منوعات

«إسرائيل بالعربية»… كيّ الوعي وصهينته!

«إسرائيل بالعربية»… كيّ الوعي وصهينته!

رياض ملحم

نشرت صفحة «إسرائيل بالعربية» على منصّة إكس فيديو بعنوان: «تعلّموا العبرية – كلمات بسيطة عن السلام».

أهمّ الكلمات التي تتعلّق بالسلام بعد الاتفاق على تطبيع العلاقات الكامل بين «إسرائيل» والإمارات. في الفيديو فتاتان، ربّما تكونان جنديّتين، الأولى تقول الكلمة العربية والأخرى تترجمها للعبرية.

هذه الكلمات هي كالآتي: توقيع، اتفاقية سلام، دولة، شريك، أمل، مستقبل، علاقات رسمية، تعاون، شراكة، استقرار، أمان، حمامة. ربّما كانت تنقصهما كلمة غصن الزيتون الذي استمات أبو عمار ألا يسقط من يده، بل الأحرى، ألّا يسقطوه من يده في خطابه الشهير في الأمم المتحدة.

يوظّف العدو الإسرائيلي خبرته التاريخية في تكثيف التطبيع وجعله أكثر متانةً ورسوخاً في المجتمعات العربية. السردية التي تلت توقيع كامب ديفيد تفيد بأنّ المجتمع المصري ليس هو الذي وقّع وطبّع، بل كان التطبيع سياسيّاً أكثر منه اجتماعيّاً، فالمصريّون بشكلٍ عام ـــ كون مصر أولى الدول التي وقّعت، بل أولى الدول التي نادت بذلك على لسان أنور السادات ـــ لم ينفتحوا في علاقاتهم وتعاملهم مع «الإسرائيليين» كما كان متوقّعاً لحظة التوقيع.

ترويض المجتمع العربي

لذلك شكّل هذا عند كيان العدو تطبيعاً غير مكتمل، فثمّة ما هو ناقص ومفقود. ولا ينبغي لذلك أن يدوم ولا يجب أن تحاكي التطبيعات اللاحقة، كل التطبيعاتِ السابقة.

وظيفة الصفحة ليست
نقل ما يجري داخل الكيان لقرّاء الضاد، إنّما الاستخفاف
بمجتمعاتنا وترويضها

فـ«إسرائيل بالعربية» ليست وظيفتها نقل ما يجري داخل الكيان للقرّاء العرب، إنّما الاستخفاف بالمجتمع العربي والاستهزاء به وترويضه، مستفيدةً بذلك من التكنولوجيا ودور المستعربين في حثّ وجذب بعض العرب وفتح مجال للتحدّث معهم عبر وسائل التواصل في التعليقات ومشاركات المنشور، نصّاً كان أم صورةً أو فيديو.

هنا بالتحديد يجب النظر إلى كيان الاحتلال في توظيف كلّ ما أمكنه، من منصّات ومُنصِتين، إلى جنود ومدنيين، وليس انتهاءً بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي بغية الترويج لنفسه باعتباره دولةً طبيعية لها جذورها وحضارتها… ففي عام الذلّ، حين حدث التطبيع الأول بين مصر والكيان، لم تكن ثمّة من إمكانية متاحة لذلك، لا التلفزيون كان يسمح ببثّ ما يريده العدو في بلادنا، ولم يكن هناك كل هذه الوسائل التواصلية التي غرقنا بها بلا «إحم ولا دَستور» كما يقول المثل.

وعليه، لم يكن في وسع العدو أن يجعل كامل كيانه في حالة وظيفيّة تروّج للتطبيع كما لو أنّه مسألة حياة أو موت كما يجري اليوم في بلادنا حيث كلّ ما من شأنه أنْ يجعل «إسرائيل» حالةً طبيعية اليوم، نجده حاضراً أينما ولّينا وجوهنا.

طبعاً، لا يغيب عن بالنا، ولا ينبغي أنْ يغيب عن بالنا أصلاً دور الإسلام التلمودي الوهابي في إعادة إحياء ذلك، بل تسريعه أيضاً.

الترجمة كأداة سياسية

لقد أصبحت الصورة والفيديو واللغة أدواتٍ للمواجهة إلى جانب العسكرة والإعلام. نحن حقّاً بتنا نعيش في عالم الصور الضوئية الإلكترونية المتحرّكة بعد قرون من سيادة الصور الفوتوغرافية والرسوم الثابتة، حتّى إنّ «الفيديو المتلفز» لم يعد كافياً مقابل «فيديو المنصّات» الذي أصبح أكثر قدرةً على ترحيل اللغة المنطوقة إلى حقل الصورة البصرية، بمعنى أنّ العدو الإسرائيلي أكثر إفادةً في ترسيخ تطبيعه في الأذهان لو استمرّ هو في ترجمة الحقل المعجمي للتطبيع من اللغة العربية إلى اللغة العبرية لأنّه لا يكون بذلك على تماس مباشر مع اللغة العربية فقط، ولا يعنيه ذلك، بقدر ما يكون على تماس واضح مع العرب أنفسهم، أي: تحدّثوا بلغتنا أيّها العرب مثلما نتحدّث بلغتكم، تعالوا لنتحاور وننفتح ونجعل الأمر طبيعيّاً. تدرك صفحة «إسرائيل بالعربية» ما للصورة من وظيفة.

لم تعد الصورة بألف معنى كما يقول المثل الصيني، بل صارت بمليون معنى، ونحن في عصر التطبيع الذي يحاول أنْ يتشكّل، صرنا نخضع لها في السرّاء والضرّاء أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فالفيديو المذكور وعنوانه لا يروم التواصل العربي/ العبري فقط، بل يرمي إلى السيطرة على دليل رؤيتنا للصراع، وفي ذلك تتكثّف اللغة حتى تصير صورةً ثمّ تتوالد المعاني السياسية في تضافر المنطوق والمرئي.

وما يؤكّد ذلك هو دلالة الكلمات ذاتها الواردة في الفيديو، فاتفاقية وشراكة وسلام ودولة واستقرار وأمان… كلها دوال تحمل مضامين سياسية. أضف إلى ذلك أنّ الفتاتين، مستوطنتان إسرائيليّتان مستعربتان، وهما بذلك لا تعكسان حركة الترجمة بين اللغتين، بقدر ما تحاولان استخدام الترجمة كأداة سياسية.

هذا عدا عن أنّ الكلمات المستخدمة ـــ وفقاً لما جاء ترتيبها في الفيديو ـــ يشير إلى أنّ هناك جملة أو عبارة مكتوبة أمامهما وهما تفكّانها إلى كلمات مفردة. لنقرأهما مرّة أخرى إذن: توقيع، اتفاقية سلام، دولة، شريك، أمل، مستقبل، علاقات رسمية، تعاون، شراكة، استقرار، أمان، حمامة. ماذا تحاولان القول إذاً سوى: إنّ توقيع اتفاقية سلام مع «دولة إسرائيل» المزعومة يجلب الأمان والاستقرار ويجعل العلاقات بيننا رسمية بصيغة تعاون وشراكة مستقبلية كلّها أمل وسلام؟

يتّضح من ذلك أنّ الترجمة كترجمة ليست المقصودة، ولا تعلّم العبرية هو الغاية، بل الأساس الذي لا أساس غيره، يكمن في العلاقة الجدلية القائمة بين الصورة والمضمون المستتر لها، ويصبح الفيديو بحدّ ذاته نصّاً بليغاً مشبعاً بسيل من الكلمات والرموز، كأنّ هناك حضوراً للنص في الفيديو وحضور للفيديو في النصّ. فالصهينة إذن، وفقاً لما يقول الفيديو ضمنيّاً، ليست حكراً على لغة معيّنة وبالتالي ليست حكراً على متحدّثها كذلك.

فالفيديو موجّه حصراً لمن يحبّ التطبيع في العالم العربي مع إسرائيل، لمن يودّ أن يكون التطبيع أكثر طبيعيّةً ممّا هو مطلوبٌ منه، وقد عبّر الرسّام الإنكليزي موسلر عن هذا في معرض ردّه على امرأةٍ وقفت ذات يوم أمام رسم له يصوّر الطبيعة ناقدةً إيّاه لأنّه يخالف الطبيعة، قائلاً لها: «هو كما قلتِ مخالف للطبيعة، لكن أما كنتِ تودّين أنْ تكون الطبيعة كذلك؟».

موت شعوبنا

في مقابل ذلك، تأتي كلّ الإجراءات التي يفرضها واضعو قواعد النشر على منصّات التواصل الاجتماعي في ما يخصّ أيّ شيء يُنشر ضدّ إسرائيل بحجّة أنّ المنشور يروّج للإرهاب حين يكون المنشور يتحدّث عن المقاومة مثلاً، أو بحجّة أنّ ما نُشر يخالف القواعد التي وافق عليها مستخدمو المنصّات من ناحية ما يتضمّنه المنشور من عنف ومعاداة ضدّ «الآخرين» إلخ.

نتحدّث عن المنع هنا بصفته إجراءً تكمن فيه السياسة القمعية التي صدّعت رؤوسنا بمحاربتها كلّ الأنظمة الغربيّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة التي هي التي تحدّد ماذا يجب أنْ نقول وكيف، نظراً إلى أنّ أرباب تلك المنصّات وأصحابها هم الذين يحدّدون شروط استخدامك للغتك في التعبير وإبراز المواقف.

ماذا كان ليقول ميشال فوكو لو كان بيننا الآن أكثر ممّا قاله في كتابه نظام الخطاب: «إنّنا نعرف جيّداً أنّه ليس لدينا الحقّ في أنْ نقول كلّ شيء، وأنّنا لا يمكن أنْ نتحدّث عن كلّ شيء في كلّ ظرف، ونعرف أخيراً ألّا أحد يمكنه أنْ يتحدّث عن أيّ شيءٍ كان. فهناك دوماً الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه وهناك الطقوس الخاصّة بكلّ ظرف وحدث… هذه هي الإجراءات المانعة التي تشكّل سياجاً معقّداً يتعدّل باستمرار».

الأمر ذاته يتبدّى في البلاد المطبّعة سياسيّاً واجتماعيّاً. ثمّة دوماً رقابة مشدّدة على أيّ تعبير عن موقف يناقض ما تريده الأنظمة الخليجية تحت طائلة المسؤولية، إمّا السجن وإمّا الترحيل، بعيداً هنا من دور القمع الديكتاتوري في تلك الأنظمة، لأنّ سياق الكلام هنا محصور بأنّه حتّى الحديث عن رفض التطبيع يُعدّ أمراً مرفوضاً في الأنظمة الخليجية ولو جاء الرفض مكتوباً في صفحة المرء الخاصّة، بمعنى أنّ الكلام والكتابة أمران مرفوضان في التعبير السياسي. إنْ كانت السياسة تبدأ بالكلام كأيّ فعلٍ إنساني واجتماعيّ، فإنّها في الوقت نفسه لا تخاصم الصمت، بل إنّه قد يكون أحياناً أحد تعبيراتها المتعدّدة.

إذن، بما أنّ «إسرائيل بالعربية» هي نفسها «إسرائيل غير العربية» فكلّ شيء مباحٌ لها في تلك المنصّات: الترويج للقتل والإبادة والسفك والاحتلال والعنف والإرهاب، كلّ هذا لا يخالف الشروط الموضوعة في حقل النشر على منصّات وسائل التواصل الاجتماعية/ السياسيّة في آن واحد، طالما أنّ اسرائيل هي التي تكتب وتبثّ وتحكي وتنشر.

والحال هذه، فإنّ شعوبنا مصابة بـ«السكتة السياسية» التي هي أشبه بالسكتة الدماغية أو الغيبوبة العميقة، فلم يعد «موت الإنسان» أو «موت اللغة» سوى تكثيف لـ«موت الشعوب».

وعليه لم يعد صمت الشعوب تعبيراً عن الرضا والتأمّل والتأهّب، بل أصبح صمت الشعوب تعبيراً عن اليأس والضجر وكظم الغيظ والهروب من العقاب أو الخوف أو حتّى الشكّ في جدوى الكلام.

وعلينا أن نفكّر الآن في الصمت باعتباره برهةً لأخذ الوقت الكافي للتفكير في الانتقام. حين سُئل صامويل بيكيت عن مقصده من الأدب الذي يعلو فيه صوت الصمت، أجاب: «التعبير عن أنّه لا شيء هناك أعبّر عنه، لا شيء أعبّر به، لا شيء أعبّر منه، لا رغبة في أن أعبّر عن شيء، ذلك كلّه مع الالتزام بأن أعبّر».

الاخبار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب