ثقافة وفنون

الجزائر: ماذا تبقى للكاتب من حرية؟

الجزائر: ماذا تبقى للكاتب من حرية؟

سعيد خطيبي

انقضت الأزمة بين الجزائر وفرنسا، بعد قطيعة دامت ثمانية أشهر. فقد دخل البلدان في أزمة هي الأعمق والأطول، والأشد وطأة، منذ أكثر من ستين سنة، سادت فيها تصريحات غاضبة بين الطرفين، وكادت الأمور أن تبلغ نقطة اللا رجوع، ثم تصالحا، أو هكذا يبدو الوضع في الوقت الراهن. لكن نهاية هذه الأزمة لا بد أن تفتح باباً في مناقشة ماذا تبقى من حريات في الجزائر. هذه الحريات التي لم تفتأ تتقلص مساحتها، من عام لآخر. وقد أظهرت الأزمة الأخيرة مع فرنسا، أن هامش الحرية بات على المحك. صارت الحرية الخاصرة الرخوة، وهي العنصر الأكثر هشاشة، حيث لم يعد من السهل أن يغامر كاتب بالخوض في الشأن العام، لاسيما في شؤون السياسة وفي مسائل العلاقات الدولية، من غير أن يتعرض إلى تضييق.
لم يعد متاح له عرض رأي في الشأن العام، من غير أن يتعرض له حرس النوايا، ويلفقون له كل أنواع التهم، من خيانة وعمالة، من غير أي احترام للحق في الرأي أو الاختلاف، من غير أن يدركوا أن الكاتب إنما يعبر عن وجهة نظر فردية، لا تلزم الآخرين الانصياع لها. ويبدو أن الاسطوانة لا تمل من تكرار نفسها، والخطاب واحد يتكرر في كل مناسبة، بحيث يكفي أن يبدي كاتب حقه في الخروج عن السائد والمألوف، فيسمع ما لا يرضيه من كلام. وإذا نجا من تهمة أو من متابعة قضائية، فسوف تنتصب في وجهه وسائل إعلام محلية، وإن نجا منها، فسوف يجد نفسه متورطاً في معركة مع جنود السوشيال ميديا، فقد تكاثرت في السنين الأخيرة صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، يسير في فلكها عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من المتابعين ومن المريدين، وهي حسابات لا تنشغل بنقل معلومة أو تنوير العقول بما يجري من وقائع، بل مهمتها التصدي لكل صوت يخرج عن التيار.

وهي حسابات على فيسبوك أو أنستغرام، لا ترى حرجاً في نشر ثقافة التخويف أو التهديد، ولا ترى حرجاً في نشر صورة كاتب مرفقة بكلام لا يخلو من إساءة أو تحريف في أقواله. فقد بات الكاتب في الجزائر ينام ثم يستيقظ في اليوم التالي، وقد صار وجبة تتناولها ألسنة الناس، يتداولون صورته مرفقة بنعت له بالإرهاب أو الإجرام أو الخيانة. نعم، بات من السهل أن نصادف أشخاصا، يتخفون وراء حسابات مزيفة، يصفون كاتباً بالإرهابي، بينما أتباع لهم يؤيدون رأيه، من غير مساءلة أو تمحيص أو نقد. فقد صار النقد مغامرة غير محسوبة العواقب، من شأنها أن تودي بصاحبها إلى استنزاف نفسي. صارت جيوش على مواقع التواصل تنصب حواجز مزيفة من أجل الإيقاع بأي كاتب لا يوافق رأيه الهوى العام. هذه الحالة جعلت الكتاب يتريثون قبل إبداء رأي، بل الكثير منهم صار يفضل الصمت، لأن الكلام لم يعد متاحاً في الأزمنة الحالية. صاروا ينأون إلى الظل، خشية أن تصيبهم لعنات حرس النوايا، الذين ينشطون مثلما تنشط الميليشيات.  ميليشيات لا تقتل ولا تحمل سلاحاً، لكنها لا تتورع عن زرع الخوف في القلوب، وفي تشويه صورة كاتب، إرضاء لنفسها وإرضاء لمتابعيها الذين يعدون بعشرات الآلاف.
هذه هي الوضعية التي وصلنا إليها في بلاد يتقلص فيها عدد الكتاب، ومن تبقى منهم فقد صاروا يميلون إلى كتم آرائهم، وباتوا معزولين عن الواقع، لأن كل كلمة سوف تحسب عليهم لا لهم. وقد توالت أحداث أخرى، في الأشهر الأخيرة، جعلت من واقع الحريات أكثر هشاشة مما كانت عليه من قبل، لاسيما عندما نسمع ما تعرض إليه ناشرون من تضييق، أو من غلق مكتبة، مما يعزز الشعور بالرقابة الذاتية في أذهان الكتّاب، ويجعلهم غير قادرين على التفكير ثم الكتابة مثلما تمليه عليهم الممارسة الإبداعية.

فقد تراجع الكاتب عن المجازفة بكتابة من شأنها أن تسبب حرجاً لناشر أو صاحب مكتبة، لأن ما نسميه خطوطاً حمرا، قد زاد عددها، وفي الواقع نحن لا نعرف ما هي هذه الخطوط الحمر، فكل واحد يضيف لها خطاً حسب هواه، مرة تكون السياسة خطا أحمر، مرة الدين، مرة التاريخ، والثابت أن كل كاتب بات مكبلاً بخطوط حمر وهمية، ولا يعرف سبيلاً إلى الخلاص منها. فالمؤشر الأكثر تطوراً والأكثر ازدهار، في الآونة الأخيرة، هو مؤشر الرقابة الذاتية. وباتت الكتابة لا تقاس حسب المقدرة على اختراق الممنوعات، بل حسب مسايرة الآراء العامة. يضبط الكاتب حريته حسبما تمليه عليه الجموع، في السوشيال ميديا، فلا يجازف إلى موضوعات قد تجر عليه نتائج عكسية، وتحيله إلى مقعد التشهير على صفحات فيسبوك. لم يعد الكاتب يكتب مقتدياً برأيه ومدافعاً عنه، بل مقتدياً بما يسمعه وما يجري في صفحات تسيرها حسابات وهمية. وصار يبحث عن مسافة أمان تغنيه عن الخوض في جدال أو في تبرير ما يكتب. فالغريب في الحقبة الأخيرة أن كل من يكتب لا يكتفي بإتاحة حرية تأويل للقارئ، بل الكاتب بات ينشر عملاً، ثم يضطر إلى تبرير كتابته، يضطر إلى تبرير نواياه إزاء الميليشيات التي احتلت مواقع التواصل الاجتماعي. يرجو مهادنتها لا الخوض في جدال معها، يود سلامته العقلية لا الانخراط في شد أعصاب. إن هذه الحالة من شأنها أن تؤثر سلباً على الممارسة الأدبية، فلا شيء يحمي الكاتب، بل صارت الإساءة تصل إليه من زملاء له كذلك. لم يعد المجال مهيأ من أجل جدال أو نقاش، بل المساحة متاحة من أجل الالتزام بخيارات الجماعة لا الفرد. ولطالما كان الأدب هو رأس المال في الجزائر، وجوهر حضورها، ولكن عندما يشعر الكاتب بهشاشة الحال، وأنه عار في مواجهة خصوم لا يعرفهم، يتزايدون كل يوم، فلا يمكن أن نرجو أدباً في السنين المقبلة، بل سوف يتحول الأدب إلى بيانات سياسية، في مواكبة الرأي السائد. وبعدما حذر تزفيتان تودوروف من أن «الأدب في خطر»، نظير تغير مناهج تعليمه، فلا بد أن نكرر مقولته وأن الأدب في خطر كذلك نظير التخويف الذي يتعرض إليه الكتاب.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب