
أينما قلّ الخوف زادت الحقيقة

ناتالي الخوري غريب
في ختام روايته «أين الله» يعلن مكسيم غورغي أنه لا يرى بشرا، بل حطام حياة مدمّرة، غبارا بشريّا يتطاير في الأرض. إنّهم يمجّدون المأساة ليجعلوها على مستوى إلههم. ثم يتعبّدون لها. أصبحنا اليوم كأحداث روايته لا نحسّ في الناس إلا بخوفهم أمام وجه الحياة، «كلّ همّهم كيف يطردون الحزن؟ إنه بعبارة أخرى الخوف من مشاركة الحياة». أراد غورغي أن يبيّن الطريق التي يستطيع الإنسان أن يسلكها للانتقال من الفردية إلى فهم العالم فهما جماعيا. وانّ بطل الرواية سعى إلى غاية مشتركة هي تحرير الإنسان من العبودية الداخلية والخارجية.
اليوم، نعيش حروبا لا تنتهي، وقتلا ودمارا وانتظارا للموت، لا يمكن ترقّب مصدره. أنّى لنا أن نستطيع التحرّر من الخوف لتظهر الحقيقة؟ أينما قلّ الخوف، ازدادت الحقيقة، أنّى لنا أن نحقق ما فعله بطله: «لقد سامحتهم من أجل روحي. فقد كنتُ مثقلا بجبل من الغضب على الناس، لا أقوى على التنفس. ولكن منذ أن سامحتهم زال عن روحي كل همّ»، هل حقّا يمكن للناس أن يسامحوا؟ كيف؟ متى؟ من يجعل الحياة تكفّ عن أن تكون مهرجانا دائما من الدم والتحريض والانتقام؟ هل علينا أن نتقبّل القباحة كصبي بورخيس في كتاب «الرمل» وأن يقبل المرء بهذه الأشياء المتنافرة التي نسمّيها العالم، لمجرّد أنّها توجد معنا؟
الحياة في هذا الشرق جرح لا يلتئم، والجريح هو النوع الإنساني المصاب بإنسانيته. هل نصدّق أمين معلوف في نهاية روايته «التائهون» في حديثه عن لعنة هذا الشرق وبلاء الطائفية التي لا تنتهي؟ هل تخلّى البشر كليّا عن إنسانيتهم؟ أم أنّه الوجه الحقيقي للبشر بلا أقنعة الحضارة، كما أشار إلى ذلك بطل رواية كازنتزاكي في «المسيح يصلب مرتين» حين سأل ياناكوس ميشال: إنّهم وحوش كواسر وذئاب، ليجيبه الأخير: لا، ليسوا وحوشا كواسر يا ياناكوس. بل هم بشر وكفى. وكأن الشرّ ضرورة لنساق إلى أقدارنا. ومتأصّل في جيناتنا. هكذا يصلب المسيح من جديد، دائما كما يروي كازنتزاكي. كان يجب أن يشي به أحد الناس. إن وجود يهوذا شيء ضروري ليتحقّق خلاص العالم، بل أكثر من ضرورة من وجود أيّ رسول آخر. وفي الحقيقة إنّ عدم وجود واحد من الرسل لا يغير شيئا، ولكن لولا وجود يهوذا لما تحقق شيء. يهوذا هو الشخص الثاني في الأهمية بعد المسيح. هي الفكرة عينها التي خلص إليها هرمان هسّه في روايته «دميان» عن أهمية قابيل ودوره. لكنّنا ما زلنا نؤمن بأنّ الخير سيغلب الشرّ يوما ما، لتحقّق العدالة، لكنّنا في عصر النسبية، حتى النسبية الإطلاقية، فمن يحققها ووفقا لأيّ معايير؟ من يسنّ المعايير؟ من يكتب التاريخ غير المنتصر؟ من يردّد الحكاية ويتوارثها؟ متى يستحضرها؟ لأي مصلحة؟
بشاعة العالم في الخارج وفوضاه والتحريض والتحريض المضاد، والعيش في التاريخ ولغة التاريخ التي ما عادت تنفع لليوم، وغياب العدالة، كلها تجعلنا نهرب إلى الروايات، علّنا نعيش في عالم أقلّ عنفا وتعاسة، لعلّ الكلمات تخفف من وطأة العنف وتفلتره قبل وصوله إلى أعيننا وآذاننا. متى ندرك أنّنا أبناء اليوم؟ أبناء الأمس مضوا مع الأمس بأفكارهم، وأبناء الغد يأتي بهم الغد وبأفكارهم. العالم في الخارج فيه من القساة ما يفيض عنه، من يتجرّأ على قول الواقع عاريا مع كل أولئك المترصّدين؟ وإذا صحت قولة غورغي «أينما قلّ الخوف زادت الحقيقة»، هل يريد الناس حقّا أن يصغوا إلى الحقيقة؟ يبدو أنّ الحقيقة لا تناسب أحدا…
أكاديميّة لبنانية