ثقافة وفنون

هل كان مكيافيلي ظالماً أم أنه فقط امتطى النمر؟

هل كان مكيافيلي ظالماً أم أنه فقط امتطى النمر؟

نعيمة عبد الجواد

الحديث عن القوَّة لا يزال محل جدل كبير، وله من الدهاليز المتشعِّبة والملغزة التي لا تزال مصدر حيرة ليس فقط للفرد العادي، بل أيضًا للمفكِّرين والفلاسفة. وهذا الخطاب، بالطبع، لا يستهدف الحديث عن القوة البدنية، التي قد تكون غاشمة وطائشة إذا احتواها جسد بلا فكر سليم. لكن على النقيض، تصبح القوَّة البدنية المصاحبة لجسد صاحبه ذو عقل قويم بمثابة جوهرة التاج البرَّاقة التي تشع أيضًا بوهج القوَّة الداخلية. ولهذا السبب، يحرص رجال الحضارة الروسية والإسكندنافية على إظهار مدى قوَّتهم الجسدية منذ قديم حتى الآن؛ ولعل صفحات التاريخ تذكر أن قيصر روسيا «بطرس الأول» الشهير باسم «بطرس العظيم» (1672-1725) كان يحرص على النزال والسباحة في مياه روسيا الثلَّجية في الشتاء القارس لبيان مدى قوَّته البدنية.
لكن مثار الجدل الحقيقي هو توصيف قوة الشخصية وقوَّة الإرادة وقوَّة العزيمة؛ فعند عرض ووصف كيفية بلوغ ذاك النوع من القوى، اختلف المفكِّرين والفلاسفة. ومن أشهر الفلاسفة الذين ناقشوا هذا النوع من القوَّة كان الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» Friedrich Nietzsche (1844-1900) الذي جعل الذعر يدب في نفوس من يسمع عن نظرية الرجل القوى الذي يصبح «فوق إنسان» Übermensch، أو – كما يتم ترجمة المصطلح – «سوبرمان». وعلى النقيض الآخر، كانت الفلسفة الرواقية تحض على أهمية الفضيلة وأهمية امتلاك عقل راجح يمكِّن من يمتلكه الخروج من المآزق باستخدام الذكاء وقوَّة الشخصية لدرجة تجعل من يلحظه يتَّخذ منه نموذجًا يُحتذى به. وبهذا الشكل، يمكن تقويم المجتمع وتهذيب نفوس أبنائه. وبالنسبة للفلسفة الرواقية، فإن أعظم درجات القوَّة تنبلج في «التخلِّي» عن المظاهر المادية للقوَّة التي تعتبرها «زائفة»، وامتلاكها ليس فقط قد يفسد صاحبها، بل أيضًا يُحدث اضطرابًا اجتماعيًا، وقد يحيل من يمتلكها إلى نموذج يفسد الآخرين.

ويتقابل مع وجهتي نظر «نيتشه» و»الرواقيين» نصائح وفكر رجل السياسة « نيكولو مكيافيلي» Nicolo Machiavelli ( 1469-1527)، الذي لا تزال شهرته تدوِّي عبر العصور، وكأن كتابه «الأمير» The Prince، الذي كتبه عام 1513 وتم نشره بعد خمس سنوات من رحيله عام 1532، تم نشره بالأمس. ولعل السبب الذي جعل من هذا الكتاب أسطورة أعجوبية هو أنه يلامس الجانب المظلم من القوَّة التي يخجل أي فرد من الحديث عنها لانطوائها على أساليب من التلاعب والدهاء تندرج تحت شعار «الشر» أو «الشيطنة». والمفارقة أن الكثير من الكتَّاب المعاصرين، الذين تصدَّرت كتبهم عن تنمية الذَّات قوائم أعلى المبيعات، تضمنت أفكار مخطوطاتهم على نفس المبادئ التي كان ينصح بها «مكيافيلي»، لكنهم يحرصون على عدم ذكر اسمه حتى لا تكتسب منشوراتهم سمعة «مكيافيلي» السيئة.
فالقوَّة التي تدفع الإنسان إلى امتلاك «السُّلطة» بمثابة الوسيلة التي توقظ الوحش الكامن في التفس البشرية. ولقد ناقش هذا الأمر الكاتب الأمريكي المكسيكي الأصل «داتشر كليتنر» Datcher Keltner في كتابه «مفارقة القوَّة: كيف نكسب النفوذ وكيف نخسره» The Power Paradox: How We Gain and Lose Influence (2016)، وشدد على الجوانب المظلمة من السُّلطة، فأوضح أنه عادة ما يبلغ عرش السُّلطة أويصل لسدة الحكم أفراد اشتهروا بكونهم اجتماعيين ومحبوبين، ولهم القدرة على كسب ثقة من حولهم، علمًا أنه تتنوع ألوان السلطة ما بين قيادة شركة أو مصنع أو حتى دولة. لكن ما إن يتمكَّن ذاك الفرد من السُّلطة، تتبدَّل أحواله ويبدأ وحش السُّلطة في الظهور والازدهار بشكل مخيف، لدرجة قد تجعل صاحبها يتحوَّل لوحش مفترس. ولهذا، خلُص «كيلتنر» إلى أن منح السُّلطة لأشخاص، ولو حتى لفترة «وجيزة»، يعمل على تغيير سلوك الفرد الذي تمتع بها. فما يحدث أنه يصبح أكثر أنانية، ويصير كل همه التصرف بطرق تجعله يحقق أكبر استفادة ومكاسب شخصية يعتقد أنها سوف تنفعه فيما بعد، ولو طال الزمان. أضف إلى كل هذا، فإنه أيضًا قد يفقد القدرة على التعاطف مع الآخرين، ويملأه الشعور بأنه في أغلب الأوقات -إن لم يكن في جميعها- لا يجانبه الصواب أبدًا.

ولقد حذَّر من مغبَّة السُّلطة الفيلسوف السياسي الفرنسي «شارل لوى دى سيكوندا» المعروف باسم «مونتسيكو» Montesquieu (1689-1755). وبالنسبة له، منح السُّلطة لشخص ما يعد اختبارًا قاسيًا لكشف خبايا النفس التي قد تكون عالقة في العقل الباطن للفرد دون أن يدري. ولهذا السبب كان يردد: «إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل فضع السُّلطة فى يده، ثم انظر كيف يتصرف». وتبعًا لذاك المعتقد، بنى مونتسكيو أسس فلسفته السياسية على نظام «فصل السُّلطات» الذي صار نظرية يعتنقها مؤسسو القوانين، ونظاماً تعتمده العديد من الدساتير الحالية في جميع أرجاء العالم. وعلاوة على هذا، يعد كتابه «روح القوانين» الصادر عام 1748، الذي أصرّ حينها ألّا يكون ممهورًا باسمه، من أمهات المراجع القانونية التي حظيت باستقبال رائع في بريطانيا والولايات المتحدة، بل وكان تأثيره جليًا حينما كتب الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الدستور الأمريكي، المُطبَّق إلى يومنا هذا. ولهذا السبب، لم يكن من الغريب قط أن يظهر تأثير مونتسكيو على الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة أبراهام لينكولن Abraham Lincoln (1809-1865) حينما كان يردد مُؤكِّدًا: «إذا أردت اختبار معدن رجل امنحه سلطة».
وبما أن القوَّة الذاتية هي مانح طبيع لسُلطة واسعة النطاق، فإن حياة نيكولو مكيافيلي Nicolo Machiavelli تجسيد حي للسُّلطة المهيمنة التي تتلاشى فيها الحدود بين الصواب والخطأ. وبالرغم من جوانبها السلبية، لا يزال يقدِّرها الجميع ويسيرون على منهاجها دون الإفصاح عن ذلك؛ خشية توجيه أصابع الاتهام لهم، وإن كانت تفضحهم تصرُّفاتهم. ومسيرة حياة مكيافيلي تعكس سبب تحوُّله المريب إلى ذلك النموذج.
فلقد ولد مكيافيلي في مدينة فلورنسا بإيطاليا، وهي مدينة لم تعرف الاستقرار في ذاك الوقت؛ فلم تكن إيطاليا حينئذٍ دولة موحَّدة، بل مجموعة من الممالك المُتفرِّقة والمتناحرة. وكانت السياسة في فلورنسا لعبة دامية، جعلت العنف جزءاً لا يتجزَّأ من الحياة اليومية. وغذى تلك الفوضى الصراع الدائم للعائلات الكبرى، التي كان يساعدها في هجماتها الجيوش التي كانت مُجرَّد سلعة تباع وتشترى، ولا تدين بالولاء لأي جبهة سوى مالكها في تلك اللحظة، أي أن امتلاك القوَّة والدهاء اللذين تدفعهما الإرادة القوية، كان وقود العيش وتحصين الذَّات.
كان الشاب مكيافيلي، الذي لم يتجاوز العشرين من عمره في ذاك الوقت، شاهدًا على تلك الصراعات والخيانات والانهيارات المتكررة للسُّلطة، التي تلت طرد عائلة «ديمي ديتشي»، وتوالي سلطات هشَّة سريعة الظهور والانهيار. لكن واتت الفرصة مكيافيلي البالغ من العمر حينها 29 عامًا فقط، حينما تم تعيينه رئيسًا للديوان الثاني، خلفًا لقسيس تم حرقه حيَّاً بتهمة الهرطقة. وكانت مهام منصبه هي تولي الشؤون الخارجية لفلورنسا، وتفقُّد والحفاظ على سلامة أراضيها الخارجية الخاضعة لنفوذها.
شكَّلت رؤية مكيافيلي للحكم الصراعات الداخلية والخارجية؛ وخاصة أن إسبانيا وفرنسا كانتا تتصارعان على الاستحواذ على فلورنسا، ما جلب الدمار والخراب لبلاده. وشهد مكيافيلي عام 1512، دماراً شاملاً لحياته؛ فلقد سقطت السُّلطة واعتلت عائلة «ديمي ديتشي» مرة أخرى حكم فلورنسا. وأما مكيافيلي، فتم القبض عليه وتعذيبه وسجنه بتهمة التآمر، وأخيرًا، طرده إلى الريف.

وعلى عكس التوقُّعات، لم تهن روح مكيافيلي، ولم تكسره الأزمة؛ لكنها شحذت عزيمته وحثَّته على تأليف أعظم أعماله الخالدة منذ عام 1513، كتاب «الأمير». وتطبيقًا لشخصيته التي عكسها في الكتاب، فإن الغرض الأساسي من كتابة -مخطوطة تعليم الدهاء تلك- هو منحها هدية لنفس الرجل الذي أطاح به «لورينزو ديمي ديتشي»، على أمل استعادة منصبه مرَّة أخرى. وحدث بالفعل ما أراد، بعد أن اختبرت رؤوس السُّلطة تأثير تعاليم مكيافيلي. ومن ثمَّ، تحوَّل الكتاب من مجرَّد مخطوطة إرشادية إلى مرجعً لكل من يصل لسدَّة الحكم، وأخيرًا كُتب لمخطوطة «الأمير» البقاء لكونها قنبلة فكرية بمقدورها إحداث تغيير جذري في موازين القوَّة والسُّلطة.
وفي ستينيات القرن الماضي، قام الفيلسوف الإيطالي «يوليوس إيفولا» Julius Evola، المناصر للطبقة الأرستقراطية والمحابي للتيارات اليمينية المتطرفة والنظام الفاشي في إيطاليا، بإيضاح أن العالم دخل مرحلة من الانهيار لا يمكن عكس الأمور فيها؛ وذلك لانحطاط المنظومة الأخلاقية وتفشِّي موجة من الإلحاد قائمة على الإيمان بفلسفة «نيتشه»، واعتناق مقولته الشهيرة بأن الإله قد مات. ولإنقاذ العالم من الفساد والانحطاط، لا يجب الإغراق في التراجع ودفن الذات في القيم الدينية ومحاولة إعادة نشرها، بل محاربة الفساد بجميع الطرق، حتى ولو كانت طرقًا غير أخلاقية، على غرار مقولة «الضرورات تُبيح المحظورات». ولهذا السبب، كتب إيفولا آخر أهم أعماله تحت عنوان «اركب النمر» Ride the Tiger (1961)، ويتضمَّن الكتاب مجموعة من النصائح التي تهدف إلى تحقيق تصالح تام مع النفس من أجل الإمساك بزمام القوَّة والإرادة لمجابهة مصاعب الحياة.

وعنوان الكتاب هو استعارة مُشتقة من أحد التعاليم الهندية البرهمانية، وتعني وجوب محاربة الفساد بنفس الأساليب، تبعًا لشعار العين بالعين. و»النمر» في تلك الاستعارة يعني الفساد والانحطاط. أمَّا محاربته بنفس الأساليب، فتفرض ركوبه من أجل إخضاعه.
ومن وجهة نظر إيفولا، تعد السيطرة التامة على الذَّات واتباع أساليب يشحذها الدهاء هي أساس القوَّة الداخلية، ومن ثم قوَّة الحجة والتطبيق، في ذاك العصر الذي لم تعد فيه التيارات اليمينية قادرة على عكس مسار فساد الحضارة الحديثة. لكن إيفولا نأى بنفسه عن الإنخراط في لعبة السياسة، وإن لم يستبعد تدخله مستقبلًا حينما «يصيب التعب نمر الحداثة من جرَّاء الركض».
ويؤكِّد إيفولا، أنه يجب على المرء أن يبقى ثابتًا ومستعدًا للتدخل في أي لحظة والتصرف بعنف ضد الانحطاط الحديث. وفي تلك اللحظة، يصبح الإنسان كيانًا مهيبًا شديد الشراسة في وجه الأعداء، وهادئًا ومسيطرًا في جميع الأوقات، وعلى وجه الخصوص، في أوقات الأزمات. وتبعًا لذلك، يتحوَّل الفرد إلى نموذج يفوق «السوبرمان» الذي نصح به نيتشه؛ فحينها تقترن القوَّة بالقضاء على أي نقاط ضعف قد تعيق تحقيق الفرد لأهدافه.
ولهذا، تظل إجابة هذا التساؤل المُحيِّر دومًا عالقة: «هل كان مكيافيلي داهية ظالمة وشرسة الأساليب، أم أنه فقط حاول هزيمة الفساد والانحطاط الأخلاقي بركوب النمر؟».

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب