات مع ورثته، إلى مآل هذه الصور.
لم يكن غياب المصور طوعياً، فلطالما كان يخشى أن تودي به صوره للمجتمعات السوداء في جنوب افريقيا إلى اعتقاله، فتخفّى وصوَّر بسرّية إلى أن تسلَّل إلى أوروبا والولايات المتحدة التي سيكون، وهو وافد جديد بمهنة وحرفة خاصتين، رجلاً أسود آخر في بلاد لم تكن تخفي ممارساتها، المجتمعاتيّة والمؤسساتيّة، العنصرية.


إرنست كول هو أول مصور أسود نقل ممارسات نظام الفصل العنصري في بلاده، بعين سوداء، عين المضطهَدين، وهو واحد منهم. لم يمارس التصوير تجاه موضوعه من خارج حقل الصورة، كان أقربَ ليكون واحداً من مواضيعه، من الناس المهمَّشين في الشوارع، بل مثالاً نموذجياً لرجل أسود حاضر، بشخصه وجسده، وغائب، وإن حضر، ضمن أنظمة اجتماعية واقتصادية وثقافية عطفاً على السياسية، حصرت الجنوبَ افريقيين والأمريكيين، من أصول افريقية، لا ضمن أحياء وحالات خاصة ومحاصَرة وحسب، بل عمّمت هذا السلوك العنصري الممنهَج، على مساحات مهنية وفنية، استُثني منها إرنست كول الذي وصل إلى اليأس مرّات على طول مسيرته. هي مسيرة أشبه بمحاولات لا تنتهي بالتخفّي والنجاة، بكاميرا وما تيسّر من صور، كأنّ محاولات الحضور هنا، كانت تمرّ من خلال الغياب، فامتلأت حياته بالغياب المتواصل سعياً لحضور ما.
توسّلَ الوثائقيُ الصورَ الثابتة، من تصوير إرنست كول وغيره، كان منها تصوير له، توسّلها لسرد قصّة الحضور والغياب المجدولين ببعضهما. هو أسلوب قديم متجدد في الوثائقيات، قديم بقدم فيلم «الرصيف» (1962) للفرنسي كريس ماركر، كفيلم اختار الصورة الثابتة مع إمكانية المتحرّكة، وكواحد من أكثر الأفلام مرجعية في السينما التجريبية والوثائقية، ومتجدد باستمرارية الحالة التجريبية لهذا الأسلوب السردي. أتى فيلم «إرنست كول: مصوّر» باللقطات الثابتة والكلام المرفق، وكان على لسان المصوّر ذاته، كأنه إلى جانبناً، حاضر تماماً، يقلّب لنا الصور وهو يحكي عن كل واحدة منها.
الفيلم، الوثيقة البصرية على حياة في ظل العنصرية وعتمتها، مكمّل لغيره في مسيرة راوول بيك الفيلمية، فإضافة إلى فيلميه عن إرنست كول وجيمس بالدوين، وهما ثنائي وثائقي مصنوعين بحرفية فنية وانحياز سياسي (وإنساني وتاريخي)، له مسلسل وثائقي بعنوان «إقضِ على كل الوحوش»، وفيه يتناول أوجه الإبادة للاستعمار الأوروبي في العالم، وله فيلم «كارل ماركس الشاب»، وفيه مرحلة التأسيس الفكرية لصاحب «رأس المال»، وأعمال عن الإبادة في رواندا، وعن سلب أراضٍ لسود من أصحابها، وغيرها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب