بداية معركة رئاسة الجمهورية: إردوغان يقصي إمام أوغلو

بداية معركة رئاسة الجمهورية: إردوغان يقصي إمام أوغلو
يبدو أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لا يزال، مستعداً لاستخدام كلّ الوسائل التي تبرّرها غايته السياسية، وآخرها قراره، أول أمس، تجريد رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، من الشهادة التي يحملها منذ 30 سنة من جامعة إسطنبول، ومن ثمّ فتْح القضاء، أمس، تحقيقاً في شبهات فساد ودعم للإرهاب داخل البلدية نفسها، ترافق مع تفتيش واعتقال 100 شخص، من بينهم إمام أوغلو نفسه.
كما اعتُقل رؤساء بلديات كبرى، من مثل شيشلي وبايليك دوزو، إلى جانب العديد من الصحافيين، من بينهم الصحافي المعروف إسماعيل صايماز. وممّا جاء في ردود الفعل الأولى، ما قاله إمام أوغلو عن أن «القرار غير قانوني»، وأنه بحكم «غير الموجود»، مضيفاً: «سأبقى واقفاً بثبات، وأمضي إلى الأمام مثل الأسود. أسلّم نفسي أمانةً إلى الأمّة»، فيما وصف زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، الخطوة بأنها «لطخة سوداء على جبين جامعة إسطنبول والديمقراطية في تركيا، وانقلاب سياسي لن نقبل به».
وإذا كان لا بدّ من وضع التطورات الأخيرة في سياقها، ينبغي التوقّف عند قصة إردوغان مع تعديل الدستور، والتي تعود إلى عام 2014، عندما أصبح رئيساً للجمهورية بطموحات كبيرة:
أولها، نقل الصلاحيات المهمّة من يد رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية؛ وثانيها، التخطيط البعيد المدى ليستمرّ في منصبه رئيساً، عبر التحايل على الدستور.
وهكذا، طرح إردوغان للاستفتاء الشعبي، عام 2017، تعديلات دستورية واسعة تتيح له حصر جميع السلطات في يده، ما استدعى تالياً دعوته إلى انتخابات رئاسية مبكرة، في العام التالي (2018)، فاز فيها مجدّداً، مع فارق أنه اعتبر، هذه المرّة، أن انتخابات 2018 ليست ولاية ثانية بل أولى في ظلّ التعديل الدستوري الأخير، ما يعني منحه نفسه حقاً في الترشّح لولاية ثانية (ثالثة).
وسبقت كلّ ذلك انتخابات بلدية عام 2019، أظهرت إلى العلن شخصية جديدة في الحياة السياسية، هي أكرم إمام أوغلو الذي انتزع رئاسة البلدية من يد «حزب العدالة والتنمية» الذي ظلّ مسيطراً عليها منذ عام 1994، في حين فاز مرشح «الجمهوري»، منصور ياواش، برئاسة بلدية أنقرة، التي كانت بيد الحزب الحاكم، منذ عام 1994.
على هذا النحو، حظي إمام أوغلو بمعركة انتخابية ظافرة وقوية، أحدثت أثراً كبيراً على صورة «العدالة والتنمية»، وعلى إردوغان نفسه، إذ نُظر إلى الرجل باعتباره منافساً أولَ في مواجهة رئيس الجمهورية في انتخابات عام 2023، يمتلك حظوظاً عالية لإسقاطه.
وفيما أدرك إردوغان الموقف، فهو لم يجد صعوبة، في ظلّ سيطرته المطلقة على القضاء، في أن يفبرك لإمام أوغلو، قبل أشهر قليلة من انتخابات الرئاسة في ذلك العام، تهمة «احتقار» القضاء، على خلفية تصريح كان رئيس بلدية إسطنبول انتقد فيه اللجنة الانتخابية، عام 2019، فسارع القضاء إلى فتح ملف غبّ الطلب (لم يُغلق بعد) كان يمكن أن يفضي إلى منع إمام أوغلو من ممارسة العمل السياسي.
وحينها، قرّر «الشعب الجمهوري» ألّا يرشّح إمام أوغلو، خشية أن يُصار إلى إصدار القرار القضائي ضدّه عشية الانتخابات، وأن تفشل الحملة الانتخابية للحزب. وعلى هذه الخلفية، تقرَّر ترشيح رئيس الحزب في حينه، كمال كيليتشدار أوغلو، الذي خسر أمام إردوغان.
ومع أن الفرحة لم تسع الرئيس التركي الذي أُعيد انتخابه لمرة ثالثة، لكنه وجد نفسه أمام معضلتَين: الأولى، هزيمة حزبه للمرّة الأولى في الانتخابات البلدية التي جرت ربيع العام الماضي وحلوله في المركز الثاني بعد «حزب الشعب الجمهوري»؛ والثانية، استطلاعات الرأي التي لا تزال تمنح إمام أوغلو أو منصور ياواش أرجحيّة تصل إلى أربع نقاط، في مواجهة إردوغان، في حال حصلت الانتخابات اليوم، على الرغم من المكاسب التي حقّقها إردوغان على الصعيد الخارجي، ولا سيما سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
يشكّل ما حصل انقلاباً سياسياً على إحدى أبرز الشخصيات السياسية في تركيا
غير أن المعضلة الأبرز أمام إردوغان ظلّت في أنه لا يحقّ له الترشّح لانتخابات 2028، وفق الدستور الحالي. ولذا، هرعت ماكينة عمله بحثاً عن طريقة لتعديل الدستور بما يتيح للرجل الترشّح لولاية ثالثة، وفق حساباته. لكن ذلك يتطلّب تعديلاً دستورياً في البرلمان بنسبة الثلثين (400 من 600 نائب)، أو تقديم مشروع استفتاء يحظى بتأييد ثلاثة أخماس (360) أعضاء البرلمان.
وفي الحالتَين، لا يمتلك «حزب العدالة والتنمية»، مع شريكه «حزب الحركة القومية» وآخرين، العدد الكافي من الأصوات، في حين تبدّى فجأة، بعد نتائج الانتخابات البلدية، أن الطريق إلى تلك الغاية قد تمرّ عبر كسْب أصوات «حزب المساواة والشعوب» الكردي، الذي يمتلك 57 نائباً، وهو عدد يكفي لتعديل الدستور في البرلمان.
ومن هنا تحديداً، جاءت مبادرة زعيم «الحركة القومية»، دولت باهتشلي، وبإيعاز من إردوغان، في الأول من تشرين الأول الماضي، والتي دعا فيها زعيم «حزب العمال الكردستاني» المعتقل، عبدالله أوجالان، إلى أن يوجّه نداءً إلى حزبه، لحلّ نفسه والتخلّي عن العمل المسلّح، وهو ما حصل في الـ27 من شباط الماضي.
ولعلّ النقطة الأهمّ بالنسبة إلى إردوغان، هي نيل دعم نواب «حزب المساواة والديمقراطية» لتعديل الدستور، إذ يعتقد بأن تأييد النواب الأكراد مضمون في حال قدَّم بعض التنازلات لهم، ولا سيما على الصعيد الثقافي واستخدام اللغة في التعليم. لكن، ما الثمن الذي سيقبل به الأكراد مقابل تأييد تعديل الدستور وإتاحة المجال أمام إردوغان (71 عاماً) للترشُّح مرّة ثالثة ورابعة وخامسة؟
وإلى المسار الدستوري، يدرك إردوغان أن حربه الحقيقية، ولو تمّ تعديل الدستور لصالحه، ستكون في مواجهة أكرم إمام أوغلو الذي أعلن نيّته الترشُّح منذ الآن لرئاسة الجمهورية، وبدأ حملاته قبل أسابيع، فيما تمنحه استطلاعات الرأي أفضلية واضحة على إردوغان. ومما يعزز من هذا الهاجس، أن الرئيس التركي لم يستطع بعد أن يجيّر «الانتصار» السوري لصالحه، نظراً إلى أن هموم المواطن لا تزال تقع في السلّة الغذائية والضرائب والتضخّم وانهيار القدرة الشرائية لليرة.
ومن هنا، تُفهم معركة إردوغان الجديدة مع إمام أوغلو، والتي بدأت حين فتح القضاء ملف الشهادة الجامعية التي يحملها الأخير، واعتبر انتقاله من جامعة في شمال قبرص إلى كلية التجارة في جامعة إسطنبول عام 1990، «غير قانوني وتعتريه أخطاء واضحة، والشهادة بحكم غير الموجودة».
وإذ جُرّد إمام أوغلو من الشهادة، فإن القضاء لم يكتف بذلك، بل فتح تحقيقاً، أمس، بحقّ الرجل وأفراد آخرين في البلدية وبعض وسائل الإعلام، ليبدو الأخير أمام احتمالَين:
الأول هو رفض ترشيحه لرئاسة الجمهورية لأنه جُرّد من شهادته الجامعية وهو شرط لمن يريد الترشّح للرئاسة، وبالتالي شطبه من قائمة المنافسين لإردوغان؛ والثاني هو عزله – بقرار من وزير الداخلية – من رئاسة بلدية إسطنبول بتهم الفساد ودعم منظمات الجريمة، وبالتالي تعيين شخص موال للسلطة، يكون عادة المحافظ، بدلاً منه.
وفي الحالَتين، يشكّل ما حصل انقلاباً سياسياً في وضح النهار على إحدى أبرز الشخصيات السياسية في تركيا. انقلاب قد لا يقتصر على إمام أوغلو، وليس موجّهاً فقط ضدّه، بل أيضاً ضدّ «حزب الشعب الجمهوري» وبقية أطياف المعارضة، وهو ما قد تترتّب عليه تداعيات كثيرة، فيما السؤال الرئيسي الآن عمّا إذا كان النواب الأكراد سيقبلون بهذا الانقلاب وبالتهم نفسها، في مرحلة نداء أوجالان؟
الاخبار اللبنانيه