منوعات

هل شاهَدَ والد الرئيس السوري هذا الفيديو؟

هل شاهَدَ والد الرئيس السوري هذا الفيديو؟

راشد عيسى

من بين صور وفيديوهات كثيرة آتية من دمشق، بحلول أول عيد رمضان، بعد فرار الرئيس المخلوع، طَغَتْ صورةٌ، فيديو للرئيس السوري أحمد الشرع يقبّل يد والده أثناء مرور الأخير، من بين مُعايدين كثر على الرئيس في قصر الشعب، وجرى تداولها باستحسان كبير على وسائل التواصل الاجتماعي.
انحنى الرئيس ليقبل يد والده، فبات خبراً (ترند) في مختلف وسائل الإعلام التقليدي والبديل، مع أنها عادة مألوفة عند حشد هائل من البشر، ولكن ليس عند رؤساء أو زعماء تكاد في الأساس لا تعرف مَن هم آباؤهم، فما بالك بمعرفة مدى التقدير والاحترام من الأبناء. ولعل الفيديو كان فرصة لمحاولات حثيثة لاستعادة ما في الذاكرة من صور للآباء، وإن كان هناك، تالياً، صور تجمعهم مع أبنائهم. كل المحاولات باءت بالفشل، وظلّت صورةُ الشرع مقبِّلاً يد والده يتيمة سيّدة المشهد.

هل هناك مكافأة لأب من ابنه أكبر من أن يكون رئيساً!

من شأن هذه الصورة أن تدخل في السيرة الذاتية للرئيس أمام شعبه، الذي لا يزال، ورغم ظلم المقارنة، يُفاضِل بينه وبين سلفه الهارب، المجرم، والعياذ بالله، يقارِن في الأداء، وفي منطق الحديث، في الاتزان، وفي تَصرّفه مع ضيوفه، وقد جاءت الصورة (الفيديو) التي تقصم ظهر المشكّكين: لرئيسنا أبٌ، والأب ليس وحشاً مجهول النسب، فهو باحث له مؤلفات، ويشهد له كثر بعصاميّته ومثابرته. لرئيسنا أبٌ، وفوق ذلك يبحث عن مرضاته، ويقبّل يده امتناناً، أو استغفاراً.
قبل ذلك، صادفْنا من يقرأ في ملامح الرئيس تربية حسنة، يقول إنه «مربّى»، وبالتالي ليس علينا أن نخشى منه ظلماً أو توحشاً، عندما يتكلم السياسيون جميعاً (المخلصون والمجرمون على السواء)، في برامجهم السياسية والانتخابية، عن نشدانهم دولة عادلة لن تستطيع المفاضلة بينهم إلا بمحاولة التماس الصدق. انظر في العينين مباشرة كي تحدد الاتجاه، كي تعرف مقدار الخبث أو الاستعداد للخيانة.
قبل ذلك كنا نَستأنس بالقول «لا تخف ممن يخاف الله»، لكن من المؤسف أن إسلامويين كثراً حطّموا ملاذنا هذا، إذ قد يقول متشدد من بينهم إنه إنما يقتل إعلاءً لكلمة الله، و«من وحّدَ الأرضَ العنيدةَ خارج السيف المرصّع بالحماسة؟»، «لا أحد»، يجيب الشاعر المتجول في أروقة التاريخ. إذاً قد يكون الأمل برضا أبٍ مؤثرٍ أكثر واقعية (من توقع مخافة الله)؛ ليس عليك أن تخشى من يقبّل يد والده طلباً للرضا، والأب هنا ليس طاغية سابقاً، أو محارباً من أي نوع، أو طامحاً إلى السلطة، إنه باحث وحسب، وحتى في مجاله لم نسمع أنه نافس، أو أزاح، أو احتل مكان أحد.
عندما مرّ أمامي هذا الفيديو، قلت لنفسي: ما لي غير والد الرئيس، فإنْ كان الابن قد تجاهل هذا العدد من فيديوهات وصور الانتهاكات في عموم البلاد، وحتى لو أمر بتشكيل لجنة تحقيق هنا، وبالمطالبة بالكف عن خروقات هناك، فهي كلّها لم تصل إلى حد استنفار الدولة لمواجهة المحنة الأخطر التي تمر بها منذ هروب رأس النظام، وقد حسبنا أن فيديو واحداً على الأقل، ذلك المتعلق بأمٍّ قُتل لها ابنان وحفيد وتم إلقاؤهم على الطريق، أن يقيم دنيا الحكومة، فلا تفرغ بعد للفيديوهات المائعة للمؤثرين المعتمدين، أن تعقد محاكم، وعلى الأقل أن تجري حملة تستنكر العنف، لا أن تنكره، أن تعيد تشكيل مناخ يرفض الطائفية والانتقام والثأر. لكن الدولة سارت في طريقها، في احتفالاتها وإنكارها، ولا كأن مجزرة، أو مجازر متنقلة تحدث أمام عيوننا.

حسبنا أن فيديو واحداً على الأقل يمكن أن يقيم دنيا الحكومة ولا يقعدها، فلا تفرغ بعد للفيديوهات المائعة للمؤثرين المعتمدين، أن تعقد محاكم، وعلى الأقل أن تجري حملة تستنكر العنف، لا أن تنكره

الفيديو المقصود، والذي دفعني للجوء إلى والد السيد الرئيس هو لأب ثاكل انتشر بكثرة، وغدت صورته اليوم بروفايلاً لعدد كبير من سكان الفضاء الأزرق. قلت لربما استفز فيديو الأب مشاعر الأبوة لدى والد الرئيس، عسى أن يتحمّل وضع نفسه مكان أب اقتيد أبناؤه أمام عينيه إلى المجزرة.
ظَهَرَ الأب (من قرية الرصافة ريف مصياف) جالساً على حجر أمام جدار فقير هش، ونافذة مستورة بخرقة قماش، رجل نحيل بلحية يكثر فيها الشيب، وبكوفية فقيرة تلفّ رأسه، من دون عقال ولا تطريز، تحدثَ عن مجزرة 7 الشهر (آذار على الأرجح): إجت لعنا مجموعة، عشر أشخاص فايتين بقوة ووحشية. دقّوا الباب..
-خير يا خيي؟
بدأوا ضرباً بالأولاد بأرجلهم وبالبواريد، بعد بطحهم أرضاً، وبالسباب.. قال: «هذا (الولد) الكبير للذبح».
أخذوهم. على الطريق كان هناك مجموعة أخرى (مسلّحون آخرون) أعادت لي الطفل. قلت لهم نحن أفقر عائلة بالضيعة.
الساعة الرابعة دقّوا من موبايل ابني سليمان.
قالوا: «ما عرفت وين ابنك؟»
قلت: «لا».
قال، وكرّرها مرتين: «ابنك بعتنا لك ياه عند حافظ الأسد. وشلنا لك قلبه».
دَلُّوني على مكانه: «روح خود ابنك قبل ما تأكله الكلاب».
رحت، رعب على الطريق، فتت بالحارة، خطيّ ابني متسطح، ضاربينه تلت طلقات بصدره، وشايلين له قلبه (هنا يبكي) غطّيته، رحت لعند ابن عمي، قاتلين ولاده الأربعة. هاي قصة ابني سليمان.
شاهدتُ الفيديو عدداً من المرات، وفي إحداها ظهر الصحافي الذي سجله، وراح يهدّئ من روع الرجل عند بكائه. تعرف كم أن العزاء فارغ، وتافه، وأن لا زيارة المحافظ، ولا اتصال الرئيس، إن حدثا أصلاً، يمكن أن يعوّضا فقيراً معدماً حيلته أرضه، التي يأكل منها، وأولاده، ما فقده.
أدخلُ إلى صفحة والد الرئيس في «فيسبوك»، أجده يدلي برأيه هنا وهناك، في شؤون الدولة الجديدة في سوريا، وفي شؤون فلسطينية، ولا أجد أي أثر للمجزرة، أقول لنفسي لا يجب على المرء أن يعوّل على أي وهم بعد الآن، من قبيل أنهم لا يعرفون ما يحدث، فتلك مسؤوليتهم هم، ليسوا قاصرين عن معرفة الحقيقة. وحتى لو لم تكن المجازر من صنع القوات الحكومية، فهناك المسؤولية غير المباشرة، في القوانين الدولية حتى لو كنتم احتلالاً فإن الأمن مسؤوليتكم، فما بالك أنكم الدولة!

فيما ينحني الرئيس ليقبّل يد أبيه، ينحني أبٌ في قرية الرصافة ليقبّل قلباً لم يعد في مكانه

قال عمر بن الخطاب: «والذي بعث محمداً بالحق، لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب».
تُنقَل هذه العبارة بصياغات عديدة، غير أن الفحوى واحدة، إذ يخشى الخليفة أن يسأل أمام الله عن جمل، شاة، بغلة، ضاعت على الطريق، وفي واحدة من الصياغات سنجد تتمة للعبارة، تقول ما معناه، إنه يخشى سؤال «لماذا لم تصلح لها الطريق؟».
في البلاد الآن انتهاكات لا حصر لها، شتائم وإهانات طائفية، اعتقالات، نهب وحرق، وقتل وتنكيل، وكان قتل بريء واحد يستوجب استنفار العدالة، فكيف بمئات الضحايا.
كل ذلك كان يحدث تماماً في اللحظة التي كان الرئيس يقبل يد والده طاعة وطلباً للرضا، تماماً في اللحظة التي يتقافز فيها الجمهور احتفالاً بالرئيس المرضي.
هل هناك مكافأة لأب من ابنه أكبر من أن يكون رئيساً! اللهم إلا عودة يوسف، النبي، لأبيه يعقوب بعد غيبة أربعين عاماً.
لكن، فيما ينعم والد الرئيس بولد رضي، ينحني ليقبل يده، سينحني أب في قرية الرصافة ليقبّل قلباً لم يعد في مكانه.
كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب