مقالات

طريق الآلام.. حكايات غزة التي لا تنتهي بقلم يسري الغول -غزة-

بقلم يسري الغول -غزة-

طريق الآلام.. حكايات غزة التي لا تنتهي

بقلم يسري الغول -غزة-

وأنت تسمع القصص، تدرك أن الفلسطيني في غزة ما زال يعيش مرحلة الصدمة، ولم يخرج منها بعد إلى مراحل ما بعد الصدمة الأكثر قسوة. فقد عاد النازحون من الجنوب، وصار كل واحد فيهم يبحث عما تبقّى من أغراضه في سبيل إعداد خيمة أو غرفة لا تتسع لثلاثة أفراد أو أربعة، ولا سيما أنهم عادوا خالي الوفاض، بعدما سمح الاحتلال لهم بعبور شارع الرشيد (البحر) بملابسهم فقط، وبعض حقائب الظهر وأغراض أُخرى يتم حملها على الكتف فقط. وصار جل تفكير هؤلاء الناس استرجاع حاجاتهم المهمة، كألواح الطاقة الشمسية، والأجهزة الإلكترونية، وجِرار الغاز، وغيرها من الأشياء التي يمكن أن تسهل العيش في مكان لا يوجد فيه سوى التعب.

لذلك، طلب مني ابن عمي العائد من خان يونس لوح الطاقة الذي احتفظتُ به لأكثر من عام في شمال غزة، فأعطيته إياه، ثم ذهبت لشراء لوح آخر بثمن يفوق سعر اللوح في أي بلد آخر بعشرات الأضعاف، وكل هذا لشحن بطارية صغيرة نستطيع عن طريقها إشعال النور “الليد”، بدلاً من شحنها بدولارين يومياً، إذ كل شيء ثمنه مرتفع إلاّ حياة الإنسان فقط، فهي رخيصة جداً في غزة.

والمعضلة هي أن اللوح كان في حاجة إلى إصلاح، ولا سيما أنه تعرض للقصف كما البشر، وكان لا بد من دفع مزيد من المال لإنارة المنزل بأي وسيلة، لذلك نصحني أحد الجيران بالتواصل مع شاب قادم من جنوب القطاع، لديه خبرة في تحويل الفولت وزيادة الأمبير، من دون أن أفهم شيئاً من ذلك سوى أن اللوح يمكنه منحي فرصة إشعال الضوء في بيتي القابع بين الدمار في منطقة حي المرابطين، في أرض الغول.

تواصلت مع الرجل واتفقنا على موعد، على أن أذهب إليه في بيته القريب من المخبز بعد انتهاء المهمة العسيرة؛ شراء ربطة الخبز، فقد كنت أصطف في طابور طويل عند مخبز العائلات، وحين انتهيت بعد ساعتين من رحلة النضال في الحصول على ربطة خبز (25 رغيفاً)، التقيته وعانقته بحراره على الرغم من أنني لا أعرفه، حامداً الله على سلامته وعائلته. ولم أكن أعرف أنه فقد السند والركن المتين في العائلة؛ زوجته، كما استشهد ابنه يعقوب الذي كان صغيراً جداً على الموت، وعاش حقبة تفوق الكوابيس جنوناً، وأخبرني خلال الطريق بنزوحه وآلامه وهو يجر دراجته الهوائية أمامه، ويتحدث إليّ وكأنه يسرد سيناريو لفيلم سينمائي.

وقال وهو يرصد حركة المارة: “يوم الأربعاء 22/11/2023، في مدينة دير البلح، حيث الأقارب والأهل يعيشون هناك، كانت أختي هناك أيضاً، وكانت شابة تحب الحياة، وتنبض بالجمال، وتحلم بالسفر إلى فرنسا ومشاهدة الأنوار في باريس، لكنها استشهدت قبل ذلك اليوم، فقُتلت باستهداف في الأيام الأولى من الحرب، فدفنتُها وحدي في تلك المدينة العاقة وَعُدْتُ إلى غزة. لكن الصمود تكلفته كبيرة؛ من الانتظار والترقب لصاروخ لا يعرف الهدف، فيضرب الأماكن عشوائياً. فعلاً، إنه صاروخ غير ذكي، لأنه يقتل الجميلات ويمسح الذكريات حتى آخر رمق، وغزة مدينة الجمال.”

وواصل حديثه بطلاقة: “كنت قد هربت إلى بيت خالي في منطقة الوسطى برفقة أهل زوجتي، فالكل يحتضن الكل، لذلك قرر خالي رحمه الله فتح طبقة كاملة لي ولزوجتي وعائلتها الكبيرة. فعشنا هناك عدة أيام نتابع الأخبار، على أمل أن تنتهي الحرب سريعاً، إلى درجة أن زوجتي كانت تطلب مني، عندما أعلنوا اقتراب التوصل إلى هدنة إنسانية، الذهاب إلى بيتنا وإحضار بعض الحاجات الضرورية، فسجلتها على ورقة واحتفظت بها، إلاّ إنها استشهدت قبل الهدنة بيوم، ولم تعد هناك من أهمية للكلام أو الأغراض.

كنا نائمين، يضمنا الخوف، وأولادي بيننا، في غرفة غير واسعة، والجو العام غير ملبد بالقصف كالليالي السابقة، لكن فجأة، حدث شيء ما زلت لا أفهمه؛ إذ شعرتُ بثقل على جسدي من دون سماع أي صوت، فشعرت بأنني طائر أحلق في الفضاء في مكان أبيض، وذلك عند الساعة الثانية فجراً، ولا شيء معي، حتى صوتي، فجاءنا رجال يسألون إن كان هناك من أحياء في العمارة التي نقطنها، فحاولتُ الصراخ، لكن صوتي لم يكن معي، ثم بعد نصف ساعة، صرخت بكل قوة، ويبدو أن أحدهم شعر بوجودي، لذا شرعوا يهدمون الأعمدة بالمطرقة والوسائل البدائية، ولك أن تتخيل كيف تكون محاصراً بالحجارة والركام، ثم فجأة يضربونك خلال فتح الثقوب لإخراجك، وهذا ما حدث معي بالضبط، فصرخت: ‘لقد ضربتموني‘، فعادوا يضربون العمود من جهة أُخرى، كي أنجو بنصف حياة. فأنا الآن أعاني جرّاء الغضروف وبعض الكسور في ظهري، وكنت أختنق وأشعر بأنني بلا أقدام، إلى درجة أنني تمنيت لو مت، وألاّ أخرج بعاهة دائمة. وحين أزالوا الركام، وجدت ابنتي أسفل قدمي ورأسها غارق بالدم. أكثر من 28 غرزة، والحديد قد اخترق اليد اللدنة الطرية، وبين حجرين آخرين كانت ابنتي الأُخرى ميرفا، لكنها لا تزال على قيد الحياة، أمّا زوجتي لبنى النجار، فقد انتقلت إلى رحاب السماء برفقة طفلي يعقوب، الذي كان أسفل قدمي غارقاً بدمه، على الرغم من أنهم قالوا لي إنه بخير.

حاول رجال الدفاع المدني إخراجي فصرخت، ولم أكن أستطيع الحراك، فالفراش غارق بالزجاج، والقدم متورمة، فصرخت بأعلى صوتي راجياً إياهم العمل بهدوء، وحين أخرجوني، فوجئت بأن المنزل المكون من 6 طبقات أصبح يشبه قطعة البسكويت، وقد دُمر بالكامل ليصير كومة من ركام.”

وبصوت هرِم قبل أوانه كما الأجساد، واصل أحمد يعقوب شاكر عياش (35 عاماً) القصة التي كُتبت بالدم: “كنت أظن أنني استشهدت، وأبنائي حولي غارقون بدمائهم. هل لك أن تتخيل مشاعري في تلك اللحظة؟ أين العالم الذي أتخمنا بالحديث عن حقوق الطفل؟ أين حقوق المرأة؟ أين حقوق الإنسان؟ لقد اكتشفت حينها أن العالم كذبة كبيرة، وأن الفلسطيني ليست له أي قيمة عند العالم، حتى الأمة العربية والإسلامية لا يعني لها الفلسطيني شيئاً، إنه رقم بلا قيمة” ثم بكى، فكانت تطفر الدمعات وتهرب مع الريح بينما يواصل جر الدراجة الهوائية أمامه، ويتحدث عن سكان المبنى، فيصنفهم شقة شقة بأسماء النازحين ومواطن سكناهم هناك، فمنهم مَن استشهد، ومنهم من أصيب، ومنهم مَن خرج سالماً بالصدفة، ثم عاد ليتحدث عن ميرفا وجوان، ابنتَيه اللتين أصبحتا مجرد قصة، ورحلة العلاج الصعبة، ثم البحث عن الطرود الغذائية مع تعسر الوصول إليها بعد الإصابة.

ثم عاد مجدداً للحديث عن الزوجة التي صبرت على مرض الأب، وعن وقوفها معه حين قاتل من أجل انتزاع فرصة عمل تليق به، ثم شراء السيارة التي أصبحت حطاماً بعد استهداف البيت الذي نزحوا إليه في مخيم النصيرات الجديد، وعن أحلامها بإعادة بناء البيت، ودفع تكاليف أرهقت جيبه من أجل الاستقرار في مكان لم يعد موجوداً الآن، وتحديداً بعد اقتحام مستشفى الشفاء في المرة الثانية، وتدمير كل البيوت المحاذية للمستشفى، إذ يقع في تلك المنطقة.

ويناوشني الحديث عن ذكرياته مع زوجته المهندسة لبنى النجار (30 عام)، ويومياته التي تشبه الخيال، بدءاً من شهر رمضان وإعداد الطعام، وعن بهجة العيد، وامتحانات الأطفال وملابسهم وأغراضهم، ودراستها لمادة الرياضيات وشغفها بالأحاجي والألغاز، والحلم الذي رأت فيه عمها المتوفى يطلب منها المجيء إليه لتعرف أنها ستموت عما قريب، والحرب والنزوح، وصولاً إلى النصيرات وليلة القصف.

ظل يتحدث حتى نسينا الطريق، فعدنا إلى الشارع العام، كي نصل إلى بيتي لإصلاح لوح الطاقة الشمسية، وهناك حاولت نزع تلك الأحداث من وعيه بكلام فارغ عن الصبر وقدَر الإنسان المحتوم بالموت، ثم أوصيته بالتعايش مع تلك الأوضاع القاهرة، وكأنني طبيب نفسي، ونسيت أنني لا أستطيع نسيان جدران بيتي واللوحات المعلقة عليها، فكيف بمن فقد العائلة والمسكن والمال؟!

عن المؤلف: 

يسري الغول: روائي فلسطيني يعيش في غزة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب